التوقعات المبالغة بشأن الانكماش الاقتصادي لا تعني تغييب فرص نهوض الاقتصاد

TT

منذ اللحظة التي يكتشف فيها خبراء الاقتصاد خطأ توقعاتهم، تبدأ مرحلة جديدة من التأسيس لافكار ونظريات مختلفة عن السابق، فمنذ عشرين عاما قادت فكرة تخفيض الضرائب بشكل جريء الى تبعات ونتائج أدت الى ان نشهد أطول فترات للعجز المالي التي شهدها وقت السلم. ومنذ خمسة أعوام برزت فكرة ان شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) هي التي جعلت للشركات قيمتها حتى لو لم تحقق الشركات أرباحا أو أن انتاجها كان محدودا للغاية. وعلى نحو غير متوقع غرقت الاسواق بركود بعد ذلك لتدخل مرحلة الانكماش، اي ان الأسعار انخفضت بشكل تدريجي، تماما كما ارتفعت بشكل تدريجي قبل ذلك. واذا ما تساءل البعض حول كيفية حدوث ذلك، فيمكن الاشارة الى ان الجميع يتفقون على ان الانكماش المستديم قد يكون أمرا سيئا للغاية. واذا اقتنع الناس باستمرار انخفاض الأسعار سنويا، فلماذا يتوجب عليهم شراء أي شيء في هذه اللحظة، ولماذا الاستثمار في أي شيء الآن، ولماذا لا يحتفظ المرء بنقوده محشوة داخل الفراش، على أمل ان قيمتها ستتعاظم لاحقا؟

لكن حقيقة ان الانكماش يعد ظاهرة سيئة لا تعني انه مسألة حاسمة. فالمدافعون عن فكرة حتمية الانكماش لديهم أسبابهم. وأول هذه الأسباب ان واردات النفط العراقي ستطلق العنان لتخمة عالمية. سبب آخر هو ان القدرة على الانتاج تبدو كحقيقة مؤثرة في مختلف قطاعات الاقتصاد. اضافة الى وجود خطر الانكماش العالمي المتمثل في الصين، والتي يعمل سكانها البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة مقابل أجور زهيدة للغاية، حيث ستتمكن في القريب العاجل من انتاج كل ما يحتاجه العالم من السيارات والحاسوبات الآلية وغيرها من السلع. وهو ما يطرح سؤالا مهما، الى أي مدى ستصمد الأسعار العالمية في ظل مواجهة ضغوط انخفاض الاسعار؟

للاجابة على هذا السؤال لا بد من التمهل. ولنفترض ان أسعار النفط ستنخفض عن معدلها الحالي، المقدر بـ27 دولارا أميركيا، بحوالي خمسة دولارات للبرميل الواحد. وقد تنخفض في العام المقبل لتصل الى مستوى 20 دولارا أخرى؟

ان انخفاض أسعار النفط ليس انكماشا مستديما بل انه حدث يقع نتيجه لعامل محدد. كما ان انخفاض سعر النفط وتوفير المرء لبعض المال من شراء وقود أرخص سيقابله ارتفاع أسعار سلع أخرى.

ولكن ماذا عن تأثير ارتفاع القدرات الانتاجية؟ اليست هي أحد العوامل المسببة لانخفاض الأسعار؟ بالتأكيد، فهي تسمح للشركات بأن تبيع بسعر أقل، لكن لو أدت الى الانكماش، فان الأسعار ستنخفض نتيجة لذلك كما يشهد كل التاريخ الانساني.

ان نمو قدرات الانتاج ليس مشكلة بل هو معجزة، ولو لم يحدث ذلك النمو الانتاجي، لما تحسن مستوى معيشتنا وارتفعت مداخيلنا. كما ان العامل القادر على مزيد من الانتاج هو الذي يحصل على المزيد من الأجر في سوق الانتاج، مما يرفع قدرته الشرائية، ويزيد من الانفاق الامر الذي يحافظ على استقرار الأسعار، اذا لم يساهم في ارتفاعها. وذلك يقودنا الى فكرة ان الصين ستقوم بتصدير فقرها الينا من خلال تخفيض أسعار كل شيء. فالصين بالتأكيد باتت مؤخرا قوة تصديرية هائلة، لكن معظم نجاحها تم على حساب دول آسيا وأميركا اللاتينية ذات الايدي العاملة المتدنية الأجور التي تنتج سلعا مشابهة. وهكذا فان منتجات الصين ليست سببا في تخفيض الأسعار العالمية بشكل كبير، وكنتيجة لتفوقها في المنافسة مع سلع من المنتجين الآخرين ذوي الأجور المتدنية. لان السلع التي تنتجها الصين أساسا رخيصة الثمن. يضاف الى ذلك ان الصين وعند نقطة ما، لن تصبح دولة منخفضة الأجر. فالعملة الصينية مرتبطة رسميا بالدولار، وهو ما يمنحها مقومات هائلة للتحسن. ومتى ما تحسنت، فان أسعار منتجات الصين ستتحسن. وذلك كله سيتم في اطار نمو الاقتصاد الصيني بشكل عام. أما اليوم فلم يعد الانكماش أهم ما يثير قلق الاقتصاد. وحتى آلان غرينسبان وهو يعترف بضرورة تحمل هذا الواقع لبعض الوقت فان ما يمكن طرحه الواقع ضد الانكماش هو ان اقتصاد الولايات المتحدة على وشك النمو، بما في ذلك ما يطرحه دعاة الانكماش، وبشكل مثير للسخرية، من التأكيد على امكانية حــــــــدوث هذا النمو. وردا على مخاوف البعض فقد قرر مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) تخفيض قيمة الدولار، لأن الجميع يدرك بأن ذلك هو السبيل لمحاربة الانكماش.

وهكذا فان الأسواق المالية، التي وجدت نفسها بين فكي الخضوع للانكماش من جهة وضغط «النمو البطيء» من جهة اخرى تشعر بالثقة من أن المصرف المركزي سيخفض من قيمة النقود لمكافحة الانكماش، ليس خلال الربع الجاري من العام فقط بل وطوال هذا العقد.

ان متوسط عائدات سندات الخزانة ذات الأعوام العشرة، بلغ 3.11 في المائة، وهذه افضل نسبة يمكن الحصول عليها. وهنا لا بد ان البعض سيعتقدون بأن ذلك يعد معدل فائدة مقبولا، لأن البعض يقوم باقراض الحكومة المال بتلك الفائدة.

ان الذين يعتقدون بمعدل فائدة منخفض هم جميع أولئك الذين يعيدون تمويل شراء منازلهم للمرة الثانية على الأرجح. فهؤلاء يهرولون لاقتراض المال مستفيدين من أسعار الفائدة المنخفضة تشاطرهم في ذلك المؤسسات التي تمولهم. وما تعنيه معدلات الفائدة المنخفضة لارباب البيوت والمؤسسات المالية هو انهم سيواجهون نفقات اقتراض منخفضة التكاليف لسنوات عديدة مقبلة، بطريقة تمهد السبيل لنمو أسرع ليس فيه انكماش. وسيكتشف دعاة الانكماش الذين قدموا المال لهم بمعدلات الفائدة هذه انهم الخاسرون عندما ترتفع المعدلات مرة أخرى بعد استئناف الاقتصاد لنموه، تماما كما هو الحال في كل مرة.

على ان قوة قناعة دعاة الانكماش ستحمي الاقتصاد من الخطر الذي يتنبأون به. وهي مسألة غريبة يمكن لخبراء الاقتصاد فقط أن يفهموها.

ـ الكاتبه نائبة سابقة لوزير التجارة في عهد الرئيس بيل كلينتون، وهي حاليا نائبة رئيس ومديرة أبحاث هيئة تجارية غير حزبية تختص بدراسة السياسات الاقتصادية وتدعى لجنة التنمية الاقتصادية.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»