صكوك «غولدمان ساكس» عملاق صيرفة «وول ستريت» الاستثماري تثير جدلا في الخليج

مبنى بنك «غولدمان ساكس» الأميركي («الشرق الأوسط»)
TT

من المتوقع أن يثير قرب موعد ترويج الصكوك الأميركية في بنك «غولدمان ساكس» الأميركي للمستثمرين الخليجيين في المنطقة، جدلا كبيرا فيما إذا كان من المناسب أن يستحوذ بنك تقليدي في حجمه على حصة كبيرة من حجم الاستثمار في الخليج، على حساب المصارف الإسلامية في المنطقة.

وكان قد أكد مصدر قريب الصلة بالدائرة الشرعية لبعض الفقهاء المصرفيين، طالب بعدم ذكر اسمه، أن بعضهم أصبح مترددا في التوقيع على فتوى إجازة صكوك عملاق صيرفة «وول ستريت» الاستثماري، «غولدمان ساكس»، التي تقدر قيمتها بملياري دولار، والمنتظر إصدارها بعملات أجنبية متعددة كالريال السعودي والدرهم الإماراتي.

إلا أن المصدر استدرك قائلا إنه ينتظر ظهور فتوى بإجازتها, الأمر الذي يأذن بفتح باب للجدل لا ينتهي، حول كيفية إجازة الفقهاء تداول صكوك «مرابحة» في البورصة الآيرلندية، على الرغم من أن الشريعة تحرّم تداول الدين وبيعه.

وفي هذا السياق، لفت الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن باعشن، إلى أن إقدام بنك أميركي في حجم بنك «غولدمان ساكس» الأميركي للاستثمار في منطقة الخليج، يعتبر من المفارقات في عهد شهد إنجازات كبيرة حققتها صناعة المصرفية الإسلامية، كسب بموجبها ثقة العملاء من كل الشرائح على المستويات المحلي والإقليمي والدولي، وجدير بها أن تشفع للمصارف الإسلامية في مسألة الحصول على أكبر حصة استثمار في موطنها الأصلي.

ومن المفارقات أيضا، وفق باعشن، أن البنوك التقليدية أخذت تستعين بالقوانين الإسلامية في بعض جزئيات عملياتها ومنتجاتها المصرفية لعدة أسباب، منها محاولة منافسة المصارف الإسلامية في عقر دارها، من خلال كسب عملاء المصرفية الإسلامية الذين وثقوا فيها ليس فقط عقائديا، وإنما مصرفيا أيضا، كذلك خشية انهيار الثقة فيها كليا، بسبب ما كشفته الأزمة المالية عنها من ضعف وثغرات في نظامها التقليدي.

وأضاف أن هذا النهج الجديد الذي انتهجته المصارف التقليدية وخاصة العملاقة منها، من شأنه أن يدخلها حلبة المنافسة مرة أخرى، في ظل تحديات تواجه المصارف الإسلامية من جهة وتحديات تواجه صناعة المصرفية الإسلامية من جهة ثانية، وتحديات تواجه قدرة القائمين على أمرها من جهة ثالثة.

فأما من ناحية التحديات التي تواجه المؤسسات المالية الإسلامية بما فيها المصارف الإسلامية فمنها، أنها على الرغم من قدراتها المالية المعتبرة، إلا أنها لم تستطع استيعاب كل الصيغ المصرفية الإسلامية الفعلية، الأمر الذي جعلها تبدو وكأنها مؤسسات مالية تقليدية، مبينا أن نشاطها يقوم على الائتمان واستثمار أموال المودعين بطريقة لا تمنح الثقة والفرصة الكافية لعملائها للوثوق فيها.

وأشار باعشن إلى أن الكثير من المؤسسات المالية الإسلامية حرمت نفسها بهذه الكيفية من عقد شراكات مفيدة، في الوقت الذي تلجأ فيه إلى التركيز على المرابحة والبيع الآجل، مبتعدة بذلك عن التجديد والابتكار في مجال المنتجات التنموية الملائمة، الأمر الذي ترتب عليه خلق حاجة ماسة لمؤسسات استثمارية عملاقة بمقدورها توفير خدماتها المصرفية بأعلى حد من الكفاءة والحرفية.

فأما التحديات التي تواجه صناعة المؤسسات المالية الإسلامية عدم القدرة على توفير السياسات الملائمة للمنتجات والأدوات المالية الإسلامية، بالإضافة إلى عدم تفعيل مراكز تطوير المنتجات المالية والاستثمارية التي يمكن تطبيقها بفاعلية عالية تجمع بين الكفاءة الاقتصادية والسلامة الشرعية، التي من شأنها تطوير أدائها، وتوفير البيئة المحفزة لتطوير المنتجات الاستثمارية ومن ثم تصديرها للعالم الذي أخذ يتعامل معها بجدية أكثر من أهلها.

وأما فيما يتعلق بالتحديات التي تواجه القائمين على أمر التشريع في المصرفية الإسلامية ومنها، اختلاف الفتاوى حول بعض جزئياتها، حيث إن هناك مسائل يتعدد فيها الاجتهاد والنظر الفقهي، ما يعني الحاجة الماسة لحسم مثل هذه الاختلافات التشريعية، الأمر الذي أسهم إلى حد كبير في ظهور منتجات تقليدية ولكنها بثوب إسلامي زعزعت الثقة في الكثير من عملاء المؤسسات المالية الإسلامية.

وكان قد كشف محمد الخنيفر, خبير مالية إسلامية لمجموعة «ادكوم آكادمي» المصرفية في الولايات المتحدة، الذي اطلع على مذكرة الاكتتاب الخاصة بصكوك «غولدمان ساكس», أن هناك ثلاث فجوات بالهيكلة العامة لهذه الصكوك، مبينا أن هناك مؤشرات قوية بمذكرة الاكتتاب توضح أن الصكوك ليست «مرابحة» كما يدعون بل هي «تورق عكسي»، علما بأن مجمع الفقه الإسلامي الدولي كان قد أصدر فتوى في عام 2009 بتحريم التورق المنظم والعكسي, معتبرا إياه مجرد حيلة لاستخدام المنتجات التقليدية.

أما الفجوة الثانية في الهيكلة, وفق الخنيفر, فإن البنك الأميركي سيستخدم هيكلة معقدة بحيث ينتهي به المطاف لاستخدام أموال حملة الصكوك لتمويل عملياته غير المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، داعما رأيه بقوله إن معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية لا تجيز إجراء التورق للبنوك التقليدية في حالة تبين أن استخدام السيولة سيكون في الإقراض بفائدة وليس للدخول في عمليات مقبولة شرعا.

يشار إلى أن الصكوك الأميركية سيتم إدراجها، وعليه فهناك شكوك حول كيفية تقديم البورصة الآيرلندية ضمانات بأن هذه الأوراق المالية سيتم تداولها بالقيمة الاسمية، حيث إنه عندما يكون هناك تداول، فإن ذلك يعني أنه سيكون هناك ارتفاع وانخفاض في قيمة هذه الصكوك، وبذلك إذا تحقق ذلك فهذا يعني أن هناك تداولا للديون يتم بشكل لا يتفق مع قوانين الشريعة، وهنا تكمن الفجوة الثالثة.

وبالعودة إلى تفاصيل الفجوة الأولى, فإن التعريف المعتمد من هيئة المحاسبة يكشف أن حالة التورق العكسي وصكوك المرابحة ومن ثم تتم مقارنتها مع الهيكلة المعتمدة للسندات الإسلامية الخاصة بـ«غولدمان ساكس»، التي ستثبت في نهاية المطاف أن هيكلتها الهندسية قائمة على التورق.

فالمعيار الشرعي المعتمد لصكوك المرابحة يعرّفها بأنها وثائق متساوية القيمة يتم إصدارها لتمويل شراء سلعة المرابحة, وتصبح سلعة المرابحة مملوكه لحملة الصكوك.

وأوضح الخنيفر أن حملة الصكوك ليسوا المالكين الحقيقيين للسلع لأنهم باعوها لبنك «غولدمان ساكس»، وذلك مقابل دفعة متأخرة بربح معلوم ومحدد. وضرب مثالا بسلعة المرابحة الخاصة بالسيارات، التي يكون العميل المنتفع الأخير منها، وليس البنك الذي قام ببيعها له. بمعنى أن البيع هنا مؤجل مقابل السداد في وقت لاحق. وهنا فحملة الصكوك لا يريدون هذه السلع وإنما أصبحوا بمثابة البنك والبنك الأميركي بمثابة العميل.

وبناء على ذلك ,ووفقا للمعيار الشرعي لهيئة المحاسبة, فليس صحيحا وصف هذه الصكوك بالمرابحة. ويدعم الخنيفر رأيه بأن هذه السندات الإسلامية ما هي إلا تورق عكسي وفقا للتعريف المعتمد للتورق من هيئة المحاسبة، الذي يقول: يمكن أن يكون المتورق هو العميل، وذلك بشرائه السلعة محل التورق من المؤسسة، أي البنك، ثم بيعها لغيرها لتحصيل السيولة, ويمكن أن يكون المتورق هو المؤسسة, وذلك بشرائها السلعة محل التورق من العميل، أي حملة الصكوك وبيعها لطرف ثالث لتحصيل السيولة.

بمعنى أن التورق التقليدي يحصل عندما يرغب الشخص العادي في الحصول على قرض إسلامي. عندها يقوم البنك باستعمال التورق؛ فالمستفيد هنا من القرض هو العميل وليس البنك. ولكن يحصل في بعض الحالات, والحديث للخنيفر, أن تعاني بعض البنوك من ضائقة في السيولة، وعليه، تلجأ لتنفيذ عمليات تورق «عكسي» مع مؤسسات ضخمة، بحيث يقومون بشراء السلع وبيعها بثمن مؤجل على البنك الذي يقوم بدوره ببيعها على طرف ثالث من أجل تحصيل السيولة من هذه السلع. وبذلك يحصل البنك على قرض إسلامي.

وبعد اتضاح الصورة حول النظرة الشرعية للمرابحة, يدعم الخنيفر رأيه بتقديم اقتباس محدد مأخوذ من مذكرة الاكتتاب، التي توضح في موضعين أن هذه الصكوك الأميركية قائمة على التورق العكسي.

الموضع الأول هو أن بنك «غولدمان» يملك الخيار بالاحتفاظ بهذه السلع بالمخازن أو أن يقوم ببيعها في السوق المفتوحة شريطة أن لا يكون الطرف الثالث المشتري هو نفسه المورد الأول.

وقال الخنيفر: «إن حملة الصكوك قد قاموا بشراء السلع المحددة من قبل البنك الأميركي. وبدورهم قاموا ببيعها بثمن مؤجل على المؤسسة المالية الأميركية. والفقرة القانونية أعلاه توضح أن البنك وجد لنفسه مخرجا قانونيا يتيح له بيع السلعة لطرف ثالث من أجل تحصيل السيولة. فليس من المعقول أن يقوم بنك (غولدمان) بالاحتفاظ بهذه السلع في مخازنه لمدة 5 أو 10 سنوات من دون تحريكها. فهذا بنك استثماري يعرف من كيف يتحصل على الأرباح».

أما عن الموضع الثاني في مذكرة الاكتتاب، الذي يدعم أن الإصدار قائم على عقد التورق العكسي، فإن البنك سيستخدم الأموال التي تم تحصيلها من عملية الاكتتاب لأجل تمويل احتياجاته المالية».

وبذلك يعتقد للخنيفر, أن في ذلك اعترافا غير مباشر بأن البنك لا ينوي الاحتفاظ بهذه السلع بل يخطط لبيعها (لطرف ثالث) من أجل تمويل عملياته المالية التقليدية، نظرا لأن البنك لا يملك نافذة إسلامية. من جانبه، يعتقد رجل الأعمال السعودي محمد الحمادي، أنه كرجل أعمال ومستثمر خليجي كان يتوقع ردة فعل من قبل عمالة الصرافة العالمية بسبب صدمة الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها، وذلك بالدخول في السوق الخليجية كمستثمر يتمتع بمقومات النجاح من حيث الاحترافية والكفاءة الكافية لإدارة الثروات الكبيرة، كتلك التي تحظى بها منطقة الخليج كإحدى الأسواق الاقتصادية المتينة، كنوع من استعداد جاهزيتها للدخول في تنافسية محتدمة مع نظيرتها، المؤسسات المالية الإسلامية.

وزاد بأنه كان لا بد للمصارف العالمية التقليدية الكبيرة أن تستفيد من عنصري الحرفية والكفاءة في الدخول مرة أخرى في تنافسية مع نظيرتها الإسلامية، ولو كان ذلك في عقر دارها، لا سيما منطقة الخليج، لما تتمتع به من فوائض مالية قابلة للاستثمار فيها، الأمر الذي جعلها تستعين بمنتجات تقليدية ولكنه تقدمها في ثوب إسلامي كما هو الحال في التورّق العكسي، الذي من المتوقع أن يثير جدلا حقيقيا في المنطقة. وحمل الحمادي المصارف الإسلامية والقائمين عليها، مسؤولية اقتحام المصارف التقليدية العملاقة عن طريق التورق العكسي أو ما شابه ذلك، في إشارة إلى عزم بنك «غولدمان ساكس» الأميركي الاستثمار في فوائض الخليج المالية الكبيرة، التي حرمت المؤسسات المالية الإسلامية من الاستفادة منها بسبب زعزعة ثقة العملاء فيها، بجانب مجاراتها المصارف التقليدية في تقديمها منتجات مصرفية تقليدية بثوب إسلامي، في الوقت الذي تقدمه فيها بأقل حرفية وبأقل كفاءة.

ويعتقد أن ما يثيره عودة التورق العكسي إلى منطقة الخليج من خلال استثمار بنك «غولدمان ساكس» الأميركي في المنطقة لن يكون نهاية المطاف، ما لم تقم المؤسسات المالية الإسلامية والهيئات الشرعية والرقابية بدورها على أكمل وجه، لاستعادة عملاء المصارف الإسلامية، التي يقوم بعضها بممارسة نوع من التحايل على عملائها.

ويرى أن هذا الدور الغائب، يبدأ من خلال اعتماد المؤسسات المالية الإسلامية والقائمين على أمرها، مبدأ الشفافية وتدريب الكوادر والرهان على الحرفية والكفاءة في مسألة تطوير منتجاتها وتطوير آليات الرقابة الشرعية، مع ضرورة اعتماد معايير الحوكمة، التي تتحقق بها مبادئ الجودة والشفافية للشركات والمؤسسات المالية كسمة أساسية من سمات الجودة الشاملة للإدارة الناجحة، الذي من شأنه انتهاج التخطيط الاستراتيجي السليم للمصرفية الإسلامية، مع أهمية العناية بمراكز الأبحاث المتخصصة، وفق أسس ومبادئ تفضي إلى الحرفية والكفاءة المطلوبتين في ذلك.

وأوضح الحمادي أن ممارسة المؤسسات المالية الإسلامية نوع من الضبابية في منتجاتها، التي غلب على بعضها التزييف والتحايل، فتح شهية المصارف التقليدية الكبيرة في محاولة تقديم منتجات تكتسب نفس الصفات، ولكنها بحرفية وكفاءة أكثر جعلها تبدو وكأنها البديل المناسب في حالة التشابه في الإنتاج والتقليد. وبرأيه أن هذا الواقع كشف عن الحاجة الماسة إلى إعادة بناء هياكل المؤسسات المالية الإسلامية التي تعمل في منطقة الخليج، والتي تفتقر إلى الإدارة ذات الكفاءة والشفافية في تركيبها الهيكلية في ظل نمطية الإجراءات الشرعة وعدم تطور أدواتها ومنتجاتها المالية الإسلامة.