باحث شرعي: تطبيقات التأمين المعاصرة تحتاج إلى إعادة نظر بمسألة الفائض التأميني

أكد أن نموذج التأمين الإسلامي قابل للتطبيق ويتميز بقدر كبير من الكفاءة والفاعلية

د. محمد القري
TT

كشفت ورقة بحثية جديدة عن ضرورة إعادة النظر في مسألة الفائض التأميني، من حيث معايير احتسابه وأحكامه وطريقة توزيعه في التطبيقات المعاصرة، وأثر ذلك على مشروعية نظام التأمين التعاوني.

وبينت أن نموذج التأمين الإسلامي واضح المعالم قابل للتطبيق ويتوافر على قدر من الكفاءة والفاعلية، إلا أن العنصر الذي لا يزال يعاني منه مسألة العجز والفائض في وعاء التكافل، فيما يتعلق بمن يستحق الفائض أو من يتحمل تبعة سد العجز إن وجد.

وتناولت الورقة التي أعدها الباحث الدكتور محمد علي القري أستاذ الاقتصاد الإسلامي وعضو الهيئات الشرعية في بعض البنوك الإسلامية، ويستعرضها ملتقى التأمين الثاني الذي تنظمه الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل، الذي تنطلق فعاليته اليوم في الرياض، نماذج عمل شركات التأمين، ووجود العديد من نماذج التأمين أشهرها التأمين التجاري الأكثر انتشارا.

وأوضح الباحث أنه في التأمين التجاري تقوم شركة تجارية بضمان تعويض حامل البوليصة عما يقع عليه من ضرر بسبب حادث معين بحد مبلغ متفق عليه وتحصل الشركة مقابل هذا الضمان على أجرة، فيما يكون الفائض بعد دفع النفقات والتعويضات حقا لملاك الشركة (حملة الأسهم) والنقص يسد من رأس مال الشركة الذي هو ملك لحملة أسهمها. أما التأمين التعاوني، بحسب الباحث، فتقوم به شركة مسجلة يكون حملة الوثائق (المؤمن لهم) هم ملاك تلك الشركة، فكل من أنشأ وثيقة تأمين يصبح في الوقت نفسه مالكا لحق في هذه الشركة. ويقوم عليها مجموعة من الموظفين الذين لا يملكون فيها شيئا وإنما يديرونها ويحصلون مقابل ذلك على رواتب كسائر الموظفين.

وفي هذه الحالة يكون الفائض إذا تحقق من نصيب حملة الوثائق لا باعتبارهم مستأمنين بل باعتبارهم ملاك الشركة. ولسد العجز في حال وقوعه طرق ليس هذا مجال بحثها أهمها الرجوع على حملة الوثائق بزيادة الرسوم.

وفيما يتعلق بالنموذج المشتهر باسم التأمين الإسلامي أو التكافل، فقد جمع بين النموذجين كما أفاد الباحث، مبينا أنه من جهة هو شركة تجارية لها حملة أسهم وملاك يقدمون رأس المال وينتظرون الأرباح في نهاية كل عام. وفي الوقت نفسه فإنه يرى أن مهمة هذه الشركة ليست ضمان التعويض وإنما إدارة عمليات التأمين والاستثمار للأموال الموجودة في وعاء التكافل وهو الوعاء الذي تجتمع فيه اشتراكات حملة الوثائق.

وقال الباحث إن نموذج التأمين الإسلامي واضح المعالم قابل للتطبيق ويتوافر على قدر من الكفاءة والفاعلية، إلا أن العنصر الذي لا يزال يعاني هو مسألة العجز والفائض في وعاء التكافل، ومن يستحق الفائض ومن يتحمل تبعة سد العجز إن وجد.

وكشف الباحث عن مآخذ كثيرة على التأمين التجاري من الناحية الشرعية، مبينا أن المأخذ الأساس هو أن عقد التأمين التجاري عقد معاوضة يدفع المؤمن بموجبه «ثمنا» مقابل التزام شركة التأمين تعويضه عن الضرر في حال وقوع المكروه المؤمن ضده كالموت والعجز واصطدام السيارات.

إلا أن الباحث أوضح أن عقد المعاوضة في هذه الحالة يشوبه الكثير من الغرر الذي يفسد عقود المعاوضات، مضيفا أن الغرر في المعقود عليه هي العوض المستحق للمشترك، مؤكدا أنه لا سبيل لنزع الغرر من التأمين أو إلغائه لأن التأمين بطبيعته يتعلق بأمور احتمالية تقع في المستقبل الذي هو في علم الغيب.

وبناءً على ذلك يرى الباحث أن المخرج الذي تبناه الفقهاء المعاصرون وصدرت به قرارات المجامع الفقهية، للخروج من هذا الحرج هو نقل عقد التأمين من مجال المعاوضات التي يفسد عقودها الغرر إلى مجال التبرعات، موضحا أن المالكية يجعلون الغرر مفسدا لعقود المعاوضات دون عقود التبرعات، مشيرا إلى أن المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي أخذ في قراره بشأن التأمين بشتى صوره بهذا الرأي.

وأضاف الدكتور القري أنه لما كان ما يدفعه المشترك ليس ثمنا مع عقد معاوضة ولكنه مبلغ يدفعه على سبيل التبرع لصندوق التكافل لم يكن الغرر المحيط بهذا العقد مفسدا له بحكم كونه من التبرعات وليس المعاوضات.

وبناء على ذلك يقوم نظام التأمين التعاوني، بحسب الباحث، على وجود مجموعة أشخاص يلتزم كل منهم بدفع اشتراكات دورية تودع على سبيل التبرع في صندوق له ذمة مالية مستقلة، تديره شركة تأمين متخصصة في هذا المجال تدير هذا الصندوق على سبيل الوكالة بأجر فتحفظ الأموال الموجودة فيه وتحدد بناء على خبرتها في الحسابات الاكتوارية الخطر وما يقابله من تعويض وتستثمر الأموال لصالح المشتركين وهكذا. ثم يجري من قبل الشركة تعويض كل مشترك (حامل الوثيقة) من ذلك الصندوق عن الضرر الواقع عليه بفعل حدث محدد في وثيقة التأمين وبالشروط المتفق عليها بين المشترك والشركة. ويسمى هذا الصندوق «صندوق التكافل»، (أو وعاء التكافل).

ويرى الباحث أن هذا الهيكل لعمل شركة التأمين التعاوني مبني (وإن لم يكن مطابقا كما يعتقد) على ما ورد في القرارات المجمعية بشأن التأمين الصادرة من هيئة كبار العلماء في السعودية والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي والمجمع الفقهي الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي.

وأبان البحث أن صندوق (وعاء) التكافل، يمثل قلب نظام التأمين التعاوني الإسلامي، فإليه تورد جميع الاشتراكات ومنه تتم صرف التعويضات للمشتركين، وتتكون موارد صندوق (أو وعاء) التكافل من مبالغ الاشتراكات التي يقدمها حملة الوثائق (أقساط التأمين) وهي المصدر الأساس للأموال في هذا الوعاء، واحتياطيات الحساب المتراكمة، على مدى السنوات السابقة، بجانب عوائد استثمار الأموال في الصندوق للفترة الحالية والتعويضات والعمولات الواردة من معيد التأمين، إذا كان هناك معيد للتأمين وهو الحالة الغالبة، بالإضافة إلى الاحتياطيات النظامية المفروضة من قبل الجهات الإشرافية، والتعويضات المستردة، والقرض الحسن من المدير في حال وجود عجز في الوعاء.

وبحسب الباحث فإن مصروفات الوعاء تكون من مبالغ التعويض التي تدفع لحملة الوثائق، وهي تمثل الجزء الأساس من النفقات، وكذلك رسوم الإدارة التي تتقاضاها شركة التأمين (المدير). وفي بعض التطبيقات يجري اقتطاع الرسوم الإدارية فور تسلم مبلغ الاشتراكات وقبل توريدها في الوعاء، بالإضافة إلى الرسوم التي يتقاضاها مدير الاستثمار في عملية استثمار أموال الوعاء، وأقساط إعادة التأمين، والمصروفات المباشرة المتعلقة بالصندوق مثل مصروفات مراجع الحسابات ونحوها، والفائض الموزع في حال وجوده، وأقساط رد القرض الحسن (إن وجد)، وأخيرا نصيب الوكيل من أرباح الاستثمار (إن وجد).

وقال القري، إن الأصل في صندوق التكافل أن يكون متوازنا، يعني أن تساوي إيراداته مصروفاته، موضحا أن هذا التساوي يتحقق نتيجة دقة تحديد مبلغ الاشتراك من قبل القائمين على الشركة بناء على الحسابات الاكتوارية وعمل خبراء التأمين، بحيث تكفي موارد الصندوق لدفع التعويضات والمصاريف الإدارية بدون زيادة ولا نقص.

وأقرّ الباحث أنه لوجود الفائض أسباب، منها مهارة عمل خبراء التأمين وقدرتهم على قياس المخاطر بشكل دقيق، كذلك نجاح المدير في ضغط المصروفات يؤدي إلى تحقق فائض في الصندوق، بالإضافة إلى توظيف أموال الصندوق في استثمارات ذات عائد متميز ضمن مستوى المخاطر المسموح به، كان ذلك مظنة تحقق فائض، في ظل إيجاد طريقة تحديد مبالغ الاشتراكات، مبينا أنه إذا حددت الاشتراكات عند الحد الأعلى كان ذلك حريا بإيجاد فائض في نهاية الفترة.

ومع ذلك أقرّ الباحث أنه في حالة تحقيق فائض لا يستطيع أن يحدد لمن يكون هذا الفائض، إلا بعد تحديد الوضع القانوني لصندوق التكافل، وبخاصة الجهة المالكة للصندوق، مشيرا إلى أنه للوضع القانوني لصندوق التكافل جوانب بعضها مما اتفق عليه خبراء التأمين التعاوني وبعضها هو محل اختلاف بينهم وتباين في الرأي.

أما المتفق عليه بحسب الباحث، فهو استقلالية الصندوق المذكور عن الشركة المدير من حيث تمتعه بذمة مالية خاصة به يتحمل بموجبها الالتزامات ويمتلك الحقوق، ولا يؤثر على هذا الاستقلال، موضحا أن الصندوق في أكثر التطبيقات لا يتمتع بالكيان القانوني المستقل عن الشركة، (وإنما يدار على صفة حساب لدى الشركة المدير).

وعدّ الباحث هذا الاستقلال المالي، بأنه أحد المعالم الرئيسة لنظام التأمين التعاوني، مشيرا إلى أن صندوق نظام التأمين التقليدي، لا يستقل ولا ينفصل عن أموال ملاك الشركة (حملة الأسهم)، فذمة الصندوق باعتقاده مضمومة إلى ذمة الشركة، والالتزام بالتعويض مضمون برأس مال الشركة نفسها.

وأشار الباحث إلى أنه في حالة التأمين التعاوني، فالمخاطر يغطيها الصندوق وليس أموال حملة الأسهم للشركة المدير، أما الجوانب التي هي محل الاختلاف في الرأي بين خبراء التأمين التعاوني فهي متصلة بعلاقة المشتركين بهذا الصندوق.

وقال الباحث إن الاختلاف بين الباحثين في هذه المسألة وقع على عدة آراء. فالرأي الأول بحسب الباحث، أن ما يدفعه المشترك إلى الصندوق هو «تبرع» بمعنى أنه ليس «معاوضة» ولا ثمنا في عقد بيع، وهذا التصور له أهمية بالغة بل هو القاعدة التي بني عليها نظام التأمين التعاوني «وإلا كيف يمكن القول بأن الغرر غير مفسد للتأمين التعاوني بدون أن يجري نقل العلاقة التعاقدية فيه من المعاوضات إلى الإرفاق والتبرع».

وأضاف الباحث، أنه كثرت المآخذ والاعتراضات على هذا التصور حتى صار مثارا للسخرية، وأشار إلى أنه تفرع عن هذا المقال المعترض على فكرة التبرع رأيان؛ الأول انتهى بأصحابه إلى القول بأن لا فرق بين التأمين التعاوني والتجاري، إذ إن حقيقة ما يدفع هو ثمن للالتزام يدفعه المستأمن مقابل التزام الشركة بتعويضه عن الضرر في حال وقوع المكروه، وإن سمي تبرعا فحقيقته المعاوضة.