خبير مصرفي يثير جدلية حوكمة العمل الشرعي وزعزعة مصداقية العمل المالي الإسلامي

الزيادات: تدخل مصالح المؤسسات في تصميم الفتاوى سبب خسائر استثمارية تجاوزت 400%

ناصر الزيادات الباحث في التمويل الإسلامي بجامعة درم البريطانية
TT

أثار باحث في التمويل الإسلامي جدلية خضوع الفتوى الشرعية لـ«قوى العرض والطلب»، مبينا أن خدمات الإفتاء أصبحت تحقق مواصفات السوق التي تشابه أي خدمة أو سلعة أخرى، موضحا في الوقت نفسه أن الاتجاه العام للسوق الإسلامية في التعاطي معها أصبح مسارا جدليا محموما.

وأوضح ناصر الزيادات، الباحث في التمويل الإسلامي بجامعة درم البريطانية، أن مراعاة ما يسمى مصالح المؤسسات، دون النظر إلى مآلات الفتاوى ضمن إطار المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، أدى إلى ظهور إخفاقات، تمثلت رقميا في ارتفاع مخصصات خسائر التمويل والاستثمار في المؤسسات المالية الإسلامية إلى ما يفوق 400 في المائة خلال السنوات الأربع الماضية.

وقال الزيادات في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»، عبر الهاتف من مقر إقامته بالكويت: «الأمر لم يقف عند ذلك، بل أدى أيضا إلى قيام عدد من حملة الصكوك، وهم شرعا ملاك لها، بالشكوى القضائية على مصدري صكوك أخفقوا بالتزاماتهم نتيجة لوجود فتاوى مشوهة، جعلت من مالك الصكوك دائنا غير متحمل لمخاطر ولا خسائر».

ويعتقد أن بعض الفتاوى أصبح يتم التعامل معها كمنتج للتداول في العمل المصرفي والمالي وفق العوامل المحددة لتسويق أي منتج أو سلعة، من حيث العرض والطلب، لافتا إلى أن هذه العوامل تتمثل في السوق والطلب والعرض والسعر، مشيرا إلى أن الفتوى ينظر إلى صلاحيتها بحسب استيفائها لمواصفات السلعة المربحة من قبل قوى العرض، والسلعة «المناسبة» للاحتياجات وفقا لقوى الطلب.

وأوضح الزيادات أن جودة الفتوى أخذت تتأثر بمدى تداخل عوامل محددة فيها، ومنها مدى تطابق مواصفات حاجة السوق لها، مبينا أن هذا أحد أهم العوامل التي أخذت تزج ببعض المشايخ في حلبة المنافسة، بهدف حصاد حظوة القبول والإقبال على خدماتهم الشرعية.

وفي هذا الإطار أكد الزيادات أن استيفاء الفتوى لشروط السوق جعل جودتها الشرعية تتأثر في الكثير من العوامل التي ربما تكون سببا في حرفها عن مسارها الصحيح، وغاياتها المتمثلة في تقديم خدمات ومنتجات متوافقة مع الشريعة الإسلامية شكلا ومضمونا.

وزاد أن أول تلك العوامل هو أن سوق الفتوى فيها قوى طلب متمثلة في البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية التي تحتاج إلى «فتاوى» من طراز معين، حتى تستطيع أن تمارس أعمالها بما يضمن نقل المخاطر إلى أطراف أخرى، وليس تحملها أو المشاركة فيها، بالإضافة إلى تحقيق الربح المرتفع بأقل التكاليف الإدارية والمالية والقانونية.

وضرب الزيادات مثالا يستدل به على استغلال قوى الطلب لمواصفات الفتوى، يفيد بأن العلماء الذين يعرف عنهم التحفظ والالتزام في أمور معينة، أصبحوا غير مرحب بوجودهم في الهيئات الشرعية، سيما مع انتشار ظاهرة الاحتكار للمشايخ المعولين على الحيل الشرعية التي توجد المخارج لتحقيق مآرب المؤسسات المالية بعيدا عن مقاصد الشريعة وأهدافها العليا.

وأضاف أن العامل الثاني يتمثل في وجود قوى عرض تشكلت من مجموعات من المشايخ أصبح التنافس على استرضاء قوى الطلب من أهم سماتهم، فيما انتشرت بينهم عمليات شبيهة بـ«اللوبيات»، وربما الضرب من تحت الحزام في بعض الأحيان، من أجل الحصول على عضويات الهيئات الشرعية.

وأشار إلى أن وجود مقابل مادي لخدمات الفتوى (السعر) يشكل نقطة توازن بين رغبات قوى الطلب والتنازلات المستمرة لقوى العرض، ما أدى عبر العقود الثلاثة الماضية إلى ظهور فتاوى لمنتجات مشوهة تمارس بكثرة باسم التمويل الإسلامي، على غرار التورق والوكالة بالاستثمار وغيرهما، هذا بالإضافة إلى فتاوى الصكوك التي أثارت جدلا واسعا في السنوات الماضية.

وبرأيه فإن تعارض المصالح في بعض الأحيان، دفع ببعض مؤسسات التمويل والمنتجات الإسلامية إلى التدخل بطريقة غير مباشرة في ترويج سوق للفتاوى حسب المصالح، دون النظر إلى مآلات الفتاوى التي تدخل بشكل أساسي ضمن إطار المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، مما أدى إلى ظهور حالة من حالات التساهل التي ترتب عليها في نهاية المطاف إخفاقات انعكست سلبا على واقع هذه المؤسسات.

ويعتقد أن نتاج ذلك ظهر جليا في تراجع بعض هذه المؤسسات، غير أنه تمثلت رقميا في ارتفاع مخصصات خسائر التمويل والاستثمار في المؤسسات المالية الإسلامية إلى ما يفوق 400 في المائة، خلال السنوات الأربع الماضية، بالإضافة إلى قيام عدد من حملة الصكوك، وهم شرعا ملاك لها، بالشكوى القضائية على مصدري صكوك أخفقوا بالتزاماتهم، نتيجة لوجود فتاوى مشوهة جعلت من مالك الصكوك دائنا غير متحمل لمخاطر ولا خسائر.

وشدد الزيادات على أن دفع مقابل مالي للفتوى قد يكون حقا من حقوق المشايخ نتيجة لجهودهم التي يقومون بها، لكنه شدد على أن سلعتهم النفيسة التي لا تقدر بثمن جعلت من المال وسيلة لوجود تحالفات لا شعورية بين بعض المشايخ ورجال الأعمال، الأمر الذي حرف جزءا كبيرا من أعمال الصناعة المالية الإسلامية عن المقاصد الشرعية.

واقترح الزيادات بعض الحلول التي يمكن بموجبها ضبط حوكمة الفتاوى، ومنها أن تمتلك البنوك المركزية سلطات أكبر تمكنها من التدخل في تعيين أعضاء الهيئة الشرعية للمصارف والمؤسسات المالية، بشكل يتسق مع الضوابط الشرعية للفتاوى، ويتجه بالمصرفية الإسلامية نحو الازدهار الفعلي، للقضاء على أي احتمالات لتعارض الفتوى الناتجة عن طول أمد العلاقة بين المشايخ والمؤسسات التي يفتون لها. وتساءل الزيادات بهذا الصدد: لماذا لا نفترض وجود تعارض بالمصالح بين شيخ استمر عمله في هيئة شرعية لمؤسسة ما أكثر من 10 سنوات والمؤسسة التي عمل لديها؟

واقترح كذلك أن تقوم البنوك المركزية بتكوين أجهزة رقابة للتأكد من سير العملية الشرعية، وفق ما يحفظ حوكمتها الشرعية، مع ضرورة أن يتم وضع حد زمني معين لصلاحية عضو الهيئة الشرعية، مقترحا أن لا تتجاوز الأربعة أعوام، مع عدم العودة للمؤسسة مستقبلا إلا بعد مضي أربع سنوات مماثلة.

ودعا إلى أهمية ترسيخ وإشاعة ثقافة التعبئة التوعوية المحايدة فيما يتعلق بالتنظيم والتشريع، في عناصر حوكمة الفتاوى والرقابة الشرعية، وذلك لتنظيم العمل الشرعي، الذي يخدم مصالح كل الأطراف، أن يلحق الضرر بأي منها، مذكرا المشايخ والمؤسسات المالية الإسلامية بأن المستفيد من الفتوى هم العملاء الذين لا يعلمون ما يجري وراء الكواليس في كثير من الأحيان؛ ظنا منهم أن الأمور تسير على ما يرام وما يرضي الله في أموالهم وتعاملاتهم.

وكانت «الشرق الأوسط» أثارت في فترة سابقة، قضية اختلافات الفتاوى، وأثرها في إضعاف المصرفية الإسلامية، وزرع نوع من عدم الثقة بها، حيث تثير بعض الفتاوى الصادرة من بعض الهيئات الشرعية التابعة للبنوك الإسلامية أو التقليدية التي لديها نوافذ إسلامية، بعض اللبس واللغط لدى المستثمرين الذين ينقسمون فيما بينهم بحسب انقسامات الفتاوى وتعددها في المنتج الواحد.

وكانت قد أشارت إلى أمثلة هذا التناقض، خاصة فيما يتعلق في وقتها ببعض الأسهم التي كان يتم تداولها في السوق السعودية، حيث تناقلها المستثمرون الأفراد أكثر من غيرهم، في وقت كانت تنقسم فيه إلى أسهم أخرى جائزة، وأسهم مختلطة بين الجواز والتحري، وأخرى غير متوافقة مع الشريعة بالمرة، والتي شاع التعامل معها، مع انتشار طرح الاكتتابات الأولية لبعض الشركات السعودية وقتها.

وعلى الرغم من أهمية زرع ثقة المستثمر بسوق المال، خاصة في ظل الأداء الجيد غير المسبوق لمؤشرات الاقتصاد الكلي السعودي لأكثر من ثلاثة أو أربعة أعوام متتالية، فإن تضارب فتاوى الهيئات الشرعية فيما يتعلق بتحليل أو تحريم أسهم بعض الشركات، سبب بعض الفوضى وعدم الثقة في السوق.