«رأس المال الجريء».. بدأ به المسلمون الأوائل وأهمله المعاصرون

المال المبادر رفد الدول الصناعية الكبرى بـ14 تريليون دولار

TT

ازداد دور المستثمرين المبادرين عالميا، في عملية التمويل، وذلك باستخدام رأس المال الجريء، حيث ارتفع حجم الأموال التي يديرونها في الدول الصناعية الكبرى إلى 14 تريليون دولار، كما زادت أهمية شركات رأس المال المغامر، والتي تمول المستثمرين المستعدين لتحمل مخاطر مرتفعة نسبيا مقابل توقع عوائد شديدة الارتفاع.

ويعد رأس المال ركيزة مهمة لتمويل المشاريع ذات المخاطر العالية وفي نفس الوقت فهي واعدة وتحقق أرباحا مرتفعة، إذ إن هذا النمط من التمويل الذي اصطلح على تسميته برأس المال المغامر أو المخاطر أو رأس المال المبادر، تجسيدا لمفهوم التمويل وللمبدأ الفقهي القائل إن الربحية العالية مرتبطة بمستوى المخاطر العالية في الاستثمار.

كما يعتبر رأس المال الجريء محرك الاقتصاد، إذ أسهم بنسبة تتجاوز الـ40 في المائة في بعض الاقتصادات المتقدمة كالولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا الغربية، حيث بدأ به المسلمون الأوائل وأهمله المعاصرون، بينما تبنته دول متطورة لأهميته في خلق فرص وظيفية ومجالات جديدة من الأعمال وحاضنات الإبداع حتى أضحت الآن متقدمة بإجمالي أصول وحجم مبيعات ضخم.

وفي هذا السياق، كشف خبير المصرفية الإسلامية الدكتور الصادق حماد عن أن رأس المال الجريء، نمط جديد يختلف عن التمويل التقليدي، من حيث النظرة والشمول لمستويات المخاطرة في استثمارات وأعمال الشركات التي هي في حاجة إلى التمويل وأن دورة رأس المال الجريء يبدأ طورها بطرح المنتج، ثم نمو المنتج، ثم مرحلة نضج المنتج، ثم هبوط المنتج.

وأما بالنسبة لمؤسسات رأس المال الجريء «المخاطر» فتمثل في الشركات الواعدة والعالية المخاطر ولكنها سريعة النمو وتحقق أرباحا مذهلة وتحقق القيمة الاقتصادية المضافة من ناتج إعادة بيع الحصص، وأهمها صناديق الاستثمار المباشر التي تمثل وعاء لتجميع المدخرات بقصد إنشاء صندوق استثماري لتمويل المشاريع المختلفة وتحقيق عائد مجز كإنشاء صناديق في أسهم الشركات الناشئة.

ولرأس المال الجريء وفق حماد، دور مهم من الناحية الاجتماعية، مبينا أنه ساهم بفاعلية في الحياة الاقتصادية المعاصرة والدور الاقتصادي، من حيث زيادة العمالة والتوظيف والحد من البطالة وتوليد فرص العمل وتفعيل المقاولات المتوسطة والصغرى وتمويل الحرفيين والأسر المنتجة وتمويل رأس المال العامل.. إلخ.

وأوضح أن الانفكاك عن مجال دور الوساطة المالية بإيجاد العملية وتفعيل أسواق رأس المال الناشئة، وقبول مبدأ الفقه الإسلامي كعملية متطورة ومستمرة، أصبح ضرورة من ضرورات العمل المصرفي الإسلامي، مبينا أن السوق الثانوية شجعت بإنشاء شركات ذات رأسمال جريء متغير وإيجاد سوق أولية ذات قاعدة عريضة متنوعة تنعكس في زيادة التداول وتستكشف الفرص الاستثمارية الواعدة وإنشاء المشاريع الجديدة واختيار المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية العالية بحيث يعتبر خروجا عن النمط التقليدي وأخذ روح المبادرة.

وأشار إلى أنه ازداد دور المستثمرين المبادرين عالميا، وارتفع حجم الأموال التي يديرونها في الدول الصناعية الكبرى إلى 14 تريليون دولار، كما زادت أهمية شركات رأس المال المغامر، والتي تمول المستثمرين المستعدين لتحمل مخاطر مرتفعة نسبيا مقابل توقع عوائد شديدة الارتفاع، مبينا إمكانية تكيف مثل هذه الأدوار لتتلاءم مع الظروف والأوضاع التي تعيشها البلاد الإسلامية.

إلا أن حماد عاد فأوضح، أن هذه الفكرة تحتاج إلى وضع معايير معينة للمشاريع المختارة في نطاقها، وإلى مساندة هؤلاء المبادرين ببعض السياسات والإجراءات والمؤسسات الوسيطة من قبل الأسواق المالية وهيئات أسواق رأس المال الناشئة خاصة في مجال ضمانات إعادة الشراء وتسهيلات التسييل عند الحاجة والإطار القانوني المرن الذي يمنح حق التملك لكل المستثمرين، كما تحتاج إلى مؤسسات الترويج والتسويق ذات الكفاءة العالية، وإذا ما توفرت لها هذه المتطلبات فسوف تؤدي وبشكل مباشر إلى زيادة عدد المشاريع المنتجة الناجحة والأدوات المالية الجذابة للمتعاملين في السوق الثانوية.

ولفت حماد إلى الدور الذي يمكن أن تقوم به الأسواق المالية الإسلامية في تشجيع إنشاء المشاريع الجديدة برأس مخاطر جريء، مبينا أن تشجيع السوق الثانوية دون وجود سوق أولية ذات قاعدة واسعة وأدوات متنوعة، سينعكس في زيادة التداول على كم محدود من الأوراق المالية، وبالتالي ارتفاع الأسعار وشيوع المضاربات ومن ثم إرباك الاقتصاد الوطني، وعليه فإن تنمية القاعدة الإنتاجية والتوسع في استكشاف الفرص الاستثمارية وإنشاء المشاريع الجديدة وزيادة الاستثمار والتشغيل، هي الضمانة الأساسية لقيام سوق ثانوية ناجحة تخدم حاجات ومتطلبات الاقتصاديات الإسلامية.

وبمعنى آخر فإن الاهتمام بالسوق الثانوية كما يرى حماد، فإنه يلزمه أن يسبقه أو يتزامن معه الاهتمام بتجديد وابتكار الأدوات التي تؤدي إلى توسيع نطاق السوق الأولية لتلبية المتطلبات والحاجات الفعلية للاقتصاد الإسلامي.

وأوضح أن المجهود الأساسي في هذه المرحلة، لا بد له أن ينصب نحو السوق الأولية وتفعيلها بتفعيل دور رأس المال المبادر «المغامر»، مبينا أنه يمكن للأسواق المالية الإسلامية أن تسهم بجدية في إنشاء المزيد من المشاريع عبر عدة وظائف ومهام منها، إحياء دور المستثمرين المبادرين، كذلك إعادة تنظيم طرق إعداد دراسات الجدوى واستكشاف الفرص الاستثمارية وتهيئتها في شكل إصدارات محددة قابلة للتنفيذ، مع اختيار بعض المشاريع ذات الجدوى والأولوية على مستوى العالم العربي والإسلامي وفق استراتيجيه منسقة المشاريع المشتركة.

وقال: «إن تجربة المشاريع المشتركة إذا ما قامت على أسس اقتصادية بحتة وبموجب دراسات جدوى مكتملة وبتنسيق مشترك بين كل الفعاليات ذات العلاقة، وإذا ما تعهدتها الأسواق المالية بإدارة إصداراتها وتغطية الاكتتاب فيها والسماح بتداول أسهمها، ستكون ولا شك مصدرا كميا ونوعيا متميزا يثري الاقتصاد الإسلامي بالمزيد من المشاريع ويمد الأسواق المالية بمزيد من الحركة والنشاط والديناميكية»، فضلا عن ارتباط ذلك بصعوبة تسيل الاستثمارات القائمة عند الحاجة والضرورة إذا ما رغب المودعون في إجراء سحوبات الشيء الذي أدى بالبنوك الإسلامية إلى الاحتفاظ بنسبة سيولة عالية، مما أدى إلى تأثر العوائد بالمقارنة مع فوائد المؤسسات التقليدية، في ظل ضيق الأسواق المالية بالمنطقة العربية والإسلامية وانعدام سوق مالية نشطة وفعالة وعدم الالتزام الصارم بالضوابط الشرعية، مبينا أنه لم يكن في مقدور البنوك الإسلامية في بداية نشأتها ونسبة لتواضع خبراتها ونقص إمكاناتها وللواقع القانوني الضيق الذي كانت تتحرك فيه، لم يكن في مقدورها الانفكاك عن دور الوساطة المالية وحاولت أن تقوم بدور الوساطة المالية، ولكن في إطار شرعي التزاما بقواعد الفقه الإسلامي، لذلك لم يكن النقلة عميقة ولا متناسبة مع الأهداف الكبيرة حول الدور التنموي الذي بشرت به البنوك الإسلامية في فترة بزوغها.

وأشار هنا إلى تنبه دعاة البنوك الشاملة إلى هذا الأمر ونادوا بأن تتوجه البنوك إلى خدمة أسواق النقد والمال، وذلك مثل ترويج الفرص الاستثمارية والإسهام فيها، وإصدار الأوراق المالية والاتجار فيها، والاضطلاع بدور أمناء الاستثمار، وإنشاء صناديق الاستثمار المشترك الإسلامية، بالإضافة إلى توريق القروض المصرفية، وممارسة نشاط التأجير التمويلي.

كذلك فإنه بعد أزمة سوق المناخ، كانت هناك حاجة ماسة إلى إعادة الثقة في أسواق المال بالخليج باعتبارها أحد الهياكل الأساسية الضرورية للنشاط الاقتصادي، فكان لا بد من الاهتمام بالسوق الأولية مصدر أدوات التعامل وعدم تركيز النشاط في السوق الثانوية دون وجود أدوات مالية كافية وما يستتبع ذلك من مضاربات ومجازفات، فستعين إلى استحداث أطر موازية، فضلا عن ذلك اختيار شكل الصناديق الاستثمارية ذات رأس المال الجريء لمساعدة البنوك الإسلامية القائمة آنذاك في التغلب على مشاكل ضخ وامتصاص السيولة في ظل عدم قدرتها على الاستفادة من خدمات البنوك المركزية في هذا الصدد، ولمواجهة مشكلة وجود الفرص الاستثمارية الجاهزة، ومشكلة تسييل الاستثمارات عند الحاجة للسيولة.

ووفق حماد زاد زخم هذه الأدوات المالية والمحافظة الاستثمارية في باقي دول المنطقة، حيث تعددت الجهات المنظمة لها مثل دار المال الإسلامية، والمستثمر الدولي، والمؤسسات العربية المصرفية، وغيرها من المؤسسات الخليجية التي شكلت في مجموعها إطارا استقطب المدخرات المتجهة نحو التوظيف الإسلامي بشكل قد يتجاوز ما استقطبته البنوك الإسلامية القائمة منذ عشرات السنين.

وعاد حماد وأكد أن الغرض من تحويل بنية العمل المصرفي الإسلامي جزئيا نحو الصناديق الاستثمارية ليس مجرد التغيير الشكلي وإنما هو في بعض أوجهه كمحاولة لشد انتباه البنوك الإسلامية والتقليدية نحو الاتجاه لنموذج المصارف الشاملة المتضمن أنشطة الصناديق الاستثمارية في محاولة منها للمنافسة واستقطاب المدخرات مما يسهم تلقائيا في تغيير متدرج لشكل ومضامين المصارف التجارية.

كذلك، إيجاد مؤسسات ووظائف أساسية تفتقدها منطقة الخليج، مبينا أنها مؤسسات مهمة جدا لإنشاء وتطوير سوق مالية متطورة ومتوحدة نسبيا وذلك مثل مؤسسات تغطية الإصدارات، والمؤسسات صانعة السوق، وبيوت السمسرة والمقاصة، ومراكز الاستشارات المالية.

وأوضح حماد أن هذا النموذج إذا ما تم توجيهه التوجيه المناسب، سيوفر فرصة تاريخية للانعتاق من تقليد المؤسسات الغربية، وإقامة شكل استثماري وتمويلي يؤدي دورا مباشرا في مواجهة التحديات التي يواجهها الاقتصاد السعودي خاصة ما يتصل منها بزيادة الطاقة الاستيعابية وإقامة مشاريع منتجة وريادة القطاع الخاص للنشاط الاقتصادي.

وأما فيما يتعلق بالدور الإنمائي لمؤسسات رأس المال الجريء، فإنه وفق حماد، يقع على المصارف بصفة عامة دور مهم في تمويل عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في ظل غياب الأسواق المالية المنظمة وانحسار تمويل المؤسسات الدولية والمصارف الإسلامية، مبينا أنها مصارف استثمارية إنمائية يقع على عاتقها بعض متطلبات التنمية الاقتصادية، من خلال زيادة القيمة المضافة للاقتصاد، والتخصيص الأمثل للموارد المتاحة، بالإضافة إلى الدور الإنمائي لصيغ الاستثمار الإسلامي.

ويرى أن تلافي سلبيات التمويل بالفائدة زاد القيمة المضافة للاقتصاد، ذلك أن فكرة المصرف الإسلامي تقوم على حشد المدخرات وإعادة توظيفها في تمويل المشاريع وتوفير السيولة لمختلف الأنشطة الاقتصادية، واستهداف إنشاء استثمارات حقيقية تضيف طاقة إنتاجية فعلية مما حدا بالكثيرين إلى تصنيفها باعتبارها بنوك استثمار، الأمر الذي جعلها تتجاوز مسألة الوساطة المالية إلى القيام بالاستثمار المباشر وتحمل مخاطره.

وأكد أن دور المصارف الإسلامية التعرف على فرص الاستثمار المتاحة، وتحليل المشاريع المختارة مبدئيا ودراسة جدواها، وتعريف المستثمرين بها ثم التعهد بإنشائها، أو المشاركة بعض المستثمرين فيها، أو تمويل بعض الاحتياجات الأساسية لها، بجانب تمويل رأس المال العامل والتوسعات في المشاريع وإنشاء رأس المال المخاطر، مع زيادة حجم المدخرات.

ويعتقد أن مثل هذه الأنشطة تنتج وفورات متعددة تتدرج من تشغيل الأيدي العاملة إلى استهلاك المواد الخام وزيادة عرض السلع والخدمات وتوفير العملة الصعبة، وتتجاوز ذلك إلى آثار اجتماعية ذات ارتباط وثيق بالتنمية الاقتصادية في الإسلام مثل صون عفاف الأسر وحفظ التوازن الاجتماعي والاستقرار النفسي للمجتمعات.

وأما فيما يتعلق بالتخصيص الأمثل للموارد المتاحة، فإن حماد يعتقد أن أكثر ما يهم الدائن عندما تكون العلاقة التمويلية هي علاقة دائن بمدين هو الاطمئنان على قدرته على استرداد أصل القرض، الأمر الذي يجعله يهتم تمويل المقترضين ذوي الملاءة المالية بغض النظر عن قدرتهم على التنظيم والابتكار.

ويرى أن الاهتمام بنوع الضمانات المقدمة، يتجاهل الاحتمالات المريبة في المشروع نفسه المراد تمويله، ولذا فإن عملية فحص ودراسة المشروع الذي يستثمر فيه القرض تأخذ أولوية متدنية، ويكون المشروع أكثر عرضة للخسارة أو على الأقل فإن الجهة مانحة التمويل لم تبذل الجهد المطلوب للتأكد من أن هذه الموارد النادرة نسبيا قد تم تخصيصها بكفاءة.

وأما في المصارف الإسلامية فإن المشروع يخضع لدراسة طالب التمويل ثم إلى دراسة المصرف لأن المصرف شريك في العمليات بالربح والخسارة وتتمثل كل ضماناته في صحة ودراسة الجدوى وحسن الإدارة وقيامه بمتابعة الاستثمار أولا بأول حتى يعالج مختلف نواحي القصور وبذلك يكفل للمشروع متطلبات أساسية للنجاح، ويطمئن إلى أن الموارد المتاحة قد تم تخصيصها بصورة مثلى بما يمثله من انعكاسات إيجابية على زيادة الناتج القومي والدخل القومي وعلى عملية التنمية الاقتصادية بصورة عامة.

ومن ناحية الدور الإنمائي لصيغ الاستثمار الإسلامية، يعتقد حماد أن كل صيغة من صيغ الاستثمار الإسلامية تؤدي دورا إنمائيا إيجابيا سواء من ناحية القطاعات الاقتصادية، أو نوع الفئات المستهدفة من الصيغة نفسها، أو من ناحية آجال التمويل، مبينا أن المضاربة مثلا، تتيح فرصة لرأس المال المبادر للقادرين على العمل والتنظيم ولا يملكون المال الذي ينفذون به أفكارهم لكي يشاركوا في عملية التنمية ليس بصفتهم باحثين عن العمل، وليس بصفتهم مدينين بما يشكله الدين من بعد نفسي سلبي، ولكن بصفتهم شركاء حيث تنطلق قدراتهم ومهاراتهم للتنمية محفزين بثقة البنك فيهم وتمويله لهم.

وفي الإطار نفسه، أشار حماد إلى أن بعض الباحثين انتقدوا صيغة المرابحة باعتبارها لا تؤدي دورا تنمويا وبأنها من الناحية الفنية والجدوى لا تخرج عن التمويل بالفائدة، وهذا خلط بين مفهوم المرابحة وكيفية استخدامها في بعض المصارف، مبينا أن المرابحة تؤدي الدور الذي كانت تقوم به المصارف في تمويل التجارة الخارجية ولكن وفق قواعد صحيحة من الناحية الشرعية، مشيرا إلى أن عمليات المرابحة ساهمت في أداء أدوار تنموية مهمة. يشار إلى أن الهيئة العالمية الإسلامية للاقتصاد والتمويل تنظم في الفترة من 21 إلى 22 من فبراير (شباط) الحالي، منتدى إقليميا، يناقش رأس المال الجريء، بالعاصمة السعودية الرياض، ويشارك فيه نخبة من أهل الدراية والمعرفة في هذا المجال من داخل وخارج السعودية.