بين مغريات الاستثمار والانزلاق في الديون.. بماذا ينصح الاقتصاديون؟

ملتقى اقتصادي يوصي بتشكيل مؤسسة تكافل وقفية لحفظ المجتمع من ويلات الاستدانة.. ويطالب بوقف الإقراض المركب

جانب من ملتقى «مشروع معالجة الديون» الذي احتضنته العاصمة السعودية الرياض نهاية الأسبوع الماضي، وشهد تفاعلا كبيرا وتحذيرات من تكاثر الديون وتداعياتها (تصوير: مسفر الدوسري)
TT

بين المغريات الاستثمارية ومغبة الانزلاق في الديون وتبعاتها على الاقتصاد، يجد علماء شرعيون وآخرون مصرفيون طرقا مثلى للتعامل مع هذه الحالة، من خلال التخطيط الاستراتيجي الذي يبدأ ببيان آثار الديون على المجتمع والاقتصاد، وتنمية مهارات الأفراد للوقاية من الوقوع في وحل القروض، مؤكدين أنه لا يمكن أن ينجح أي اقتصاد من دون تقديم قروض مجانية أو ميسرة، مستدلين في ذات الوقت بدول غربية خفضت الفائدة إلى «الصفر» بعد الأزمات الاقتصادية الأخيرة.

جاءت هذه المناقشات خلال فعاليات ملتقى متخصص في الاقتصاد الإسلامي، خرج بحزمة من التوصيات؛ شددت في بعضها على ضرورة إصدار توجيهات صارمة من الجهات المعنية لإيقاف الإقراض بالفوائد المركبة على وجه السرعة، ومطالبة المؤسسات والشركات والبنوك المركزية بالالتزام الأخلاقي تجاه العملاء وتطبيق نظام المسؤولية الاجتماعية الحقيقية، مع ضرورة أن تنحى منحى القرض المجاني حال المتطلبات الضرورية لدى المدين.

وطالب نخبة من علماء الشريعة والباحثين في المصرفية الإسلامية، خلال مشاركتهم في ملتقى «مشروع معالجة الديون الشخصية»، الذي اختتم فعالياته في العاصمة السعودية، الرياض، الخميس الماضي، البنوك بالالتزام بالإفصاح عن الرسوم الإدارية، التي يتعمدون إدخالها ضمن الأرباح إلى مستوى يمثل 50 في المائة من العملية البنكية، الأمر الذي أبرز ظاهرة ما يعرف بالسوق السوداء للقروض، وجعل منها بعبعا مخيفا وخطيرا على العميل، عاجلا أو آجلا.

وحذر المشاركون في الملتقى الدائنين من الانزلاق في وحل المغريات الاستثمارية التي تطرحها المؤسسات والشركات للناس، بغرض إغراقهم بالديون، داعين الجهات المعنية بضرورة توعيتهم وتحذيرهم من مغبة الإغراق في الديون، مع أهمية بيان آثار الديون على المجتمع والاقتصاد المحلي والدولي، من خلال التخطيط الاستراتيجي لوقاية المجتمع من الديون ومكافحة أسباب الفقر، مع تنمية مهارات أفراد المجتمع للوقاية من الديون، بالإضافة إلى تنمية مهارات أفراد المجتمع لمعالجة الوقوع في الديون بالأسلوب الأمثل.

ودعا عدد من أساتذة وخبراء الاقتصاد الإسلامي إلى ضرورة تأسيس مركز متخصص بدراسات الاقتراض الفردي، تمييزا له عن الاقتراض المؤسسي أو الاستثماري، ما من شأنه المساهمة إلى حد كبير في توعية المجتمع وترشيد عملية الاقتراض وتوجيهها نحو زيادة المنفعة الفردية للمقترض وللجهات المقرضة وللمجتمع ككل، حتى تكون حرزا للعملاء من الوقوع في المخاطر المترتبة على الديون التي تتعثر بسبب أو بآخر.

وكان من بين المشاركين في فعاليات الملتقى الذي نظمته مؤسسة الأميرة العنود الخيرية، بالتعاون مع الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل الخيرية، الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، الذي أكد أن الديون الشخصية أصبحت مشكلة عالمية اكتوت بنارها الكثير من دول العالم، مشيرا إلى أن تأثير هذه الديون يعد ذا أثر متبق سالب، ويبقى لمدة طويلة يعيشها الدائن، سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو دولا، وفق ضمانات مورطة أكثر منها مخلّصة.

وقال بن منيع إن الكثير من الدول المتقدمة ما زالت تحترق بوطأة الديون، مثل اليونان وإسبانيا وغيرها من دول العالم الأخرى.

ولفت بن منيع إلى أن الملتقى يعتبر أحد المنابر التي تهتم بالتفكير والتخطيط لكيفية الشروع في معالجة مشكلة الديون الشخصية، مبينا أنه يبين مدى الحرص على حماية مصلحة المسلمين من خلال تقديم المناصحة والإرشاد، مع التبصير ببعض أطروحات حل مقترحة لهذه المشكلة.

ودعا بن منيع إلى ضرورة إصدار أوامر تعنى بسن تشريعات وأنظمة تحد من الديون، موضحا أن ذلك يقع تحت عنوان «مصلحة المسلم»، التي تدفع ولي الأمر للتدخل من خلال أمر يسهم في الحد من الوقوع في براثن الديون المنهكة، وتسهم في نفس الوقت المسلم بمغبة وخطورة الديون مستقبلا.

من جهته، حذر الدكتور سامي السويلم، مدير إدارة تطوير المنتجات المالية الإسلامية في البنك الإسلامي للتنمية، من مغبة ارتفاع حجم القروض الشخصية، التي تجاوزت بحسبه 180 مليار ريال (48 مليار دولار)، في ظل الوضع الراهن، الذي يفتقد فيه المستهلك لأبسط أنواع التوعية بخطورة الدين غير المؤطر بصبغة معيارية شرعية سليمة.

ولفت السويلم إلى وجود خلل واضح في ميزان توزيع القروض ذات الفائدة المعدومة، التي تصل لنسبة الصفر، موضحا أن هناك بعض التجارب التي أخذت تتبع هذا الطريق في البلاد الغربية، بحيث إن القروض المجانية تزيد بحجم ضئيل لا يوازي الحجم المالي للناتج المحلي المعين.

وبين السويلم أن التجارب المكشوفة الآن في سوق الدائن والمدين، تبرهن على أن البنوك المركزية تقدم قروضها المجانية للمؤسسات المصرفية بنسبة فائدة تصل إلى الصفر، غير أن هذه المؤسسات تقرض مديونيتها من هذه البنوك المركزية للعميل بفوائد مرتفعة، أو تحاول أن تشتري بها سندات حكومية بشكل فيه كثير من الاستغلالية غير المعلنة للعامة.

ومع إقراره بالجهود التي تبذلها مؤسسة النقد العربي السعودي في هذا الاتجاه، من خلال محاولة ضبطها لمسألة الإقرار، فإنه اعترف بمحاولات التفاف على الأنظمة من قبل المصارف والمؤسسات المالية، الأمر الذي يتطلب العمل على تشريع المزيد من القيود التي من شأنها تفعيل عاملي الشفافية والإفصاح، معتقد أن ذلك لا يمكن حسمه إلا من خلال أمر صادر يوقف الإقراض غير الشرعي أو ذا الفوائد المركبة.

وطالب السويلم بضرورة طرح القرض المجاني من قبل هذه المؤسسات والمصارف، كنوع من البر والتواصل بين المجتمع، الذي من شأنه أن يشجع على تقوية ثقافة الدين بلا فوائد، كعمل شرعي يقع تحت إطار المسؤولية الاجتماعية، مشيرا إلى أن الكثير من رجالات الأعمال والإحسان في المجتمع لديهم الرغبة في تفعيل هذه الثقافة وتقديم القرض الحسن بلا فوائد.

وتابع السويلم: «هناك قول بأن القرض الحسن يدخل في باب الزكاة، بحيث لا تجب الزكاة على مقدم القرض الحسن»، وهو ما أيده الشيخ ابن منيع، الذي أكد أن هناك قولا بأن من أقرض مرتين قرضا حسنا فكأنما تصدق.

وأفاد الدكتور السويلم بأنه لا يمكن أن ينجح أي اقتصاد من دون تقديم قروض مجانية أو ميسرة، مستدلا بذلك على دول الغرب في الأزمات الاقتصادية الأخيرة حيث تم تخفيض الفائدة إلى «الصفر».

وشدد المشاركون في الملتقى، الذي يستمر لثلاثة أيام، على ضرورة أن تعي البنوك ومؤسسات الإقراض أهمية تنمية الحس والوعي بالادخار، ورفع ثقافته بين أفراد المجتمع، حيث إن كثيرا من البنوك لا تشجع على الادخار لعملائها.

وشهد الملتقى، الذي يأتي في إطار تبني مؤسسة العنود الخيرية، مشروع معالجة الديون الشخصية، من خلال تنظيم لقاءات ومؤتمرات ودورات تدريبية، تفاعلا كبيرا تجاه معالجة الديون والدعوات للسيطرة على المشكلات الصغيرة التي تتأتى منها قبل أن تستفحل.

وكان الملتقى قد استعرض فيلما قصيرا عن حجم الديون ومخاطرها، شارحا التحولات الاقتصادية للمجتمع السعودي، موضحا بحث الكثيرين من شرائح المجتمع عن الديون لأسباب غير ضرورية، مما سبب في ارتفاع نسبة الديون إلى 320 مليار ريال (85 مليار دولار) 85 في المائة منها ديون شخصية للأفراد.

وتضمن الملتقى عدة ورش عمل ودورة تدريبية، حيث ركزت الورشة الأولى على الرؤية الشرعية والضوابط النظامية للديون المعاصرة، وناقشت الثانية أسباب الديون وآثارها ووسائل معالجتها، كما شهد الملتقى عدة دورات تدريبية، كانت الأولى منها للرجال بعنوان «كيف تسدد ديونك؟»، والثانية للنساء بعنوان «موازنة الأسرة».

إلى ذلك، أكد الدكتور صلاح الشلهوب، مدير مركز التميز للدراسات المصرفية والتمويل الإسلامي، في معهد البحوث بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالسعودية، أن مسألة الاقتراض بحد ذاتها ليست مشكلة، إذ برأيه أن الحكم العام للاقتراض في الفقه الإسلامي أنه جائز، خصوصا عند الحاجة وقدرة المقترض على السداد، لكن المشكلة كما يعتقد أن كثيرا من الناس يبالغون في مسألة الاقتراض، بحيث يتم صرف هذه الأموال في سلع استهلاكية تتهالك مع الوقت، ويبقى الالتزام المالي عليه قائما لسنين.

كما أن بعض الأشخاص، كما يعتقد الشلهوب، يخاطرون في هذه الأموال في استثمارات غير مدروسة فيذهب المال ويبقى الدين، مبينا أن البعض يشتري سلعا يحتاجها، ولكن يختار السلع المرتفعة الثمن، مع قدرته على الوفاء بحاجته من خلال شراء سلعة بسعر أقل.

ولذلك فمسألة التوعية في هذا الموضوع، في رأي الشلهوب، مهمة جدا؛ إذ أصبح بعض الأفراد على الرغم من دخله المادي الجيد لا يستطيع ادخار جزء من هذا المبلغ لاستثماره أو الاستفادة منه مستقبلا في شراء منزل.

ومن المناسب والحديث للشلهوب، وجود جهة تتبنى جانب التوعية للمواطن في جانب الائتمان بشكل عام وجزء من عملها مسألة التوعية والترشيد في مسألة الاقتراض، موضحا أن من أبرز الجهود التي يمكن بذلها أيضا توجيه المؤسسات التمويلية إلى التركيز بشكل أكبر على الأوعية التمويلية التي تخدم المجتمع وتلبي احتياجاته، وذلك من خلال توفير فرص تمويل مشاريع الشباب التنموية، وتوسيع دائرة أدوات التمويل الإسلامي التي تعتبر محدودة فيما هو ممارس حاليا مثل المشاركة، حيث إن قلة هذه الأوعية والأدوات ستجعل المؤسسات التمويلية تتوسع في الإقراض؛ سواء الذي يقدم خدمة للمجتمع أو الذي له آثار سلبية دون تمييز.