الصيرفة الإسلامية بين التقليدية والابتكار

TT

كان المصرف قد بدأ في إطلاق شعاره الجديد، المعبر عن هويته ورسالته، المتضمنة إرساء معايير جديدة لصناعة الصيرفة الإسلامية، بحيث تتوافق مع ما يتميز به القرن الواحد والعشرون من طفرة هائلة في مجال التكنولوجيا واستخداماتها، وتطور غير مسبوق في بيئة الأعمال والفكر الإداري، لقد كانت هذه الرسالة التي تزين مدخل المصرف هي ما دفع رجل الأعمال، ذلك الشاب الطموح لأن يدلف بقدميه ليدخل المصرف، طالبا لقاء المسؤولين عن تمويل الشركات، ليعرض عليهم مشروعه الواعد، وفي ظنه أن المشروع بما يملك من مقومات الإبداع والابتكار في الاستفادة من مخلفات النخيل التي تحرق كل عام دون الاستفادة منها في صورة من صور هدر الثروة الوطنية، مع ما يخلفه هذا الحرق من تلويث للبيئة، بالإضافة إلى ما يحمله من دراسات مالية تثبت جدواه الاقتصادية، كفيلة بإقناع القائمين على المصرف بتقديم التمويل اللازم لهذا المشروع، حيث إنه يتسق مع مضامين الرسالة التي تزين مدخل المصرف، فهو مشروع مبتكر وحديث ويحقق مقاصد الشرع في الاستخلاف وعمارة الأرض واستغلال مواردها الاستغلال الأمثل، بما يخدم المجتمع والدولة المسلمة، ويحقق جزءا من الاكتفاء الذاتي في بعض المجالات، إلا أن إجابة مسؤولي المصرف كانت مخيبة لظنه بما حملته من رفض للتمويل بدعوى أن المشروع حديث وليس له سابقة ومثل هذه المشاريع لا يمولها المصرف، هذا الرفض لم يحتج من مسؤولي المصرف سوى دقائق معدودة، هي الدقائق التي استغرقها العميل في شرح فكرة المشروع.

في الوقت نفسه نجد أن مسؤولي المصرف، الذين رفضوا تمويل هذا المشروع، القائم على الابتكار والإبداع، يسارعون في إعطاء الموافقة على تمويل المشاريع العقارية التقليدية، نظرا لأن هذه المشاريع مألوفة لديهم، ويعرفون جميع تفاصيلها.

إن هذا المصرف ليس بدعا في تصرفه هذا، بل تكاد تكون جميع المصارف الإسلامية على هذا النحو من تفضيل تمويل المشاريع التقليدية على المشاريع القائمة على الإبداع والابتكار، ولذا نجد أن المصارف الإسلامية تشكو من تركز للتمويل في بعض القطاعات دون بعض، وعلى وجه الخصوص، القطاع العقاري الذي تهاوت أسعاره في المنطقة بعد الأزمة المالية العالمية، وما زالت مرشحة لمزيد من الهبوط في بعض الدول، وهو ما ألحق ضررا بالغا بصناعة المال الإسلامي ومؤسساته، حيث تعرضت الكثير من الصكوك للتعثر، ومن لم يتعثر منها فإنه يسعى لجدولة استحقاقاته، كما تعرضت الكثير من المؤسسات المالية الإسلامية لخسائر، أو على الأقل لهبوط في الأرباح، نتيجة تجنيبها الكثير من المخصصات، لمقابلة حالات التعثر المحتملة في القطاع العقاري.

لقد أثر انحياز صناعة الصيرفة الإسلامية للقطاعات التقليدية، وتركزها على وجه الخصوص في الجانب العقاري، مع قلة تنوع أدواتها التمويلية والاستثمارية، بصورة سلبية على سرعة تعافي هذه الصناعة من آثار الأزمة المالية العالمية، مقارنة بصناعة الصيرفة التقليدية، التي بدأ كثير من مؤسساتها في العودة لتحقيق الأرباح وبشكل خالف الكثير من التوقعات، ومن ثم فإنه يجب على صناعة المال الإسلامي البعد عن التقليدية، والسعي للتجديد والابتكار في أدواتها ومنتجاتها، مع تبني المشاريع الإبداعية والانحياز لها، لما فيها من هامش ربح ممتاز، ولما يحققه هذا النوع من المشاريع من مقاصد شرعية عظيمة. كما أن الابتكار والإبداع يتناسب وطبيعة أدوات الصيرفة الإسلامية القائمة على المشاركة وتحمل المخاطرة، مقابل استحقاق الربح، فالقاعدة الشرعية تنص على أن الغنم بالغرم وأن الخراج بالضمان.

إن هذه الأمراض التي تعاني منها الصيرفة الإسلامية من ميل للتقليدية وبعد عن الإبداع والابتكار، مع أنه يخالف طبيعتها كما أسلفنا، ناتج من وجهة نظري عن كون قيادات هذه الصناعة الممسكة بزمام مؤسساتها هي قيادات ذات خبرة تقليدية غير مؤهلة في جانب الصيرفة الإسلامية، أو ذات تأهيل ضعيف، وهو ما جعل هذه القيادات تجنح للتقليدية، بحكم أن الإنسان عدو ما جهل، كما أنهم يفتقرون للمحفز على الإبداع والابتكار في هذا الجانب، وهو الإيمان بهذه الصناعة ورسالتها ومبادئها، فهي من وجهة نظرهم لا تعدو أن تكون أسلوبا وأداة من أدوات التسويق لتحقيق الأرباح، ومن ثم فتحقيق مقاصد وغايات الشرع ليست في أجندتهم أو من ضمن اهتماماتهم.

* مستشار في المصرفية الإسلامية