خبراء ماليون: غياب الرؤية الهندسية المالية تفوت فرص الاستثمار الآنية

أرجعوا مشكلات التمويل الإسلامي إلى غياب المصداقية والكفاءة الاقتصادية

TT

حمل خبراء ومهتمون بشأن التمويل الإسلامي، المؤسسات المالية الإسلامية والمتعاملين في صناعة المصرفية الإسلامية من خبراء واقتصاديين وشرعيين، مسؤولية الضعف الذي أصاب الكثير من المنتجات والأدوات المالية الإسلامية في وجه نظيرتها التقليدية، مرجعين ذلك إلى عدم الجدية الكافية في صناعة هندسة مالية إسلامية تحقق شرطي الكفاءة الاقتصادية والمصداقية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية.

وأوضح الخبراء في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه على الرغم من أن الأزمة المالية العالمية أتاحت فرصة كبيرة لإبراز كفاءة المنتجات المالية الإسلامية، ومن ثم تسويقها ونشرها بشكل كبير، فإن القائمين على أمر صناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي لم يحسنوا استثمار هذه الفرصة بشكل يتناسب مع حجم حاجة العالم للبديل للمنتجات المالية التقليدية حتى الآن.

الدكتور عبد الرحمن باعشن، الخبير الاقتصادي، أوضح أن صناعة هندسة مالية إسلامية أصبحت ضرورة عصرية في ظل هذا الواقع المتغير باستمرار، مبينا أن العالم شهد تغيرات عميقة في أسلوب إدارة الموارد الاقتصادية في ظل انفتاح أسواق التمويل الدولية التي أصبحت خاضعة لحكم العولمة الاقتصادية بسبب التطورات المتلاحقة في عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، الأمر الذي يصنع واقع منافسة غير متكافئة بين سوق المنتجات المالية الإسلامية ونظيرتها التقليدية.

وزاد أن هذا الواقع يلقي بالمسؤولية على المهتمين بصناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي ليجتهدوا بشكل جدي في مسألة تطوير منتجات مالية إسلامية مستحدثة تحقق قدرا من المرونة يساعدها على الاستمرار بفاعلية، وذلك من خلال الالتفات إلى الاهتمام بصناعة هندسة مالية إسلامية تشتمل على قدر كبير من الحلول المبتكرة وتزيد كفاءة الأدوات المالية الاقتصادية والشرعية، مشيرا إلى أن تحقيق ذلك يحتاج إلى تضافر كل الجهات ذات الصلة.

ويعتقد باعشن أن الاهتمام بصناعة الهندسة المالية الإسلامية سيفتح الباب على مصراعيه لاستيعاب الكثير من الأفكار المبدعة والمبتكرة التي من شأنها الإسهام بشكل فعال في بناء مستقبل زاهر وقوي للصناعة المنتجات والأدوات الإسلامية والذي يحقق لها قدرا كبيرا من القدرة على استيعاب المستجدات في عالم التقنية والتكنولوجية في كل المجالات، خاصة في مجال المشاريع الصغيرة والمتوسطة، من خلال توفير صيغ التمويل طويل الأجل خاصة سواء بالنسبة للحكومات الإسلامية أو حكومات الدول التي ترغب في أن يكون تمويل مشاريعها متوافقا مع الشريعة الإسلامية، سواء كان ذلك عن طريق المشاركة أو المضاربة والمرابحة، إلى غيره من ضروب الصيغ الإسلامية التي تلتزم بالضوابط الشرعية ونظم المتابعة والرقابة. وأشار إلى أن هناك الكثير على صعيد صيغ الاستثمار الإسلامية التي تحتاج إلى بيئة حاضنة للهندسة المالية الإسلامية الحكيمة، خاصة البيع الآجل، والسلم، والمضاربة، وصكوك المقارضة، والاستصناع، داعيا إلى ضرورة العمل على حل المشكلات التي تواجه التمويل الإسلامي، خاصة المشكلات التي تنجم عن عدم التزام طالب الشراء، بالإضافة إلى مخاطر السلع المستوردة، وعجز المدين، أو مماطلة الدين المليء.

وأوضح أن هناك العديد من المناطق في العالم التي أخذت تتعامل مع التمويل والمنتجات والأدوات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، تحتاج إلى من يجيد المزواجة بين الكفاءة الاقتصادية والكفاءة الشرعية في كل المجالات مثل الحلول المشروعة في البيع مرابحة، وفي المساومة، والتأكد من عدم جواز البيع قبل القبض الفعلي أو الحكمي، وكذلك تحميل العميل المخاطر قبل البيع وغرامات التأخير بالنسبة للمدين المماطل، ومدى جواز حلول الأقساط قبل مواعيدها.

وأشار إلى هناك مشكلات أخرى تتصل بالضرائب غير المشروعة، ومشاركة البنوك الربوية، ووفاة المدين، وذكر المخرج من كل مشكلة، مستندا في ذلك إلى دراسة أعدها الدكتور علي بن أحمد السواس النائب الأول لرئيس مجمع فقهاء الشريعة بأميركا، أكد فيها وجود مخاطر؛ منها عدم تسليم المبيع، وعدم رد الثمن عند الفسخ أو المماطلة في رده. والمخرج التوثيق برهن أو كفالة، وأخذ شيكات من البائع لضمان الثمن، موضحا أنه عند حاجة المؤسسة إلى السيولة لا يجوز بيع دين السلم قبل قبضه، ولكن يجوز السلم الموازي، كما يجوز الاعتياض عن دين السلم بغير ربح.

من ناحيته، اعتبر محمد الحمادي رجل الأعمال السعودي أن المؤسسات المالية الإسلامية لم تستطع الاستفادة من الوضع الذي خلقته الأزمة المالية، الذي كشفت فيه سوءة النظام المالي التقليدي وأبرزت في المقابل قدرة وكفاءة النظام المالي الإسلامي على وقاية نفسه من التحديات ومسببات الأزمات المالية، مرجعا ذلك إلى غياب رؤية علمية عملية لصناعة مصرفية إسلامية استراتيجية الأبعاد وتراعي ضرورة التوازن بين العرض والطلب من جهة؛ وتحقق الميزة التنافسية بشكل مقنع لدى عملاء نظيرتها التقليدية، مبينا أن هناك العديد من التحديات التي تواجه هذه الصناعة ومنتجاتها الأخلاقية المعروفة، تماما كما هي التحديات التي تواجه التمويل الإسلامي.

وأكد الحمادي أن أغلب المنتجات المالية الإسلامية يشوبها الكثير من اللغط حول موافقتها لتطبيقات الشريعة الإسلامية، بجانب تحقيقها مستلزمات عناصر مكوناتها من ناحية اقتصادية، مما يعني وجود بون شاسع بين المتعاملين معها، حيث تجد المنظر الشرعي تغيب عنه الكثير من المسلمات الاقتصادية للمنتجات وتركيبتها، في الوقت الذي تجد فيه المصرفي أو الاقتصادي ضعيفا في خلفيته الشرعية.

وزاد بأن ذلك يحتاج إلى صناعة كفاءات تجمع بين العلوم الاقتصادية والعلوم الشرعية في آن معا، مبينا أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا في حالة تبني الجهات المسؤولة بناء وتدريب قدرات اقتصادية ذات كفاءة تستوعب تطبيقات ما يسمى بالهندسة المالية الإسلامية التي يقوم عليها أمر صناعة منتجات وأدوات مالية إسلامية حقيقية، تتوفر فيها عناصر الكفاءة الاقتصادية المتوافقة مع قوانين الشريعة الإسلامية.

وشدد الحمادي على ضرورة هندسة المنتجات والأدوات الإسلامية التي تحقق شرطي المصداقية الشرعية والكفاءة الاقتصادية في آن معا، مبينا أن الهندسة المالية الإسلامية تحتاج إلى جدية ومصداقية وشفافية عالية من قبل المعنيين بها من أجل العمل على توفير العناصر التي من شأنها أن تساهم في تصميم أدواتها وعملياتها المالية وتطويرها ومن ثم تنفيذها بشكل مبتكر وجاذب.

ويرى الحمادي أن التمويل الإسلامي يحتاج إلى إعادة صياغة لمشكلاته التي يعاني منها مع بحث حلول مبتكرة وفعالة وفق الشريعة الإسلامية، في إطار الاتجاه نحو هندسة مالية إسلامية قادرة على القضاء على المنتجات التقليدية تتميز بإمكانية الاستمرارية مع ضرورة مواكبة متغيرات العصر في هذا الصدد، مشيرا إلى أن صناعة هندسة مالية إسلامية حقيقية مسؤولية مشتركة تزيد من الكفاءة الاقتصادية للمنتجات المالية من خلال توسيع الفرص الاستثمارية في مشاركة المخاطر وتخفيض تكاليف المعاملات وتخفيض تكاليف الحصول على معلومات وعمولات الوساطة والسمسرة.

وقال: «أمام المؤسسات المالية الإسلامية، مسؤولية دينية واقتصادية تراعي المحافظة على المكاسب المحققة خلال مسيرتها الماضية، والبناء على إبقاء النظام المالي الإسلامي في موقع المستوعب لكل المنتجات الحديثة في الصناعة المالية بعد التزامها بتطبيقات الهندسة المالية الإسلامية مع ضرورة الاحتفاظ بمختلف الأدوات والمنتجات المالية المتنوعة التي من شأنها إكسابها القدرة على إدارتها بالشكل الذي يحقق لها الربحية المطلوبة، في ظل مرونة مناسبة تستجيب لمتغيرات العمل الاقتصادي، والمنتجات الإسلامية»، داعيا المؤسسات المالية الإسلامية إلى ضرورة استيفاء شرطي السلامة الاقتصادية والشرعية حتى تحافظ على موقع متقدم لها في الأسواق المالية العالمية.

وفي المضاربة، وفق الحمادي، بيان تجنب المخاطر في المضاربات المألوفة، وذكر نماذج لمضاربات مستحدثة أقل مخاطرة، كمشاركة الشركات القائمة التي تملك أصولا ثابتة وأصولا متداولة، والشركات التي تملك أصولا ثابتة ولا تشترك في رأس المال، أما صكوك المقارضة فمخاطرها كما يراها في طبيعة المشروع الذي تصدر له الصكوك، وفي خبرة وأمانة الذين يصدرون الصكوك ويقومون بدور المضارب.

من جهته، لم يختلف الدكتور فهد العنزي (مهتم بشأن فض النزاعات المصرفية) عن سابقيه في تحميل القائمين على أمر التمويل الإسلامي والصناعة المصرفية ضعف الاهتمام بهندسة وتصميم أدوات المنتجات الإسلامية، مركزا على الاستصناع، حيث يرى أن معظم المؤسسات لا تملك مصانع ولا شركات مقاولة، والمخرج في الاستصناع الموازي، وباقي المشكلات تحل عن طريق حوالة الضمان، والشروط الجزائية، مبينا في بحث له عن مخاطر الصرف، بأنه لا يجوز الصرف الآجل والمخرج عن طريق البيع الآجل، أو الشراء الآجل، مؤكدا عدم جواز دفع المخاطر بالتأمين التجاري إلا عند الضرورة، وإنما يكون بالتأمين التعاوني. ويعتقد العنزي أنه من أهم الصيغ التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية، وأكثرها انتشارا، البيع الآجل، فهو يعتبر بالنسبة لها وسيلة التمويل الإسلامي الأولى، مبينا أن المؤسسات التي تعرض للبيع ما لديها من سلع، وعندها مخازنها ومعارضها لا تصادفها مشكلات بالنسبة للمبيع أكبر مما يصادف غيرها من المؤسسات غير الإسلامية، مبينا أن معظم المؤسسات الإسلامية.

وعلى الأخص المصارف، لا تملك مثل هذه المخازن والمعارض، ولذلك تشتري لتبيع دون أن تقوم بالتخزين، سواء أكان الشراء من الأسواق المحلية، أو عن طريق الاستيراد، أومن الأسواق المالية العالمية.

وأشار العنزي إلى وجود مخاطر تتصل بالسلعة المستوردة؛ فقد تأتي مخالفة للمواصفات أو ناقصة أو تالفة وقد لا تصل كأن تحرق أو تغرق أو تسرق مثلا، مبينا أن هناك أشياء تشملها وثيقة التأمين كالحريق والغرق والسرقة وما أشبه ذلك. أما مخالفة شروط الاعتماد، أو النقصان مثلا، فيرجع المصرف على المورد؛ فهو المسؤول، عن هذا، ومن الموردين من لا يؤدي ما هو ملتزم به، وهناك يجب البحث عن الضوابط القانونية التي تجعله يجبر على الأداء للتخفيف من المخاطر.

وأوضح العنزي أن بعض المصارف الإسلامية رأت أن تتجنب هذه المخاطر. وتحملها لطالب الشراء نفسه، فاشترطت ضمانه للمورد حتى وصول السلعة، ثم بعد ذلك تبيعها له، مبينا أن دور المصرف حينئذ لا يختلف عن دور البنك الربوي، حيث يقوم بالتمويل ولا شأن له بالسلعة، والحيلة التي يلجأ إليها بأن يبيع للآمر سلعة هي أصلا في ضمانه حيلة واضحة البطلان.

وأشار إلى قرارين مهمين: أحدهما صدر سنة 1403هـ (1983م) وهو من قرارات المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، ونص القرار هو ما يأتي: «للآمر حيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق، هو أمر جائز شرعا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي».

والقرار الثاني صدر سنة 1409هـ، في المؤتمر الخامس لمجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي، حيث قرر: «أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعا، هو بيع جائز، طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتوافرت شروط البيع، وانتفت موانعه».

وفي ضوئهما يتضح بطلان ضمان الآمر بالشراء للمورد وتحمله هو مسؤولية الهلاك والتلف قبل التسليم، وكذلك تحمله العيب الخفي ونحوه مما يستوجب الرد بعد التسليم، مشيرا إلى أن بعض المصارف رأت، تجنبا لهذه المخاطر، أن تقوم ببيع السلعة قبل وصولها، وقبل القبض الفعلي أو الحكمي، وذلك عن طريق تظهير المستندات لصالح الآمر، وكتابة عقد البيع.