حتى لا نظلم الصيرفة الإسلامية

TT

لكي تكون المقارنة عادلة يجب أن تكون الظروف متقاربة، ومن هنا سيكون حديثي عن المقارنة بين الصيرفة التقليدية والإسلامية، والذي سأركز فيه على المقارنة من ثلاثة جوانب هي العمر والحجم والبيئة، فمن حيث العمر لا يمكن المقارنة بين الصيرفة التقليدية التي يتجاوز عمرها ستة قرون حيث ظهر أول مصرف تجاري تقليدي في العالم في عام 1407م وهو مصرف سانت جورج في مدينة جنوا الإيطالية (وفقا لموسوعة الـ«ويكيبيديا»)، والمصرفية الإسلامية التي لا يتجاوز عمرها ثلاثة عقود حيث ظهر أول مصرف إسلامي تجاري في عام 1975م في مدينة دبي وهو بنك دبي الإسلامي. إن هذا الفرق في العمر بين الصناعتين فرق شاسع وبون واسع استطاعت الصيرفة التقليدية عبره أن تبني نظامها المالي وأن تختبر أدواتها ومنتجاتها فتختار الأصلح منها، وقد مرت عليها الكثير من الأزمات المتتالية فصقلتها حتى وصلت لمرحلة النضج المتمثل في استقرار أدواتها ونظمها وتشريعاتها، كما أنها وعبر هذه القرون المتطاولة استطاعت أن تبني لها شبكة من المؤسسات الداعمة لنشاطها الرئيس وهو الوساطة المالية بين أصحاب الفائض والعجز، بحيث تتفرغ له مع اعتمادها الكلي على هذه الشبكة من المؤسسات في تقديم الخدمات الأخرى كالخدمات القانونية والمحاسبية والتكنولوجية والتصنيف الائتماني والتدريب والإعلام والنشر وشركات التصكيك وأسواق المال وغيرها من المؤسسات الأخرى التي تخدم هذه الصناعة وتتخصص فيها، كما مدت شبكة نفوذها داخل مؤسسات صنع القرار فكونت ما يعرف في المصطلح السياسي بـ(اللوبي)، بحيث تأتي اللوائح والتشريعات منسجمة مع مصالحها. ولا شك أن هذا العمر الزمني المديد أتاح لها توليد أجيال من المهنيين المؤهلين القادرين على إدارة هذه الصناعة بكفاءة مهنية عالية مع القدرة على الابتكار والإبداع الناتج عن المعرفة العلمية والخبرة المهنية الدقيقة في هذه الصناعة.

في حين أن عمر الصيرفة الإسلامية قصير، فهي ما زالت في طور التطور والتكوين، حيث تسعى لإنشاء منظومة المؤسسات الداعمة وتأسيس قواعدها النظرية ومعاييرها المهنية وتطوير كفاءتها البشرية لخلق جيل من المصرفيين الذين يملكون المعرفة العلمية والخبرة المهنية لقيادة هذه الصناعة بمهنية واقتدار في جميع الطبقات الإدارية لمؤسسات هذه الصناعة، بحيث يتم توليد أجيال من المصرفيين الإسلاميين يضمنون استمرارها وتطورها، فهي ما زالت تدار في غالب مؤسساتها من قبل الجيل الأول، فلم تجرب تعدد الأجيال بعد، كما أن الكثير من منتجاتها وأدواتها لم تختبر نتيجة لعدم تعرضها لأي أزمة سوى ما تعرضت له الصكوك الإسلامية هذه الأيام من أزمة تمثلت في إخفاق بعض المصدرين في الوفاء بالتزاماتهم، وهو ما يمثل فرصة حقيقية لاختبار القواعد التي تقوم عليها هذه الأوراق المالية المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية واكتشاف مواطن الضعف فيها لمعالجتها، فهي محنة في جوفها منحة، وصدق الله تعالى إذ قال «فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» النساء آية 19. أما من حيث الحجم فلا وجه للمقارنة بين الصناعتين، حيث لا تشكل الصيرفة الإسلامية بمجموع أصولها سوى 1% من إجمالي الأصول المصرفية حول العالم، بل إن الأصول التي يملكها بنك أوف أميركا البالغة نحو 1.7 تريليون دولار وهو أكبر بنك في العالم تتجاوز أصول الصيرفة الإسلامية مجتمعة حول العالم والتي لا تتجاوز تريليون دولار على أبعد تقدير.

ولو نظرنا إلى البيئة القانونية والاقتصادية التي تعمل فيها كلتا الصناعتين لوجدنا أن الصيرفة التقليدية تعمل في بيئة قانونية واقتصادية حاضنة، حيث إن هذه الصناعة هي نتاج لهذه البيئة، فالصيرفة التقليدية هي إحدى منتجات وأدوات النظام الرأسمالي السائد في العالم اليوم ومن ضمن منظومته، في حين أن الصيرفة الإسلامية تعمل وفق قواعد الشريعة الإسلامية التي تتعارض في كثير منها مع مبادئ الرأسمالية وقوانينها، وبالتالي فالصيرفة الإسلامية تعمل في بيئة قانونية واقتصادية تختلف معها، ومن ثم فهي تبذل جهدا مضاعفا للتكيف مع النظام الرأسمالي لتلبية حاجة المسلمين في وجود نظام مصرفي متوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية.

ومن هنا فلا يمكن عقد مقارنة عادلة بين الصناعتين عند إهمال هذه العوامل المؤثرة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه العوامل نجد أن الصيرفة الإسلامية قد سبقت الصيرفة التقليدية بأشواط، فهي تنمو بمعدل أسرع من الصيرفة التقليدية حيث يتجاوز نموها 20% سنويا، في حين لا يتجاوز نمو الصيرفة التقليدية 6% سنويا، فهي من أسرع الصناعات المالية نموا في العالم، كما أننا نجد أنها في الكثير من الدول الإسلامية أضحت تتوسع على حساب الصيرفة التقليدية، ففي دول الخليج يتوقع أن تسود الصيرفة الإسلامية بحلول عام 2015م وفقا لدراسة مركز «أدفانتج»، كما يتوقع دليل الخدمات المالية الإسلامية الصادر عن سلطة مركز دبي المالي العالمي أن تستأثر الصيرفة الإسلامية خلال 10 سنوات بنصف مدخرات المسلمين البالغ عددهم نحو 1.6 مليار نسمة.

ومن ثم، فيجب علينا إعطاء صناعة الصيرفة الإسلامية الوقت الكافي لتطوير أدواتها التي تتناسب مع مقاصدها، بحيث تخلق لها شخصية مستقلة تؤسس لنظام مالي مختلف يتفادى أخطاء النظام المالي الرأسمالي، واعتبار هذه الفترة من عمرها فترة انتقالية ستتجاوزها الصيرفة الإسلامية عند نضجها واكتمال أدواتها.

والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية