الصيرفة الإسلامية حذو القذة بالقذة

TT

عندما حدثت الأزمة المالية العالمية وأخذت الأسواق المالية في الانهيار والمؤسسات المالية الكبرى في التداعي ما بين مفلس وموشك على الإفلاس، كان هناك قطاع مالي ناشئ لم يتأثر بالأزمة تأثرا مباشرا، هو قطاع الصيرفة الإسلامية، وهو ما لفت نظر الكثيرين في ذلك الوقت فدفعهم للمناداة بتطبيق المعايير الإسلامية على الصناعة المالية العالمية لتجنب الأزمات المالية. وقد دفعت الحماسة بعض منظري صناعة الصيرفة الإسلامية وفقهائها إلى الإعلان عن سقوط الرأسمالية العالمية، والإيذان بحلول الصيرفة الإسلامية بديلا عنها. كما نصب البعض منهم نفسه واعظا للعالم في ذلك الوقت، فأخذ في شرح أسباب الأزمة، وبيان أنها ناتجة عن أمور وممارسات حرمتها الشريعة الإسلامية، كالربا وبيع الدين والمتاجرة في عقود المشتقات التي هي أشبه بالميسر. ولا شك أن ما قيل في أسباب الأزمة هو حق لا مرية فيه اتفقت عليه أراء العقلاء في ذلك الوقت. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل كانت الصيرفة الإسلامية عازفة عن استخدام هذه الأدوات لقناعتها بحرمتها ووعيها بخطورتها على الاقتصاد أم لعجزها عن تكييفها في لباس شرعي يستر عورتها ويعطيها الصفة الشرعية التي تحتاجها لتسويقها على عملائها. والجواب هو ما تراه لا ما تسمعه، فها هي الصيرفة الإسلامية تستعد لإطلاق سوق للمشتقات المالية الإسلامية. كما أنه يوجد اليوم الكثير من صناديق التحوط الإسلامية ومؤشر لصناديق التحوط الإسلامية، وهي مرشحة للزيادة في المستقبل متى ما وجدت القبول لدى العملاء. إلا أن من المعلوم لدى كل ذي بصر وبصيرة أن هذه المنتجات وإن كانت في صورتها متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، إلا أن حقيقتها خلاف ذلك، حيث إن العمليات التي تتم خلف هذه العقود هي عمليات تقليدية بحتة، فمن يجري عقد عربون أو سلم في الأسهم مثلا، فهو يقوم بتغطيته بعقد من عقود المشتقات التقليدية، ومن يجري عقد مرابحة لمبادلة سعر المرابحة فهو يغطيه بعقد مبادلة لسعر الفائدة وهكذا. ومن هنا فإنني أتحدى أي مؤسسة مالية إسلامية أن تجري هذه العقود دون أن يكون أحد المصارف التقليدية طرفا فيها.

إن مما يؤسف له أن تجد هذه العقود الهجينة من يجيزها من فقهاء الصيرفة الإسلامية، وهم الذين يدركون كنهها وخطورتها وما تحمل في طياتها من بذرة شيطانية ستجلب الدمار والخراب على صناعة الصيرفة الإسلامية أسوة بالصيرفة التقليدية، حيث إن حقيقة هذه العقود واحدة، وإن اختلفت الصور.

إن على الفقهاء الذين يجيزون مثل هذه المنتجات أن يعلموا أنهم يساهمون في القعود بالمؤسسات المالية الإسلامية عن تطوير أدواتها، بما يحقق مقاصد الشرع ويجلي معالمه ويظهر محاسنه، بعيدا عن السير خلف الصيرفة التقليدية حذو القذة بالقذة، وأنهم بإجازتهم لها يدمرون هوية الصـــــيرفة الإسلامية، ويطمسون معالمها، ويقضــــون على عناصر تميـــــــــزها وقوتها، وهو ما قد يكون هــــــــدفا خفيا على أجنــــــــدة بعض من يطورون منتجات هذه الصناعة.

ومن هنا فإنني أهيب بعلماء الأمة وفقهائها، وهم حراس الدين والعقيدة، أن يهبوا للوقوف في وجه هذه المنتجات بتحذير الأمة منها وبيان عوارها، حيث إن هذا من أوجب الواجبات عليهم، وهو الميثاق الذي أخذه الله عليهم، قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ» (آل عمران: 187). وأن لا يكونوا ممن قال الله فيهم: «فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ» (آل عمران: 187). كما أهيب بالمستثمرين المسلمين إلى ممارسة الانتقائية في الاستثمار، وذلك بتغليب مصالح الشرع على مصالحهم، والنظر في جودة المنتج الشرعية قبل النظر في الربحية، وأن يكثروا من السؤال عن الكيفية التي يتم بها عمل المنتج والخطوات التي يمر بها قبل الموافقة على الاستثمار. الله ولي التوفيق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية [email protected]