دراسة: إشكالية التأمين تتأصّل في عنصري الغرر والمعاوضة

باحث فقهي: عدم انفكاك التأمين من الغرر علة عدم جواز التأمين التجاري

TT

أكد باحث في فقه التأمين أن إشكالية التأمين في أصله هي اجتماع عنصرين، أولهما الغرر، وعدم انفكاكه من هذا الغرر الذي هو برأيه علة عدم جواز التأمين التجاري عند من لم يجوّزه، وبرأيه هم عامة المعاصرين، وثانيهما المعاوضة، حيث يبدو له التأمين في هذه الحالة كعقد معاوضة.

وقال الدكتور فهد بن عبد الرحمن أستاذ الفقه في جامعة القصيم بالسعودية، في دراسة له عن تحت عنوان «التأمين التعاوني.. رؤية فقهية»: «إذا نظرنا إلى العنصر الأول فإن الغرر هو جوهر التأمين، ولا يمكن تصوّر التأمين دون هذا الغرر والمخاطرة، والصور التي يضعف فيها الغرر لا ينبغي أن تسمى تأمينا حتى لا تختلط المصطلحات، ويمكن التمثيل ببعض أشكال التأمين الصحي إذا انضبط، مع أن الانضباط الذي يصبح الغرر فيه معفوا عنه لم أجد له واقعا، لكن يمكن تصوّره في الذهن فيصبح شبيها بعقد الصيانة».

أما العنصر الثاني وفق الباحث فهو أن عقد التأمين عقد معاوضة، فيقول: «إن إباحة التأمين التعاوني كان تكييفه مستندا على أنه عقد تبرع وليس عقد معاوضة، وهذا يبين ما تقدم من أن الغرر لا ينفك عن التأمين، ولذا لجأنا في إباحة التأمين التعاوني إلى تكييفه عقد تبرع لأن الغرر في عقد التبرع مغتفر».

وفي محاولة إجابته للسؤال: هل عقد التأمين التعاوني عقد تبرع أم عقد معاوضة في هذه الحالة؟ أوضح الباحث أنه تبيّن له أن قصد التبرع وإرادة التبرع تكون عند إنشاء العقد إذا أمكن تحقيقها في أي صورة من صور التأمين، وبالتالي لا يدفع العميل قسط التأمين إلا وهو متبرع ولا ينتظر التزاما بالتعويض في حال الضرر، بل هو حين العقد عالم بأن التعويض قد يقع وقد لا يقع، وحينئذٍ يزول الاشكال في هذا التأمين وتزول علة جوازه، ذلك أن الغرر في عقد معاوضة في هذه الحالة، لأنه أصبح غررا في عقد تبرع.

وتساءل الباحث أيضا: لكن مثل هذا العقد هل يمكن تصوّره في سوق التأمين؟ وفي إجابته على ذلك تصوّر أن ذلك يكون في صور وأحوال محدودة لا تمثل سوق التأمين ولا تفي بحاجات التأمين التي من أجلها قام التأمين، والصور المحدودة التي أشار إليها يمكن التمثيل لها بالأسرة أو القبيلة حين يتم إنشاء صندوق تعاوني لغرض تعويض المتضرر، إذ يرى أن قصد التبرع يمكن تصوره هنا.

ولكن لم يستطع الباحث أن يعثر على نتيجة، حينما تصور أن يكون هناك عقد للتأمين القائم على التبرع ليكون بديلا عن التأمين التجاري في تطبيقاته.

وفي ما يتعلق بالتأمين على المركبات، حيث تطلب شركة التأمين من العميل مثلا مبلغا محددا كقسط للتأمين على المركبة لمدة سنة مثلا، يتساءل الباحث: هل يمكن أن يكون هذا المبلغ بقصد التبرع؟ مدعيا أنه حتى لو أشيعت ثقافة التبرع لحمل الناس على هذا القصد فلا يمكن أن يتحوّل هذا العقد من عقد معاوضة إلى عقد تبرع، وغاية الأمر أن تشوبه شائبة التبرع لكن يبقى الأصل والقصد الأغلب الأعظم هو المعاوضة.

وأوضح الباحث أن لوازم عقد التبرع هي عدم المطالبة بالتعويض لو نفد ما في ميزانية الشركة من الأقساط، وعدم التزامها أثناء العقد بالتعويض في حال نفاد الأقساط، مشيرا إلى مثال آخر يتعلق بالتأمين على البضائع أو على المصانع، حيث تكون العلاقة هنا بين شركة التأمين وشركة تجارية، ولذا السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن تقبل أية شركة تجارية التبرع مقابل عدم التزام التأمين من قبل شركة التأمين؟ وكيف يمكن قبولها بدفع قسط التأمين وهو في حالة الشركات مرتفع، كما أنها لا تجد في العقد إلزاما لشركة التأمين بالتعويض؟ وهل يمكن تصوّر شركة تقبل بالتبرع لشركة أخرى منافسة لها؟

وفي ذلك يطرح الباحث البديل المقترح، حيث قال: «قد لا يكون الحل جذريا، فربما نجد أنفسنا في بعض الحالات أمام خيارات ننتقي منها ما هو أكثر ملائمة للضوابط الشرعية وأدناها مخالفة، وهذا ما لعله ينطبق على الحل المقترح. وبما أن إشكالية التأمين التعاوني في الواقع هي في اجتماع عنصري الغرر والمعاوضة فالحل إذن يكمن في معالجة أحد العنصرين».

أما في ما يتعلق بالغرر فكما تقدم، وفق الباحث، لا يمكن تصور التأمين منفكا عنه، فيبقى العنصر الثاني وهو المعاوضة، حيث تأمل الباحث في الجهة التي يمكن أن يزول معها عنصر المعاوضة أو أن يضعف، فقال: «رأيت أن بيت المال هو الجهة القابلة لمثل هذا التصور، وبالتالي فإن التأمين إذا أصبح حكوميا فستصبح العلاقة أقل من حيث عنصر المعاوضة (و لا أدعي أنه سيزول كليا)».

وفي جانب الفرد وفق الباحث فإنه حين يدفع قسط التأمين لسنة واحدة فهو يدفعه للدولة، فليس برأيه من العسير أن يتم على هيئة رسوم للمركبة أو أن تضاف إلى رسوم رخصة الملكية (الاستمارة) أو رخصة (القيادة) وتذهب فعلا إلى خزينة الدولة، وبهذا يضعف برأيه عنصر المعاوضة.

وهنا قال الباحث: «نحن ندفع رسوما للدولة في أشكال متعددة، ومهما عسُر علينا تكييف تلك الرسوم من الناحية الفقهية، فتبقى - في نظري - إشكاليتها أقل بكثير من إشكالية قسط التأمين لشركة من القطاع الخاص، ولذا فإن هذا القسط لو مضت السنة من غير استفادة منه فإنه من قبيل الرسوم».

وفي جانب الدولة حين يقع حادث للسيارة (أي سبب للتعويض في التأمين)، فمقتضى التأمين هو التزام المؤمن بالتعويض، وهذا ما تلتزم به الدولة في هذه الحالة، فإن وفت أقساط المستأمنين (العملاء) وإلا غطت الدولة العجز.

والتزام بيت المال هنا لا ينقل العقد من التبرع إلى المعاوضة، لأنه يلتزم بالتبرع للمواطن، وهو من شأنه، بخلاف شركة التأمين حين تكون من القطاع الخاص فليس من شأنها التبرع للناس، إذ إنها شركة ربحية لا يمكن توقّع ذلك منها.

وهذا الحل المقترح يمكن تطبيقه على مستوى الأفراد في سائر أنواع التأمين، ومن أهم ذلك التأمين الصحي، حيث تتولاه الدولة ولا تدع مواطنيها تحت رحمة شركات التأمين، وعليها في هذه الحال أن تكون أيضا رحيمة بهم، فيشعر الموظف أن ما تأخذه الدولة منه مقابل الرعاية الصحية رمزيا، مع كونه يمثل قدرا لا يستهان به من رأس المال، حيث تتجمع المبالغ القليلة من العدد الكثير وتدعم الدولة في هذه الحال النقص اليسير إن وجد.

وأما عقد بيت المال مع القطاع الصحي الخاص في حالة دخول الغرر فيه، فهو عقد إجارة على عمل (خدمات)، وبالتالي فالعمل غير منضبط وكذلك عدد المستفيدين منه.

ولكن هنا يقول الباحث: «لو نظرنا من حيثية أخرى فهو يشبه عقود الصيانة التي أجازها المعاصرون والمجامع الفقهية، كما أن الغرر يظهر في العدد القليل دون العدد الكثير، حيث يمكن تضييق الاحتمالات لتكون ضمن دائرة هي من قبيل الغرر المغتفر كما هو معروف في علم الإحصاء».

وأوضح الباحث أن إمكانية تطبيق البديل المقترح على مستوى الأفراد أقرب منها على مستوى الشركات، وأضاف: «مع أننا لو نجحنا في هذا الجانب لكفى في حد ذاته، فعلاج جزء من المشكلة غاية وهدف، إلا أن تطبيقه على مستوى الشركات ليس مستحيلا، فما المانع أن تتولى الدولة التأمين على البضائع أو المصانع أو غير ذلك مما تحتاج إليه الشركات؟ إذ إن بيت المال يهمه استقرار الشركات فيها لانعكاسه على استقرار اقتصادها».

وتساءل الباحث عن كيفية تولى الدولة التأمين على مستوى الشركات، مبينا أنه يمكن ذلك من خلال المنظمات المتصلة بالدولة والمدعومة منها كالغرفة التجارية، فيصبح قسط التأمين من قبيل الرسوم على الشركة، وتلتزم الدولة بالتأمين، ويكون التعويض حتى في حال نفاد الأقساط جزءا من دعم الدولة للشركات كجزء من دعم الاقتصاد، فكما أن الدولة تدعم البنك في حال عجزه فكذلك هنا.

وتعرض الباحث في هذه الحالة لتجارب الآخرين، مبينا أن بعض الدول اتخذت نوعا من التأمين تتولاه مستقلة أو بمشاركة القطاع الخاص، ويطلق عليه البعض التأمين الاجتماعي، وهو قريب من الصيغة المقترحة وإن لم تكن ذاتها، «وكانت عنايتي أصلا بالتخريج الفقهي للفكرة، إذ التفاصيل هي من شأن ذوي الاختصاص»، مشيرا إلى أن التأمين الاجتماعي في غالب الدول انحصر في التأمين الصحي لأهميته.

وأفاد بأن التجارب العالمية الناجحة في التأمين الصحي على المواطنين كانت على شكل صناديق حكومية واجتماعية أو خليط بين الاثنين، بحيث تؤدي هذه الصناديق دور الوسيط بين المؤمّن عليه ومقدم الخدمة سواء من القطاع الحكومي أو الخاص، شرط أن لا تهدف إلى الربح، بينما كانت تجارب الدول في هذا النوع من التأمين، ولا سيما التأمين الصحي، كثيرة كما في كندا وفرنسا والصين واليابان وغيرها.

أما الإشكالات المتوقعة، وفق الباحث، فهي عدم اعتبار الرسوم قسطا للتأمين يقابله التزام فيصبح العقد معاوضة، وبرأيه هذا إشكال وارد، وقد حاول معالجته في ما تقدم، مبينا أهمية السعي إلى الحل الأبعد عن الإشكالات الشرعية ما أمكن وليس الخالي منها، فقد لا نجد.

وأضاف أن محور الحل المقترح تخفيف عنصر المعاوضة في العقد، مبينا أنه في حالة النظر إلى العقد المقترح من هذه الحيثية يزول الإشكال، إذ إن بيت المال كما يرى طرف في العقد وهي جهة غير ربحية، الأمر الذي يضعف عنصر المعاوضة، كما أن المواطن حين يدفع القسط لبيت المال فهو يدفع لا يقال بنية التبرع المحضة ولكن أيضا ليس بنية المعاوضة المحضة.

وهناك إشكال آخر وفق الباحث، وهو عكس الخصخصة، مبينا أن هذا المقترح يعيد فكرة التأميم في وقتٍ تتجه فيه الدول إلى الخصخصة، مشددا على ضرورة النظر إلى المصلحة العامة والموازنة بين المصالح والمفاسد، في أية برامج، ومنها الخصخصة، لأن توجه الدول إليها هو بغرض البحث عن الأفضل، موضحا أن هذا متحقق في قطاعات متعددة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون التأمين منها، مشيرا إلى أنه ظهرت سلبيات وإشكاليات التأمين المستقل عن الدولة، فربما كان المرتبط بالدولة أقل في السلبيات.

ومن جانب آخر يرى الباحث ضرورة معرفة أن الهامش الربحي في شركات القطاع الخاص التأميني كبيرة جدا، ولذا ففي الشكل المقترح الذي طرحه لم يزُل هذا الهامش بالكلية، لكن نسبته تقل لأسباب، منها تقليل القسط المطلوب، ومنها التغطية الحقيقية للحوادث، التي لا تتم لدى شركات القطاع الخاص، مشيرا إلى أنه إذا كان هامش الربح موجودا فهذا يضمن استمرار المشروع لوجود تغطية لرأس المال، حيث إن هامش الربح يستفاد منه كاحتياطي وكحوافز.

وثمة إشكال آخر يرى فيه الباحث أنه يحدث بسبب ضعف الأداء مقارنة بالقطاع الخاص، ذلك أن ضعف الحافز الربحي يؤدي إلى ضعف الأداء، مبينا أن معالجة هذا الإشكال ليست بالعسيرة إذا أمكن اتخاذ الاحتياطات والتدابير والحوافز المعينة على ذلك.