الميكافيلية في الصيرفة الإسلامية

لاحم الناصر

TT

عندما تقوم مؤسسة مالية - ما - تدعي أن جميع أعمالها متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية ولديها هيئة شرعية معينة من قبلها تقوم بإجازة منتجاتها وعقودها والرقابة على أعمالها وتدقيقها شرعيا، ثم تقوم هذه المؤسسة عند إخفاقها في الوفاء بالتزاماتها تجاه عملائها بالطعن أمام المحاكم بعدم شرعية هذا العقد أو ذاك، وأنه مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية ولا يتوافق معها، كل ذلك في سبيل التحلل من التزاماتها المبنية على هذه العقود التي صاغتها دوائرها القانونية وأجازتها هيئتها الشرعية، فبماذا يمكن أن يوصف هذا التصرف؟ وما الأضرار التي يمكن أن تنجم عنه؟ وعلى ماذا يدل؟ وما موقف الهيئات الشرعية منه؟ وما مسؤولية الجهات الرقابية منه؟

لا شك أن أقل ما يمكن أن يوصف به هذا التصرف هو أنه تصرف ميكافيلي، أخذا بالمبدأ الذي يقول إن الغاية تبرر الوسيلة، وهو مبدأ لا يقره الإسلام ويعتبره مبدأ غير أخلاقي، حيث إن الإسلام حث على الوفاء بالعقود وعلى الأمانة وعدم الخيانة حتى ولو تعرض المسلم للخيانة. كما أنه حرم الغش والتدليس وحض على الصدق والتبيين. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، المائدة آية (1). وقال تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»، المؤمنون آية (8). وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»، الأنفال آية (27). كما جاءت السنّة النبوية المطهرة مؤيدة لهذه الأخلاق والمبادئ، ناهية عن ضدها، ففي الحديث الذي رواه أبو داوود والترمذي وأحمد، قال صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخُن من خانك»، وقال صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يُعرف به يوم القيامة»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان»، متفق عليه. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه «مرّ على صبرة من طعام فأدخل يده فيه فنالت أصابعه بللا (فيه رطوبة عالية) فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ ثم قال: من غشّنا فليس مني»، أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

إن المصلحة مهما كانت لا تبرر لأي مؤسسة مالية، تدعي أنها إسلامية، الطعن في شرعية العقود والشروط التي قامت بنظمها وأقرتها هيئتها الشرعية، لماذا؟ لأن ذلك يدل على عدم أمانة هذه المؤسسة مع عملائها وشركائها، كما أنه يدل دلالة واضحة على تقديم مصالحها الدنيوية على المصالح الشرعية، فهي بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أنها غير مقتنعة منذ البداية بصحة القرار الشرعي ولكنها قبلته لأنه يتوافق مع مصالحها الآنية، وإما أنها كانت مقتنعة بصحة القرار الشرعي وأن هذا هو حكم الشرع في هذه المسألة ولكنها رأت أن في الطعن بعدم شرعيته مخرجا قانونيا للتحلل من التزاماتها. وكلا الأمرين محرم في الشريعة الإسلامية لأنه في الحالة الأولى قبول بحكم غير شرعي، وفي الحالة الثانية تخلٍّ عن حكم الشرع وقبول بحكم القانون الوضعي المعارض له. كما أن في هذا التصرف حطا من قدر الهيئة الشرعية وضربا لمصداقيتها بإظهارها بمظهر من يقر العقود وهي مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم فإن الأضرار الناجمة عن هذا التصرف على صناعة الصيرفة الإسلامية لا يمكن حصرها ولا يعلم مداها إلا الله، حيث إنها ستضعف الثقة في عقودها ومنتجاتها، كما أنها ستضعف الثقة بالهيئات الشرعية وما يصدر عنها، وسترفع تكاليف المنتجات الإسلامية حيث ستضطر الكثير من المؤسسات التي تتعامل مع المؤسسات المالية الإسلامية إلى الاستشارات الشرعية الخارجية لتدقيق عقودها مع هذه المؤسسات لبيان مدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية من عدمها. كما أنها فوق كل ذلك ستسيء إلى الإسلام حيث تظهره بمظهر مادي متوحش لا تحكمه سوى أخلاقيات الربح والخسارة، مثله مثل الرأسمالية. وقد كنا إلى وقت قريب نظن أن الصيرفة الإسلامية بعد الأزمة المالية العالمية يمكن أن تقدم للعالم الوجه الحضاري الأخلاقي للإسلام.

إن هذه الحادثة وأمثالها يجب أن تكون درسا للهيئات الشرعية في عدم إحسان الظن بهذه المؤسسات والقائمين عليها، وأن تمارس أعمالها بمهنية عالية بعيدا عن العواطف والعلاقات الشخصية والثقة المفرطة في القائمين على هذه المؤسسات، وهو أمر طالما طالبنا به، وأعتقد جازما أنه لن يتغير شيء ما لم تكن الهيئات الشرعية مسؤولة قانونا عن أعمالها. كما أن الجهات الرقابية مطالبة بسن قوانين واضحة غير قابلة للتفسير أو التأويل تحدد بموجبها معالم المؤسسة المالية الإسلامية وواجباتها ومسؤولياتها تجاه عملائها والمستثمرين فيها وهيئتها الشرعية، وإلزامها بما التزمت به ومحاسبتها على تقصيرها في ذلك وتعريضها لعقوبات يحددها القانون، تختلف باختلاف المخالفة، وصولا إلى الشطب وإلغاء الترخيص، وذلك حتى نحمي صناعة الصيرفة الإسلامية من الدخلاء. والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية