خبير مصرفي: ممارسات خاطئة تضع المصداقية الشرعية للبنوك الإسلامية على المحك

د. عبد الباري مشعل يقترح نقل وظيفة التدقيق الشرعي إلى جمعية المحاسبين القانونيين

TT

استنكر باحث شرعي ومصرفي تنصُّل بعض البنوك المركزية عن مسؤوليتها تجاه تقنين عمل الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية، مؤكدا عدم وجود أي مسوغات مهنية مقبولة لتفسير هذا الدور، الذي وصفه بالخجول، في الوقت الذي أصبح انتقاد المصرفية الإسلامية من هذا الجانب ظاهرة مجتمعية تنعكس في الإعلام بشكل متكرر.

وقال الباحث المصرفي الدكتور مشعل عبد الباري مدير عام «رقابة» للاستشارات ببريطانيا لـ«الشرق الأوسط»: «إن المصداقية الشرعية للبنوك الإسلامية والنوافذ الإسلامية على المحك»، مبينا أن كثيرا ما تثار الشكوك حول ذلك، وتلتف حولها الكثير من الأسئلة، ومنها: هل هذا البنك أو ذاك إسلامي؟ هل يطبق فعلا الضوابط الشرعية أم يتاجر بالشعار؟ هل فعلا الهيئة الشرعية تدقق شرعا؟ وبعبارة أخرى، هل تتأكد الهيئة الشرعية أن المعاملات المنفذة في البنك تم تنفيذها بشكل صحيح شرعا أم أن الهيئة تفتي فقط؟».

وأوضح أن البنوك المركزية ركزت على دورها ذي الصلة بالمحاسبين والقانونيين، على مستوى الإشراف والرقابة في قضايا المعايير والإفصاح والشفافية والشروط المهنية لممارسة المهن المصرفية والجهات الرقابية، في الوقت الذي أهملت فيه الجانب المتعلق بالهيئات الشرعية.

وأضاف أن إدارات البنوك والنوافذ الإسلامية والمؤسسات التعليمية لا تجد من يساندها في مسألة إيجاد حلول عملية لهذه الانتقادات، ذلك لأنها برأيه لا تملك الغطاء القانوني الملائم، مبينا أنه لا توجد أي قرائن تسمح بالتوقع أن يقوم أعضاء الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية بدور ما في إحداث نقلة نوعية في صناعة الهيئات الشرعية، ما دامت الأمور تسير على النحو القائم.

وبرأي الباحث، إن المشكلة ذات شقين نابعين من طبيعة الوظائف الموكلة لهيئات الشرعية الخاصة، التي تتمثل في الفتوى والتدقيق، واصفا واقع الهيئات الشرعية بخمسة معالم تمثل أساسا لتوجيه الانتقادات، وهي برأيه: تكرار الأسماء، وتكرار الجهود، والاختلاف الفقهي في القضايا التي تتطلب الاتفاق، وضعف التدقيق الشرعي الخارجي، وأخيرا غياب المعايير الإلزامية للتعيين.

ووفق مشعل فإن اللغز يكمن في استمرارية هذه المعالم في احتكار الفتوى من بعض الأسماء، في ظل الدور الغائب للسلطات الإشرافية، ومنها تكرار بعض الأسماء بشكل ملحوظ في الهيئات الشرعية للبنوك الإسلامية في بلاد لا تعاني من نقص في المتخصصين في مجال فقه المعاملات المالية الإسلامية، مبينا أن كليات الشريعة والكليات الموازية لها في التخصص مليئة بالفقهاء المؤهلين لدخول هذا الميدان وإثرائه. والتعذر بقلة المتخصصين أو بندرة التخصص، برأيه، غالبا ما يكون لخدمة الاحتكار القائم من قبل هذه الأسماء المتكررة، أو على الأقل لتثبيط الهمم تجاه تقديم الحلول، مبينا أن هذا العذر لا يعد مسوغا معقولا للتكرار، مشيرا إلى أن ماليزيا قامت بخطوات متقدمة في هذا الاتجاه، بتحديدها أن لا يتكرر العضو في أكثر من بنك واحد، وشركة تأمين واحدة، وشركة استثمار واحدة، وأن لا تتكرر عضويته في الهيئة العليا والهيئة الخاصة.

وقال مشعل: «إن أدوات التمويل الإسلامية المتاحة للأفراد والشركات وأدوات إدارة السيولة في البنوك الإسلامية محدودة ومستقرة من حيث آلية تنفيذها والضوابط الشرعية الحاكمة لها، بل يمكن وصف هذه الأدوات بالنمطية على مستوى جميع البنوك، وتتمثل في المرابحة للواعد بالشراء، والتورق، والإجارة التمليكية، والاستصناع. وكذلك الحال بالنسبة لأدوات الاستقطاب المتمثلة في الوديعة على أساس المضاربة أو الوكالة، أو حتى المرابحة العكسية».

وزاد بأن ما تقوم به الهيئة الشرعية لبنك ما، في إجازة هذه الأدوات وعقودها لكل بنك، هو تكرار لعمل الهيئات الشرعية في البنوك الأخرى باختلاف محدود، ويصبح التكرار مذموما أكثر عندما يكون من الأعضاء أنفسهم الذين يتكرر وجودهم في أغلب الهيئات الشرعية.

ومن الناحية الفنية التكرار يوازي عدم الكفاءة، لأن فيه إعادة اختراع العجلة، وفيه إضاعة للوقت وإهدار جزء من موارد النظام المصرفي ككل، حيث يتم صرفه في الحصول على أعمال جاهزة ومتداولة، مفترضا أن تكون في متناول الجميع من غير تكاليف.

وأكد أن وجود معايير شرعية تمثل مرجعية شرعية موحدة للأدوات الأكثر تطبيقا، وإصدار هذه المعايير بتعليمات ملزمة من قبل البنك المركزي لجميع البنوك الإسلامية في الدولة، يجعل المنجزات متاحة للجميع ويمثل حلا عمليا لمشكلة تكرار الجهود، مشيرا إلى أن الاختلاف الفقهي وتعدد الآراء في الموضوع الواحد أمر مقبول، لكن عندما يتعلق الأمر بأمر يهم المجتمع والاقتصاد والبنوك ككل فإن الاختلاف لا يعد مستحسنا كما هو الحال في الصكوك الإسلامية.

وأضاف أن المعايير الصادرة عن مجلس الخدمات بماليزيا وهيئة المحاسبة بالبحرين، فضلا عن قوانين البنوك الإسلامية، تنص على أن التدقيق الشرعي ورفع تقرير للجمعية العامة عن مدى التزام المؤسسة بأحكام الشريعة الإسلامية هو من وظيفة الهيئات الخاصة، ولا تقتصر وظيفتها على الفتوى في ما يعرض ويرفع إليها.

وأفاد بأن هناك ندرة في تطبيقات البنوك الإسلامية، ترتب عليها ندرة في قيام الهيئة الشرعية بهذا الدور بنفسها، مبينا أنها تعتمد على موظفين في داخل البنك لا يتمتعون بالاستقلال المهني المطلوب لأداء هذا الدور لصالح الهيئة، مشيرا إلى أن التطبيقات الحالية عجزت عن طرح حلول عملية لهذه المعضلة، ما يتطلب معالجة مشكلة التدقيق بعيدا عن الهيئات الشرعية.

وتبين وفق مشعل أن المشكلة على صعيد الفتوى تتمثل في الاحتكار لا في التأهيل، بينما تتمثل على صعيد التدقيق في التأهيل، مفترضا ضرورة أن تراعي الحلول هذا الاختلاف في التشخيص للمشكلات.

وبرأي مشعل فإن الحلول العملية لهذه المشكلات من وجهة النظر الإشرافية تستدعي من السلطات الإشرافية تحمل المسؤولية والمبادرة لتبنّي حلول عملية للحماية أموال المساهمين والمودعين في البنوك الإسلامية، بحيث تنطلق من المشكلات القائمة، وأن تستصحب خبرات المهن المشابهة والتطبيقات المماثلة.

واقترح بعض الحلول العملية للانتقال بصناعة الهيئات الشرعية إلى واقع جديد برعاية من السلطات الإشرافية، ومنها أن يصدر البنك المركزي تعليمات خاصة بشروط عضوية الهيئات الشرعية من حيث التأهيل والخبرة والعدد والاستقلالية، ما يضمن استقلالية الهيئات الشرعية ومهنية أعمالها أسوة بالمحاسبين القانونيين، وأن تكون لدى البنك المركزي قائمة بأسماء المتخصصين الذين تنطبق عليهم المواصفات.

ويعتقد ضرورة أن يكون المرشح لعضوية الهيئة الشرعية حائزا على شهادة الدكتوراه أو ما يوازيها في الفقه الإسلامي أو الاقتصاد الإسلامي حصرا، وله اهتمام علمي بالمعاملات المالية الإسلامية يظهر في أبحاثه للماجستير والدكتوراه أو الأبحاث العلمية التالية.

ولا يعتقد أن من الملائم الاستناد إلى البرامج التدريبية والشهادات الخاصة بها في تأهيل أعضاء هيئات الرقابة الشرعية، أو الادعاء بأن فهم المعايير الشرعية الصادرة عن «أيوفي» كافية في هذا الاتجاه، بل لا بد من الدراسة المنهجية والتخصصية للعلوم الشرعية والاقتصادية والمصرفية من جهات تعليمية معتبرة، كالجامعات أو ما يوازيها لدى الجهات الرسمية.

ويرى بضرورة أن لا يتكرر عضو الهيئة الشرعية في أكثر من بنك أو نافذة إسلامية واحدة، مبينا أن هذا الشرط يرفد الصناعة بعدد جديد من المتخصصين والخبراء، كما لا يجدد لعضو الهيئة في البنك نفسه أكثر من أربع سنوات، موضحا أن هذا الشرط يعزز من استقلالية أعضاء الهيئات وسيتيح فرصة لتجدد الدماء وإثراء النقاش في المستجدات.

ويرى الباحث أن تعاد هيكلة وظائف الهيئات الشرعية لتحتفظ الهيئات بوظيفة الفتوى، وأن يتم تفعيل وظيفة التدقيق بشكل مستقل عن الهيئات الشرعية، لأن التدقيق مهنة لها معاييرها وأدواتها وإجراءاتها، ما يعني ضرورة أن تقوم بها جهات مؤهلة ومستقلة تتفق في شروطها مع الشروط المقررة لممارسة مهنة المراجعة المالية.

وفي هذا الاتجاه يقترح الباحث نقل وظيفة التدقيق الشرعي إلى جمعية المحاسبين القانونيين، بعد استحداث برامج متخصصة لتأهيلهم في هذا المجال، مؤكدا أنه تم التوصل إلى هذا المقترح بعد اختبار عدد من الحلول، وتبين أن هذا الحل هو أقصر الطرق لتمهين التدقيق الشرعي الخارجي.

كما يرى بضرورة أن يتم إنشاء هيئة شرعية عليا في البنك المركزي، يختار أعضاؤها من بين الهيئات أعضاء الهيئات الشرعية في البنوك، وتكون مهامها إقرار معايير شرعية موحدة لجميع الأدوات المالية المطبقة في البنوك والنوافذ الإسلامية، وكذلك الصكوك الإسلامية، وهذا التدخل الإشرافي برأيه يؤدي إلى التقارب والتطابق بين التطبيقات على مستوى جميع البنوك وإصدارات الصكوك، ومن ثم تحقيق التنميط المنشود لتطبيقات المصرفية الإسلامية، أسوة بتطبيقات المصرفية التقليدية التي تتسم بالتشابه.

وأكد أن التنميط من شأنه أن يسمح بمزيد من الكفاءة في التطبيقات، ويتيح لجميع البنوك فرصا متساوية للمنافسة في السوق المصرفية، مع السماح بتوفير الموارد التي يتم إهدارها بصفة مستمرة من قبل البنوك على تكرار الجهود وإعادة اختراع العجلة كما سبق بيانه.

ويعتقد أن إنشاء الهيئة الشرعية العليا في البنك المركزي، وبدء أعمالها في إصدار المعايير الشرعية الملزمة للأدوات التمويلية المحدودة والمطبقة في السوق المصرفية، بما في ذلك الصكوك الإسلامية، يؤدي إلى تخفيف العبء على الهيئات الشرعية في ما يتعلق بهذه الأدوات والاكتفاء باعتمادها من الهيئة الشرعية العليا، مع بقاء الهيئات الشرعية الخاصة، في كل بنك تمارس الفتوى في المعاملات المستجدة، واستمرار الهيئة الشرعية العليا في استكمال إصدار المعايير الشرعية وتطويرها بالمستجدات.

في ظل ضعف الوظائف الشرعية المساندة في داخل الهيكل التنظيمي للمؤسسة المالية، وقلة الكوادر التي تقوم بهذه الوظائف بشكل فعال، يرى الباحث ضرورة أن توجه البنوك المركزية تعليماتها إلى المؤسسات الخاضعة لإشرافها، من خلال تأهيل فريق تطوير المنتجات في داخل البنك، ورفع مهاراته في مجال تطوير المنتجات الإسلامية.

كذلك استحداث وظيفة التزام شرعي طبقا للمعايير الصادرة عن مجلس الخدمات المالية الإسلامية، تكون من مهامها التأكد من تضمين المتطلبات الشرعية ضمن إجراءات العمل المعتمدة للمنتجات والعمليات، وتكون حلقة الوصل بين المؤسسة المالية والبنك المركزي في ما يتعلق بالمعايير والتعليمات الشرعية، وتكون ضمن إدارة الالتزام الحالية أو مستقلة عنها، والأولى داخلها للاستفادة من الخبرات القائمة.

كما يرى ضرورة استحداث وظيفة مراجعة شرعية داخلية، طبقا لمعايير الضبط الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ضمن إدارة المراجعة الداخلية أو مستقلة عنها، والأولى داخلها للاستفادة من الخبرات القائمة، بالإضافة إلى تأهيل الفريق القانوني في داخل البنك ورفع مهاراته في مجال فهم المعايير الشرعية للمعاملات المالية الإسلامية، وصياغة العقود في إطار المتطلبات الإشرافية «الشرعية» المعتمدة.

وشدد الباحث على ضرورة أن يتم تفعيل الدور الرقابي الإشرافي الشرعي للبنك المركزي، من خلال تأهيل الفريق المساند لأعمال الهيئة الشرعية العليا، ورفع مهاراته في صياغة المعايير الشرعية الخاصة بالأدوات والمنتجات المالية الإسلامية، وكذلك تأهيل فريق التفتيش البنكي لتشمل أعماله التأكد من التزام البنوك والنوافذ الإسلامية بالمعايير الشرعية، والتأكد من فاعلية وظيفة التدقيق الشرعي الخارجي، وغيرها من الوظائف آنفة الذكر في داخل الهيكل التنظيمي للمؤسسة المالية.