مطالبات بتعزيز الحوكمة الشرعية في القطاع المصرفي الإسلامي لإبعاد شبح نظيراتها الأجنبية

جامعة سعودية أعادت ما أثارته سندات إسلامية في «غولدمان ساكس» إلى الواجهة مرة أخرى

مقر لمبنى بنك غولدمان ساكس الأميركي («الشرق الأوسط»)
TT

يبدو أن إثارة بعض الشبهات حول صكوك «غولدمان ساكس» في وقت سابق، أفرزت واقعا يواجه الفقهاء بالكثير من الضغوط القادمة، من المجتمع المصرفي، حول ضرورة مراجعة الهياكل المالية المعقدة للمنتجات، قبل إجازتها، حيث أعادت جامعة الفيصل بالسعودية ما أثارته سندات إسلامية خاصة بعملاق المصارف الأميركية «غولدمان ساكس» إلى الواجهة مرة أخرى.

وكانت قد نظمت الجامعة السعودية، محاضرة، وصفها مشاركون فيها بأنها أول دراسة بحثية في العالم، حول الهيكلة المعقدة لسندات إسلامية لأحد عمالقة المصارف الأميركية، لتكمل جانبا من جوانب الإدارة المصرفية لطلابها بكلية إدارة الأعمال.

ووفق محمد الخنيفر المتخصص في هيكلة الصكوك، فإن مبادرة إصلاح صناعة الصكوك، التي بدأت مؤخرا بخطوة واحدة، على خلفية ما تم إنجازه في تجربة صكوك غولدمان، التي تأخر إصدارها أكثر من 6 أشهر، وذلك منذ الإعلان عنها في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي.

وقال الخنيفر وهو خبير مصرفي إسلامي لمجموعة «إدكوم أكاديمي» المصرفية الأميركية: «لعل من أهم تداعيات تلك الشكوك التي أثيرت حول صكوك غولدمان ساكس، هي الفتوى الصادرة من الهيئة الشرعية لبنك أبوظبي الإسلامي، والتي أفادت بأن هذه الصكوك غير شرعية، لتعيد التأكيد بذلك على فجوتين من الثلاث فجوات الشرعية، التي تم ذكرها في أوائل ديسمبر (كانون الأول) 2011».

ولم يشهد قطاع المصرفية الإسلامية، منذ أن قام على الوجود، صكوكا قائمة على التورق العكسي، فهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية لا تعترف بالصكوك القائمة على التورق العكسي، وعليه فإن لهيئة المحاسبة أن تنظر في مسألة تحديث المعايير الشرعية الخاصة بالصكوك وذلك بغرض مواكبة التطور السريع في الهندسة المالية.

ووفقا للخنيفر، فإن البورصة الآيرلندية غير قادرة، على تثبيت تداول هذه الصكوك على القيمة الاسمية، ما يعني أن هذه السندات، لن تكون شرعية، حيث إن الشريعة لا تتوافق مع تداول الديون بالقيمة السوقية.

ويبقى السؤال وفق الخنيفر، قائما في ما إذا كان الفقهاء، الذين وقعوا على فتوى إجازة تلك الصكوك، مبينا أن هناك قدرا من التفاعل مع تصريحات البورصة الآيرلندية المتعلقة بذلك، مبينا أن هذه الصكوك قائمة على الدين وتداولها بقيمتها السوقية يجعلها محرمه شرعيا، وفي حالت تجاهل القطاع المصرفي تلك التطورات فإن هذا يعني أننا نبارك ظهور سوق ثانوية لسندات غير شرعية مغلفة بقالب الصكوك.

وكانت قد هدفت الجامعة السعودية بذلك، إلى ردم الفجوة بين المحتوى التعليمي النظري والجانب التطبيقي منه وذلك عبر دعوة خبراء المصرفية الإسلامية في العالم للحضور وتقديم محاضرات للطلاب بهذا الخصوص.

وفي هذا الإطار قامت الجامعة بإقامة محاضرة، حول الهندسة المالية لصكوك غولدمان ساكس، شارك فيها محمد الخنيفر، مبديا آراء واضحة حول الفجوات الشرعية في هيكلة تلك الصكوك، مطلقا خلالها تحذيراته للقطاع المالي في التعاطي معها.

من جانبه، يعتقد الخبير الاقتصادي عبد الرحمن باعشن رئيس مركز الشرق للدراسات الاقتصادية والاستشارية، أن هذه المحاضرة التي نظمتها جامعة الفيصل، تنطلق من مسؤوليتها الاجتماعية تجاه المجتمع، معتبرا أن تصب في طريق التصحيح وتنبه لأهمية القيام بهذا الدور الغائب، منوها بضرورة اعتماد المؤسسات المالية الإسلامية والقائمين على أمرها، مبدأ الشفافية وتدريب الكوادر والرهان على الحرفية والكفاءة، في مسألة تطوير منتجاتها وتطوير آليات الرقابة الشرعية.

وأوضح أن هذه المحاضرة ترمي بالكرة في مرمى الجهات والمؤسسات المعنية بتفعيل وتطوير معايير الحوكمة، بهدف تحقيق الجودة والشفافية لكافة الشركات والمؤسسات المالية، التي تطلق منتجات إسلامية، مع ضرورة اتباع التخطيط الاستراتيجي الصحيح للمصرفية الإسلامية، مع أهمية العناية أيضا بالتعليم والأبحاث المتعلقة بذلك وتطويرها سواء كان ذلك في الجامعات أو بمراكز أبحاث متخصصة.

كما شدد باعشن على ضرورة أن تحاول الجهات والمؤسسات المالية الإسلامية، وأن تبتعد عن ممارسة الضبابية في منتجاتها، مبينا أن بعضها يمارس التزييف والتحايل، الأمر الذي خلق نوعا من الثغرات ونبه بعض المصارف الأجنبية التقليدية، بإمكانية غزو هذه الأسواق بنفس المنهج ولكن بشكل يتسم بالحرفية والمهنية والكفاءة، والتي يمكن أن خلالها أن تخفي شبهاتها التي تبدو على بعض مصارف المنطقة.

ويعتقد أن هذا الواقع يستدعي إعادة بناء هياكل المؤسسات المالية الإسلامية التي تعمل في منطقة الخليج، والعمل على الإدارة الكفؤة ونشر ثقافة الشفافية في تركيبها الهيكلية، مع أهمية الابتعاد عن نمطية الإجراءات الشرعة، والالتفات بشكل جدي نحو تطور أدواتها ومنتجاتها المالية الإسلامة، مشيرا إلى الاهتمام بشكل خاص بالهندسة المالية ذات كفاءة عالية.

ويرى باعشن بضرورة دراسة تحديات وواقع ما عليه حاليا، الهندسة المالية في الهياكل المصرفية الإسلامية ومنتجاتها ومراجعتها من خلال خبراء متخصصين، وذلك بهدف تفعيل وتنشيط المنتجات والأدوات المالية الإسلامية، والتي بدورها تنعكس إيجابا على صناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي.ولفت إلى ضرورة اختيار الآلية المناسبة لتصميم هندسة مالية مصرفية تستمد قوتها من التشريعات الإسلامية، مع ضرورة إخضاعها من حين لآخر لتقييمها وكيفية إنزالها على أرض الواقع، وذلك للعمل على تطوير منتجات مالية إسلامية جديدة تتمتع بقدر كبير من المرونة والاستمرارية بفاعلية، مع ضرورة ابتكار الحلول المالية الكفؤة.

وقال باعشن: «من شأن ذلك توفير منتجات إسلامية، تواكب حاجة العصر وتتوافق مع الشريعة في نفس الوقت، مع قدرتها على استيعاب المستجدات في عالم التقنية والتكنولوجية في كل المجالات، ما من شأنه إبعاد شبح المصارف الأجنبية الدخيلة من الدخول في مياهها الإقليمية».

وفي تعليقه على ما أثارته هذه الجامعة، أوضح المستشار الاقتصادي محمد بن فهد الحمادي، أن جريدة «الشرق الأوسط»، ضمن وسائل إعلامية أخرى، عملت على نشر قضية صكوك ساكس بشكل فيه كثير من المسؤولية، حيث أخذت الأصوات بموجبها، تنادي بالإصلاح الشرعي والمالي، وضح جليا أنه في تزايد مطرد، خاصة الإصلاح المؤسسي للقطاع المصرفي، فضلا عن مراجعة إصدارات الصكوك الجديدة بشكل أكبر. واتفق الحمادي مع كل ما ذهب إليه الخنيفر في هذا الصدد، بأن بعض الفقهاء طالبوا بإيجاد إطار عمل خاص بالحوكمة الشرعية المتعلقة بعملهم في القطاع المصرفي، مبينا أن المصارف، التي تدير عمليات الإصدار، لهذه السندات الإسلامية، أصبحت هي الأخرى، تأخذ على محمل الجد، مسألة «المخاطر الناتجة عن فقدان السمعة»، وذلك عبر قبول التفويضات الخاصة، بترتيب إصدار صكوك لمصارف تقليدية حول العالم.

وبرأي الخنيفر هذا ما يفسر المنهجية «الحذرة» من القطاع تجاه مسألة استغلال «أموال حملة الصكوك» لتمويل الأنشطة غير المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، لهذه المصارف، مشيرا إلى أن ذلك، ما يتوافق مع الفجوة الثانية التي تعرض لها في وقت سابق.

وكان الخنيفر المتخصص في هيكلة الصكوك، قد أشار في «الشرق الأوسط» في وقت سابق، إلى مذكرة تحليلية حول الهيكلة المعقدة لصكوك غولدمان ساكس والتي ينتظر أن يتم تسويقها في الخليج، مكتشفا خلالها وجود ثلاث فجوات تجعل من هذه الصكوك مخالفة للشريعة لتشتعل بذلك «المناقشة الجدلية العظيمة»، كما وصفها الإعلام الغربي.

وجاءت فتوى المصرف الإماراتي التي وقع عليها الشيخ محمد تقي عثماني لتدعم ما توصل إليه الخنيفر في مذكرته البحثية، والتي لاقت أصداء واسعة لدى العاملين في القطاع المصرفي الإسلامي.

وبسبب هذا الجدل فقد أصبحت الضبابية تحوم حول الصكوك الـبالغ قيمتها مليارا دولار وبدأ الإعلام الغربي يشكك في نجاح الاكتتاب المزمع لهذه الأوراق المالية التي تأخرت أكثر من 6 أشهر حتى الآن.

وبالعودة إلى المذكرة البحثية المنشورة، فإن هناك ثلاث فجوات بالهيكلة العامة لهذه الصكوك، حيث كانت قد أصدرت الهيئة الشرعية لبنك أبوظبي الإسلامي فتواها، تطرقت خلالها إلى الفجوتين اللتين تم ذكرهما في المذكرة البحثية المنشورة.

وحول هذه الفجوات الثلاث يقول الخنيفر: «أولا هناك مؤشرات بمذكرة الاكتتاب توضح أن الصكوك ليست (مرابحة)، كما يزعم، بل هي (تورق عكسي)، ومعلوم أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي قد أصدر فتوى في عام 2009 بتحريم التورق المنظم والعكسي»، معتبرا إياه مجرد حيلة لاستخدام الربا.

أما الفجوة الثانية، فتكمن في أن المصرف الأميركي سيستخدم هيكلة معقده بحيث ينتهي به المطاف لاستخدام أموال حملة الصكوك لتمويل عملياته الربوية، ويدعم الخنيفر رأيه هذا بقوله إن معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية لا تجيز إجراء التورق للبنوك التقليدية في حالة تبين أن استخدام السيولة سيكون في الإقراض بفائدة وليس للدخول في عمليات مقبولة شرعا.

إلى ذلك، ينوي المصرف الأميركي إدراج هذه الصكوك، إلا أن هناك شكوكا حول كيفية تقديم البورصة الآيرلندية ضمانات بأن هذه الأوراق المالية سيتم تداولها بالقيمة الاسمية.

وهنا يقول الخنيفر: «في العادة عندما يكون هناك تداول فإن ذلك يعني أنه سيكون هناك ارتفاع وانخفاض في قيمة هذه الصكوك، فلو تحقق ذلك فهذا يعني أننا نتداول الديون وهذا ما تحرمه الشريعة وهنا تكمن الفجوة الثالثة».

يشار إلى أن جامعة الفيصل، تم تأسيسها من قبل مؤسسة الملك فيصل الخيرية وهي جامعة بحثية غير ربحية ترتبط بعلاقات شراكة أكاديمية مع جامعات عريقة مثل هارفرد وكمبردج وإم آي تي.

إلى ذلك، أكد الحمادي، أن الإعلام لعب دورا كبيرا في رد فعل من قبل عمالة الصرافة العالمية، بسبب أنها أثارت شبهة التعاطي مع صكوك هذا البنك، والذي حاول من خلالها استغلال الأموال الخليجية، لامتصاص صدمة الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها عليه، وذلك بالدخول في الأسواق الخليجية كمستثمر يتمتع بمقومات النجاح، من حيث الاحترافية والكفاءة الكافية لإدارة الثروات الكبيرة.

ويعتقد أن في توجه البنك الأميركي أيضا استغلال للوضع المصرفي والاجتماعي الخليجي، والذي يتعاطى مع الشريعة الإسلامية مصرفيا واجتماعيا، حيث تعتبر منطقة الخليج إحدى أهم الأسواق الاقتصادية القوية، مشيرا إلى أن البنك الأميركي أراد أيضا أن ينافس البنوك الخليجية ومؤسساتها الإسلامية، التي تعمل وفق الشريعة الإسلامية.

وقال الحمادي: «كان بالإمكان أن يقوم هذا البنك بدور الشريك لا المنافس، وذلك ليتم نوع من التكامل ما بين الخبرة والكفاءة والحرفية، التي يعمل بها وبين الكفاءة المحلية من خلال تعاطيها مع المصرفية الإسلامية، التي تتمتع بها بنوك المنطقة»، مبينا أن «تبادل المصالح المتكافئة شيء محمود، خاصة فيما يتعلق بعنصري الحرفية والكفاءة المؤسلمة».

ودعا القائمين على المصارف الإسلامية وصناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي، ضرورة الاستفادة من هذه التنبيه، الذي صنعه الإعلام وهذه الجريدة، وذلك لدراسة هذا الوضع بروية وحكمة، والخروج بما يمكن تسميته جاهزيته، للتصدي لأي نوع من الاقتحام المصرفي الأجنبي الاستغلالي، محملهم مسؤولية اقتحام المصارف التقليدية العملاقة، الأسواق الخليجية خاصة، والإسلامية والعربية عامة.

ولفت إلى ضرورة إجراء إفتاء من قبل العلماء حيال طريق التورق العكسي أو ما شابه ذلك، في إشارة إلى عزم بنك غولدمان ساكس الأميركي الاستثمار في فوائض الخليج المالية الكبيرة والتي حرمت المؤسسات المالية الإسلامية من الاستفادة منها بسبب زعزعة ثقة العملاء فيها، بجانب مجاراتها المصارف التقليدية في تقديمها منتجات مصرفية تقليدية بثوب إسلامي.

وحذر من خلق الثغرات، وضرورة عدم السماح بعودة التورق العكسي، إلى الأسواق المصرفية الخليجية والإسلامية، سواء كان من قبل بنك غولدمان ساكس الأميركي في المنطقة، أو أي بنك غربي يشابه في التوجه، مشددا على ضرورة أن تجتهد المؤسسات المالية الإسلامية والهيئات الشرعية والرقابية، في أن تقوم بدورها على وجهه الأكمل، حتى تستعيد الثقة المتزعزعة في نفوس بعض العملاء تجاه بعض البنوك، التي تمارس نوعا من التحايل عليهم.