د. عبد الباري مشعل: التورّق لا يصلح لتمويل الصفقات التجارية الكبيرة وهناك صيغ أفضل منه

باحث مصرفي يقف عند نقاط الخلاف في التورق المصرفي المنظم

د.عبد الباري مشعل مدير عام رقابة للاستشارات ببريطانيا
TT

توصل باحث إلى أن التورق المصرفي ومقلوبه الذي تجريه المصارف الإسلامية، يصدق عليه المنع المنصوص عليه في قرارات المجمعين، والمعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، لسببين مترابطين، مبينا أنه لا يكفي أحدهما للقول بالمنع، فأما الأول، فهو الوكالة الملزمة، وأما الثاني فهو سلب العميل من القدرة من قبض السلعة من الناحية العملية.

ووقف الدكتور عبد الباري مشعل، مدير عام رقابة للاستشارات ببريطانيا، عند بعض النقاط التي توجه النزاع في مسألة الخلاف في التورق المصرفي المنظم، بين المانعين والمجيزين، مبينا أنه لمس وجود غموض في تحرير محل النزاع، مبينا أنه من يرى حرمة التورق الفردي، فلا شك في أنه يرى حرمة التورق المنظم بنوعيه.

وعزا الباحث السبب إلى أن التورق يشبه العينة، من حيث إنه تواطؤ بين البائع والمشتري للحصول على نقد معجل بنقد مؤجل أكثر منه، والسلعة غير مقصودة للطرفين، مشيرا إلى أن هذا أقوى في التورق المصرفي منه في التورق الفردي.

وبالتالي، فإن المنظم منه، وفق مشعل، سيكون غير متوافق مع الشريعة وبالتالي الحكم عليه واضح، مبينا أن هذه أهم حجة يستدل بها المانعون، معتقدا أنه لا ينبغي إشراك فريق الباحثين في المناقشة الفقهية لحكم التورق المصرفي المنظم، من الناحية المنهجية، لأن القول بالتحريم عنده من لوازم قوله بتحريم الفردي. وعلى الرغم من مشروعية التورق، فإن مشعل يرى الحكمة تقتضي قصر استخدامه على التمويل الشخصي للأفراد، كبديل للقروض التقليدية الشخصية، أو استخدامه في الحالات التي يصعب فيها تمويل العملاء بصيغة إسلامية أخرى بسبب تعقد الإجراءات أو بسبب وجود أنظمة تمنع المصارف من الدخول في مجال معين، بينما لا يرى أهمية للتوسع في التورق في مجال تمويل الصفقات التجارية الكبيرة، لأنه برأيه يأتي بديلا لما هو أفضل منه من صيغ التمويل الإسلامية المتعارف عليها.

وأوضح أن أبرز تطبيقات التورق المصرفي في المصارف الإسلامية وأحكامها، يتمثل في التمويل وسداد المديونيات المتعثرة المشروعة للمؤسسة نفسها، وغير المشروعة لمؤسسة أخرى أو للمؤسسة نفسها، وكذلك استخدامه في قلب دين البطاقات الائتمانية أو إصدارها، وفي تصميم الودائع الإسلامية بعائد ثابت أو توفير السيولة للمؤسسة نفسها وهو ما يعرف بمقلوب التورق.

واستخلص الباحث من حجج القائلين بتحريم التورق، أنه مسلك اضطراري لا يأخذ به إلا مكره عليه أو مضطر إليه، مبينا أن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المضطر، كما أن أيلولته تنتهي إلى الفوائد غير الشرعية، حيث إن غرض طرفي التعامل به الحصول على النقد بنقد زائد مؤجل، والسلعة بين النقدين وسيلة لا غاية.

وأضاف أن ذلك ينطبق على قول بعض الفقهاء، (درهم بدرهمين بينهما حريرة)، مشيرا إلى أن الغرض من التعامل به الحصول على النقد، والسلعة وسيلة وليست غاية، فهو كما يعتقد يشبه العينة التي قال جمهور أهل العلم بتحريمها، حيث إن الغرض والوسيلة إليه فيهما واحدة.

وأشار الباحث إلى أن مجلس الفقه الإسلامي نظر في موضوع حكم بيع التورق، وبعد التداول والمناقشة والرجوع إلى الأدلة والقواعد الشرعية، أقر المجلس بأن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النقد، مبينا أن بيع التورق هذا جائز شرعا.

وأقر بأن جواز هذا البيع مشروط بألا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة، مؤكدا في نفس الوقت أنه إذا فعل فقد وقع في بيع العينة المحرم شرعا لاشتماله على حيلة، فصار عقدا محرما.

وعدد مشعل صور التورق، منها التورق الفردي غير المنظم مصرفيا، مبينا أنها الصورة العادية للتورق، وتقوم على وجود ثلاثة أطراف هم، مالك السلعة الأصلي وهو البائع، ومشتري السلعة بالأجل وهو المستورق، والمشتري النهائي للسلعة بالنقد، وهو طرف ثالث غير مالك السلعة الأصلي.

وأوضح أنه يمكن أن تتم هذه الصورة العادية، خارج البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، أو من خلالها جزئيا وهو ما قد يستدعي برأيه وجود طرف رابع هو المؤسسة المالية أي الممول، مبينا أن تكون مهمتها شراء السلعة، نقدا من مالك السلعة الأصلي، وبيعها بالأجل على المستورق.

وفي هذه الحالة يكون الأطراف هم، مالك السلعة الأصلي وهو البائع على المؤسسة المالية (المورد)، والبنك وهو الممول الوسيط الذي يشتري من المالك نقدا ويبيع على المستورق بالأجل، والطرف الثاني مشتري السلعة بالأجل وهو المستورق، وهو في هذه الصورة عميل البنك، والطرف الثالث، وهو المشتري النهائي للسلعة بالنقد، وهو ليس البنك، وإنما قد يكون المالك الأصلي أو غيره.

وأضاف مشعل أنه غالبا ما تطبق هذه الصورة في التمويل الشخصي المحلي للسلع والسيارات، من خلال بيوع المرابحة والمساومة أي التقسيط، بحيث يقوم العميل بعد تسلمه للسيارة أو السلعة التي اشتراها مرابحة أو مساومة من البنك ببيعها لطرف ثالث نقدا، وقد يكون هذا الطرف هو المورد المالك الأصلي للسلعة.

ويعاب على هذه الصورة للتورق، وفق مشعل، أن إجراءاتها معقدة بالنظر إلى الهدف من العملية وهو الحصول على النقد، فضلا عن أنها مكلفة، بالنظر إلى مقدار ما يخسره المستورق عند بيع السلعة بنفسه نقدا، مشيرا إلى أنه على الرغم من هذه السلبيات استشرى تطبيقها على مستوى المؤسسات المالية الإسلامية، دون أن تكون هذه المؤسسات طرفا مقصودا فيها.

وأما الصورة الثانية، فهي التورق المنظم، حيث لجأت المؤسسات المالية إلى تنظيم التورق من خلالها لعدد من الأسباب منها، تسريع الإجراءات، وتخفيض خسارة العميل، وتلبية لحاجة فعلية للسيولة لا يمكن تلبيتها عن طريق آخر.

والجديد في التورق المنظم وفق مشعل، هو توكيل العميل للبنك ببيع السلعة في السوق نقدا، حيث تتألف أطرافه من مالك السلعة الأصلي وهو البائع على المؤسسة المالية، والبنك بصفته ممولا وسيطا يشتري من المالك نقدا ويبيع على المستورق بالأجل، ومشتري السلعة بالأجل وهو المستورق، وهو في هذه الصورة عميل البنك، والبنك بصفته وكيلا عن العميل ببيع السلعة نقدا، وأخيرا المشتري النهائي للسلعة بالنقد، وقد يكون المالك الأصلي أو غيره.

وغالبا ما يكون تطبيق هذه الصورة للتورق، من خلال مرابحات في سلع مختارة من السلع الدولية، بحيث تتمتع باستقرار نسبي في أسعارها، مبينا أن بعض البنوك في السعودية، توجهت إلى إجراء بعض التطبيقات على سلع محلية مختارة كالأرز وأجهزة التكييف، لأغراض تمويل الأفراد دون الشركات.

وتناول الباحث أيضا، تطبيقات التورق المنظم في البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، ملقيا الضوء على منتجات التورق المنظم بغرض توفير السيولة للعملاء، مبينا أن استخدام التورق انتشر من خلال السلع والمعادن الدولية بصفة خاصة، على مستوى البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية عامة، إدراكا منها لوجود حاجة ماسة للسيولة لدى كثير من العملاء، وفي ظل حرمة القرض الربوي، مع قصور الصيغ التمويلية الشرعية المتاحة حاليا عن تلبية احتياج السيولة كما في حالات الزواج والعلاج والدراسة.

وبرأي الباحث، فإن سبب اللجوء إلى السلع والمعادن الخام الدولية، مثل الزنك والبرونز والنيكل والنحاس، هو تميزها بثبات نسبي في أسعارها، حيث بعض البنوك تتجه نحو اختيار مجموعة من السلع الأساسية التي يتم تداولها بكثرة في الأسواق العالمية، بشكل يومي وبذلك يسهل على العميل بيع ما اشترى من البنك بسهولة ومن دون خسائر مالية كبيرة. وفي حالة استخدام التورق في سداد مديونية مشروعة ومتعثرة على العميل لنفس المؤسسة، فإنه، برأي الباحث، لا يجوز استخدام التورق بشرط أن يقوم المستورق بسداد ما عليه من دين ناتج عن عملية مشروعة مع المؤسسة نفسها، كالمرابحة والاستصناع، لكنه متعثر في سداده.

وتسمى هذه المسألة، وفق مشعل، قلب الدين أو فسخ الدين بالدين في بعض صوره لدى المالكية، وتعني استبدال الدين الحال بدين مؤجل أزيد منه، وتؤول في هذه الصورة إلى عهد الجاهلية على قاعدة تقليدية «أتقضي أم تربي».

وهنا يقول عبد الله المنيع عضو هيئة كبار العملاء بالسعودية: «إذا كان الغرض من التورق إطفاء مديونية سابقة للبائع على المشتري، فهذا ما يسمى قلب الدين على المدين، وقد أفتى مجموعة من أهل العلم بمنع ذلك لما يفضي إليه من نتيجة ما يفضي إليه المسلك الجاهلي من أخذهم بمقتضى: أتربي أم تقضي».

وفي حالة كان الدين على مليء إلا أنه في حاجة إلى الاستزادة من التمويل لتوسيع نشاطه الاستثماري، فهذه الحال محل نظر واجتهاد، وقد أجاز هذه الصورة مجموعة من الهيئات الرقابية الشرعية للمؤسسات المالية لانتفاء المحاذير الشرعية في الاضطرار واستغلال الضعف والحاجة ولانتفاء صورة الصورة غير الشرعية.

وخلافا لما ذكر الشيخ المنيع، انتهت المجامع الفقهية في هذه الصورة من فسخ الدين بالدين إلى التحريم مطلقا سواء أكان المدين موسرا أو معسرا، فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة في المدة من 21 - 26 - 10 - 1422ه الذي يوافقه 5 - 10 - 1 - 2002م ما نصه:

«يُعَدّ من فسخ الدين في الدين الممنوع شرعا كل ما يفضي إلى زيادة الدين على المدين مقابل الزيادة في الأجل أو يكون ذريعة إليه ويدخل في ذلك الصور الآتية:

فسخ الدين في الدين عن طريق معاملة بين الدائن والمدين تنشأ بموجبها مديونية جديدة على المدين من أجل سداد المديونية الأولى كلها أو بعضها، ومن أمثلتها: شراء المدين سلعة من الدائن بثمن مؤجل ثم بيعها بثمن حال من أجل سداد الدين الأول كله أو بعضه.

فلا يجوز ذلك ما دامت المديونية الجديدة من أجل وفاء المديونية الأولى بشرط أو عرف أو مواطأة أو إجراء منظم؛ وسواء في ذلك أكان المدين موسرا أم معسرا، وسواء أكان الدين الأول حالا أم مؤجلا يراد تعجيل سداده من المديونية الجديدة، وسواء اتفق الدائن والمدين على ذلك في عقد المديونية الأول أم كان اتفاقا بعد ذلك، وسواء أكان ذلك بطلب من الدائن أم بطلب من المدين.

ويدخل في المنع ما لو كان إجراء تلك المعاملة بين المدين وطرف آخر غير الدائن إذا كان بترتيب من الدائن نفسه أو ضمان منه للمدين من أجل وفاء مديونيته».

وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 158 (7 - 17) في دورته السابعة عشرة بعمان (المملكة الأردنية الهاشمية) من 28 جمادى الأولى إلى 2 جمادى الآخرة 1427هـ، الموافق 24 – 28 حزيران (يونيو) 2006م، ما نصه:

«يعدّ من فسخ الدين بالدين الممنوع شرعا كل ما يُفضي إلى زيادة الدين على المدين مقابل الزيادة في الأجل أو يكون ذريعة إليه، ومن ذلك فسخ الدين بالدين عن طريق معاملة بين الدائن والمدين تنشأ بموجبها مديونية جديدة على المدين من أجل سداد المديونية الأولى كلها أو بعضها، سواء أكان المدين موسرا أم معسرا، وذلك كشراء المدين سلعة من الدائن بثمن مؤجل ثم بيعها بثمن حال من أجل سداد الدين الأول كله أو بعضه».

وأما في ما يتعلق باستخدام التورق في جدولة دين بطاقات الائتمان عند استحقاقه، فإنه، وفق مشعل، كان قد أخذ بهذا التطبيق بعض البنوك السعودية، وفيه يوكل البنك ببيع هذه البضاعة بالنقد ليستوفي منها الدين الذي حل، ويثبت في ذمة الحامل الثمن الآجل، موجها انتقادا إلى هذه البطاقات بأنها من قبيل فسخ الدين بالدين وفقا لمصطلح المالكية أو من قبيل قلب الدين وفقا لمصطلح الحنابلة، مبينا أن البدائل تؤدي إلى سلوك مقولة الدائن للمدين إذا حل الأجل: أتقضي أم تربي. وتنطبق عليها القاعدة المجمع عليها وهي كل قرض جر نفعا فهو حرام، كما تنتقد من وجه خارجي التورق المصرفي نفسه وما لقيه من انتقادات حادة كان آخرها منعه بقرار مجمع الرابطة ومجمع المنظمة.