دراسة تنبه بخطورة لجوء مصارف إسلامية للاستثمار في السلع والمعادن للحصول على أموال بتكلفة أقل فائدة

أكدت وجود بنوك تزوّر عمليات شراء وبيع وهمية وتقدم صور «إيصالات مضروبة»

TT

نبهت دراسة إلى خطورة لجوء بعض المصارف الإسلامية، إلى استثمار جزء من أموالها في سوق السلع والمعادن، بهدف الاستفادة من العمولات التي تأخذها، والحصول على أموال بتكلفة أقل من سعر الفائدة، مؤكدة أن بعض هذه البنوك والشركات التجارية الأخرى، تقوم بتزوير عمليات شراء وبيع وهمية، وتقديم صور من إيصالات المخازن لا صلة لها بالواقع العملي، ولا يقابلها إيصالات أصلية، وبالتالي تقدم مستندات مزورة لمن يطلبها.

وطالبت الدراسة التي أعدها خبير الفقه والاقتصاد، الدكتور علي بن أحمد السواس النائب الأول لرئيس مجمع فقهاء الشريعة بأميركا، باستنهاض هيئات الرقابة الشرعية للوقوف لحقيقة ما يجري في هذه الأسواق، لكشف العمليات المزورة وعرض الحالات المكتشفة علنا، ومناقشتها من الجوانب المختلفة، واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها، مطالبة البنوك الإسلامية بضرورة الخروج من سوق السلع والمعادن.

وبالنظر إلى بعض صور القبض في هذا العصر، فإنه وفق قرار مجمع الفقه الإسلامي، فهناك صورتان من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا وهما أولا القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في حالات معينة، منها إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية، أو إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل، أو إذا اقتطع المصرف بأمر العميل مبلغا من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره لصالح العميل أو لمستفيد آخر، مع ضرورة مراعاة المصارف قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية.

وبحسب السواس، يغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة، التي يتمكن المستفيد بها من التسليم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.

أما الحالة الثانية من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا وفق السواس، فهي تسلم الشيك، بحيث يكون له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه المصرف، مبينا أنه في حالة قبض النقود، هناك بعض صور قبض المبيع، منها أنه عند استيراد السلع، وتصل إلى ميناء التسليم، مع تسلم أوراق الشحن المتصلة بها، يعتبر المشتري المستورد متسلما أي قابضا وإن لم يتم التسلم الفعلي.

ولذلك - والحديث للسواس - يستطيع المشتري أن يبيع في الميناء نفسه دون أن يقوم بنقلها إلى مخازنه الخاصة، مبينا أن العرف يكون عادة عندما لا يكون عنده مخازن خاصة، وتم القبض بالتخلية مع التمكين من التصرف، مشددا على أنه من غير الجائز البيع في عرض البحر، ما دام المتبايعان ليسا في السفينة وليس لكل منهما وكيل يقوم بالتسليم أو التسلم.

وقال السواس: «إن الذين يفعلون هذا يقولون إن الجهة الناقلة تعتبر وكيلا عن كل منهما في القبض، وهذا برأيه غير صحيح، فالجهة الناقلة أجير للنقل وليست وكيلا عن أحد، ولذلك تبقى السلعة في ضمان مالكها، ولا يجوز أن يتم البيع إلا بعد إمكان القبض ونقل الضمان».

ولاحظ أن الذين يستبيحون مثل هذا البيع، يمكن أن يعاد بيع السلعة بينهم مرات عن طريق تبادل المستندات لحاملها أو تظهيرها، دون أن يتمكن أحد من التسليم أو التسلم إلا بعد الوصول إلى الميناء، فإن كان فيها عيب أو نقص أو مخالفة للشروط والمواصفات تحمل ذلك المشتري الأخير دون إمكان الرجوع على البائع الأول.

وهذا برأيه، يختلف عن الحالة الأولى التي يتم فيها القبض المعتبر بالتخلية مع التمكين من التصرف، ذلك المشتري يستطيع أن يرجع على البائع بعد معاينة السلعة، أو نقلها إلى مخازنه، وعندما كنت العضو التنفيذي لهيئة الرقابة الشرعية لمصرف إسلامي «كنا ننص في العقد أن البيع يتم بعد وصول البضاعة، وأن المصرف مسؤول عن العيوب الظاهرة والخفية مدة ثلاثة أيام، وهذه المدة كافية للمعاين التامة، وتحمل المصرف مرات أثر وجوب العيوب».

وقال: «الذي يريد أن يبيع سلعا أو معادن عن طريق الأسواق العالمية أي البورصات، يرسل هذه السلع إلى أحد المخازن العامة، فيقوم المخزن بتفرغها، ثم يقوم بتقسيمها إلى كميات متساوية إلى حد كبير، وهي عادة تكون خمسة وعشرين طنا لكل كمية، ويقوم بالتعبئة، ويكتب على الغلاف الخارجي البيانات كاملة، كنوع السلعة ومواصفاتها، ومكان تخزينها».

وزاد: «تسجل هذه البيانات على الحاسب الآلي، ثم توضع في المكان المخصص لها، وتكتب ورقة بهذه البيانات، هذه الأوراق تعرف بإيصالات المخازن، وهي التي تتداول في البورصات، فالمشتري لا يتسلم السلعة وإنما يتسلم الإيصالات، وبها يستطيع أن يتسلم السلعة، ومن وقت الشراء يتحمل تكاليف التخزين، ولذلك يأخذ تكاليف التخزين عن المدة السابقة للشراء، ثم يدفع التكاليف عن المدة كلها عند التسلم أو البيع مرة أخرى».

وبتسلم الإيصالات تدخل السلعة في ضمانه وفق، ويتمكن من تسلم السلع، وهنا قال: «مخازن وتردام، وهي من أكبر المخازن، فرأيت الشحن والتفريغ، والوزن عند التعبئة والبيانات التي تكتب، وكان معنا صور لبعض إيصالات المخازن فرأينا ما سجل على الحاسب، فبعضها ألغي وسلمت السلعة، والذي لا يزال موجودا. ذهبنا إلى المكان المحدد، فوجدنا المكتوب على الإيصال يطابق تماما المكتوب على المكان الموجود به السلعة، ولذلك جرى العرف بأن تسلم الإيصال يعتبر تسلما لمضمونه، ويتم تداول هذه الإيصالات في البيع والشراء».

ويرجح السواس، بعدم جواز التصرف في المبيع قبل القبض، مبينا أنه ما دام القبض مرده إلى العرف، فإن صوره يمكن أن تتغير تبعا لتغير العادات والأعراف، مستعرضا بعض الصور المستحدثة منه، مشيرا إلى أنه بالقبض ينتقل الضمان، ويتمكن المشتري من التصرف.

وفيما يتعلق بالاحتفاظ بملكية المبيع، فإنه وفق السواس، من أهم الآثار المترتبة على عقد البيع انتقال ملكية المبيع إلى المشتري، مشددا على أنه لا يجوز احتفاظ البائع بملكية المبيع كضمان لأداء المشتري لثمن الشراء الآجل، وللبائع كما يعتقد، أن يتخذ ما يرتضيه من الوسائل المشروعة، لتوثيق الدين ولضمان أدائه في الأجل المحدد.

وأوضحت الدراسة أنبعض البائعين، الذين أدركوا عدم جواز الاحتفاظ بملكية المبيع، لجأوا إلى حيلة للاحتفاظ بالملكية وذلك عن طريق الإجازة المنتهية بالتمليك، مبينة أن هذا النوع من الإجارة بضوابطها الشرعية جائز، بحيث يكون العقد إجارة فعلا وليس عقد إجارة ساترا للبيع، إذ أن العين المؤجرة مثلا تكون في ضمان المؤجر، وهو الذي يقوم بالتأمين لصالحه.

وقالت الدراسة: «إذا لم يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين بسبب يرجع إلى ذات العين سقطت الأجرة، ويراعى في الإيجار أجرة المثل لا ثمن المثل، وهكذا يصبح العقد إجارة، مع وعد منفصل بهبة العين المؤجرة في وقت محدد».

أما إذا كان العقد لا يختلف عن البيع بالتقسيط من حيث التزام المستأجر بالأجرة دون النظر إلى استمرار الانتفاع بالعين، وعدم مراعاة أجرة المثل، بل تم تقسيط الثمن وسمي القسط إيجارا، كل هذا مع ضمان المستأجر للعين وتحمله لأقساط التأمين، فإن هذا يعني أنه عقد إجارة سائر للبيع، غير أنه في الحقيقة عقد بيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بملكية المبيع.

وفيما يتعلق بالكفالة والرهن وفق الدراسة، فإنه من وسائل الاستيثاق المشروعة اشتراط كفلاء مليئين، وتشترط المصارف الإسلامية عادة أن يكون حساب الكفلاء بالمصرف نفسه حتى يمكن الاستيفاء منه مباشرة، موضحة أن الرهن قد لا يكون للممتلكات للمدين غير العين المبيعة، وقد يكون للعين المبيعة نفسها، مبينة أنه لا ضير في هذا إذا كان الرهن قانونيا لا حيازيا، مشيرة إلى أن الرهن القانوني لا يمنع الراهن من الانتفاع بالعين المرهونة، ولكن يمنعه من أي تصرف ناقل للملك، أو ضار بمصلحة المرتهن الدائن.

ومما يعد رهنا ما تقوم به المصارف الإسلامية من تجميد بعض الودائع المصرفية، فيضع المدين أو كفيله مبلغا من النقود في الحساب الجاري أو الاستثماري لضمان أداء الأقساط في مواعيدها، ويتم حجز المصرف على هذا المبلغ فلا يسمح لصاحبه بالسحب منه ما دام الدين قائما، مشيرة إلى أن ووضع المبلغ في حساب الاستثمار لصالح المدين، يتفق مع حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم «لا يغلق الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه».

وترى الدراسة أنه من الخطأ أن يشترط المصرف وضعه في الحساب الجاري، أو في حساب خاص لا ينتفع به المدين، بل ينتفع به المصرف الدائن، حيث يضم كله أو بعضه إلى الأموال المستثمرة، ويأخذ المصرف ما يحققه من ربح، مشيرة إلى أن هذا يتعارض مع الحديث الشريف، ومع الإجماع.

وعن مخاطر الثمن فإنه وفق الدراسة، ربا الديون الناشئة عن بيع آجل، من ربا الجاهلية، بمعنى أنه إذا حل الموعد، وعجز المشتري المدين عن أداء الدين، تطبق القاعدة الجاهلية المعروفة «إما أن تقضي وإما أن تربي»، مبينة أن هذه القاعدة الجاهلية ما زالت موجودة في هذا العصر، حيث يطبقها البائعون الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة الإسلامية، وعادة يطبق سعر الفائدة الذي تأخذه البنوك الربوية.

ومن المشكلات الكبرى، التي تؤثر في مسيرة المؤسسات الإسلامية، عدم التزام كثير من المدينين بدفع أقساط الديون في مواعيدها المتفق عليها، مبينة أنه قليل من هؤلاء ذوو عسرة، وأكثرهم يماطلون مع القدرة على الأداء، نظرا لأن هذه المؤسسات لا تأخذ فوائد التأخير التي يلتزم بها هؤلاء مع البنوك التقليدية.

وفي حين أن كثيرا من المؤسسات لم تجد علاجا لهذه المشكلة، ووجدت حلا جزئيا في اللجوء إلى المزيد من الضمانات، غير أن بعض المصارف لجأت إلى حلول أخرى، ففي حالة عجز المدين أي المشتري عن الدفع، وعلم المصرف بهذا، رئي تقديرا لظروفه ورأفة به أن يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين، غير أن هذا التصرف يتعارض مع قول الحق تبارك وتعالى: «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة».

ووفق السواس فإن بعض المصارف تلجأ إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعا للزمن الذي يتأجل إليه الدفع، غير أن هذا برأيه مثل إعادة جدولة الديون غير الشرعية، وربما كان فيه شبه من المبدأ الجاهلي: «إما أن تقضي وإما أن تربي»، مبينا أن عددا غير قليل من المؤسسات الإسلامية، فرضت غرامات تأخير على المدين المماطل، مشددا على أن هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة وإعادة نظر.

وفيما إذا كان للدائن حق مطالبة المدين المماطل بالتعويض، أوضح السواس أن المجيزين رأوا أن الغني المماطل أوقع الضرر بالدائن، فلولا مماطلته لضم هذا المال فعلا في مدة المماطلة، ولذلك أجازوا أخذ تعويض بمقدار نسبة الربح التي كان يمكن أن يحققها دين المماطل لو استثمره الدائن، فمتى تبين أن المدين المماطل مليء غني أضاف الدائن إلى دينه نسبة تعادل النسبة التي حققها خلال مدة بقاء الدين في ذمته.

ولفت إلى أن الدائن ليس له إلا دينه، سواء أخذه وقت استحقاقه أم بعد مدة المطل، مبينا أن ما أجاز أحد من الفقهاء أن يدفع المدين قدرا زائدا من الدين كعقوبة تعزيرية، ولو قيل يدفع مقابل الزمن فهو غير شرعي، داعيا إلى ضرورة تبيان الهدف من العقوبـة التعزيرية ومعرفتها إن كان قد تحولت العقوبة إلى نوع جديد من الفائدة المحرمة.

وزاد أن بعض المؤسسات رأت أن المتعاملين معها الذين لا يؤدون الأقساط في مواعيدها بلغوا من الكثرة حدا يصعب معه النظر في كل حالة، والتفرقة بين مطل الغني وعجز الفقير، في ظل وجود عوامل أخرى تزيد الأمر صعوبة، ولذلك عند تأخر أي مدين عن الأداء يضاف على دينه ما يقابل الربح الذي تعلنه المؤسسة في حينه، ولا يستطيع أحد أن يفرق بين هذا وبين الفائدة المحرمة «يقال إن هذا الخطأ في التطبيق لا في الفتوى، ولكن على المفتي أن ينظر إلى ما يمكن تطبيقه».

وقال: «بعض المؤسسات الأخرى تمسكت بنص الفتوى، فكانت ترسل للمدين أولا حتى تتأكد من المطل قبل إنزال العقوبة، ويلاحظ هنا أن الأرباح التي تحققها المؤسسات الإسلامية أقل من الفوائد الربوية، في أوقات كثيرة، فالذين يستحلون هذه الفوائد استمروا في مطلهم غير عابئين بما تضيفه المؤسسة الإسلامية، وبذلك تحولت العقوبة التعزيرية إلى زيادة ترتبط بالربح والزمن، ورضي بهذا الطرفان».