كيف نعالج مشكلة الفقر

TT

ربما ينتظر البعض أن تتضمن الموازنة العامة للعام القادم زيادة في الرواتب أو حتى منحاً نقدية لكل مواطن، تدخل كمبالغ مقطوعة في حساباتهم البنكية، معتقداً أن ذلك من باب معالجة مشكلة الفقر. لكن الحقيقة أن التنمية الشاملة في صور مثل تشييد الطرق والجسور وتوفير الخدمات الطبية والتعليمية وتحلية المياه وقروض الإسكان الميسرة ومختلف الخدمات الضرورية للمواطن، وأن موازنة تصل مصروفاتها المعتمدة إلى حوالي 280 مليار ريال من أبرز ملامحها أنها للتنمية الشاملة، خير للمواطن على المدى المتوسط والبعيد. فبعد أن اعترفنا بأن لدينا مشكلة فقر، وبدأنا العمل جاد (على أعلى المستويات) لحلها، ونحن على ثقة أن الأمر لا يعدو مشكلة تحل، كما تغلبنا على مشاكل قديماً أكبر منها وأعضل، كالأمية وقطع الطرق وشح الخدمات والمواصلات وغيرها، بعد أن صار كل ذلك من الذكريات. والفقر ليس عيباً في حد ذاته، لكن الحقيقة المرة التي يجب أن نعترف بها جميعاً، هي أنه في ظل المعطيات والمعايير المتعارف عليها، فالمفترض ألا تواجه بلاد مثل السعودية «مشكلة فقر»، بالنظر لما حباها الله به من وفرة في المقومات الأساسية للثروة من موارد بشرية ومالية وطبيعية. ومن هنا فإن الخطوة التالية في الاتجاه الصحيح، لحل هذه المشكلة هي (من وجهة نظري) ان نعترف بأن مشكلتنا تتركز في إدارة هذه الموارد على مستوى الأفراد والأسر، آخذين بالاعتبار أنه مهما عملت الجهات الرسمية لمعالجة مشكلة الفقر، فإن المشكلة في تعاظم وقد لا تجد طريقها إلى الحل، ما لم يتعامل معها الجميع بإيجابية. ومن هذا المنطلق علينا أن نتذكر أن جلب الثروة يتم إما عن طريق: زيادة الدخل أو تخفيض الإنفاق، وأن الذي يريد حل مشكلة الفقر عن طريق زيادة الدخل فقط، فكأنما يدخل السباق برجل واحدة. ولست هنا أدعو لأن يقتصد الفقراء المعدمون، الذين يمدون أيديهم للناس وهم لا يجدون ما ينفقون على حاجاتهم الأساسية. لكنني أدعو إلى النظر إلى المجتمع ككل وتشخيص أين ينفق الأفراد دخولهم. ولو تعاملنا مع «مشكلة الفقر» بإيجابية وشفافية أكثر، لوجدنا أن معظم خيوط حلها بيد وسائل الإعلام، ولوجدنا أن حاجة المجتمع للتوعية، لا تقل عن حاجته للدعم المادي، ولوجدنا أن معظمهم بأمس الحاجة إلى دراسة أوضاعهم وبحث أسباب فقرهم وحلها بطرق إدارية، ولنا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وكيف تعامل مع الفقير الذي مد يده وهو فقير فعلاً، ونتأسى بالطريقة التي تعامل معه بها، وكيف أنه لم يعطه المال والطعام لينام في بيته، كما يفعل بعض دول العالم المتحضر اليوم في ما يعرف بمعاش الضمان، لكنه صلى الله عليه وسلم أعانه على كسب قوته، وسن له آلية واضحة وأمره أمراً باتباعها. ومن هنا فالمطلوب من وسائل الإعلام أن تنشر الوعي بين أفراد المجتمع، وتوضح للعامة أن الفقر ليس عكس الثراء، وأن هناك فجوة كبيرة بين المفهومين. وأن من الطبيعي «ألا يكون الناس أمة واحدة» كلهم في مستوى معيشي واحد. وأنه حتى الأب لا يستطيع أن يجعل جميع أبنائه الذين من صلبه، في مستوى معيشي واحد، وأن هناك من يركب السيارات الفارهة والطائرات، ومن يركب الدراجات. وأن سنة الحياة أن الله رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات، وجعل الناس بعضهم لبعض سخرياً. علينا ألا نساعد الكسول على كسله، وهو قادر على الكسب الشريف والمشاركة في العملية الإنتاجية، وأن لا نؤمن للكسول دخلاً يعينه على كسله، وأن نصارح الناس بمستوى تدني إنتاجيتهم، ونقدم لهم المقارنات بالشعوب الأخرى، ونحفزهم على الكدح ونذكرهم بأننا في مرحلة تحدي وتنافس مع شعوب العالم، التي سبقتنا في معظم المجالات، واننا كمجتمع مسلم مستهدفين، ونتذكر ونذكر اخواننا أن منا في الماضي القريب من يركب الدراجة النارية والهوائية، ولا يخطر بباله أو يقبل أن يصنف بالفقير. وبالأمس القريب كانت مداخل المدارس ومقار العمل بها أماكن مخصصة لوقوف الدراجات. واليوم تجد حتى الطالب المراهق في المرحلة الثانوية والمتوسطة، لا يحضر إلا في سيارة مع سائق أو يقودها هو بنفسه، أو يستأجر سيارة (ليموزين)! ذاك كان حالنا، ولست أقول يقولون، لكنني أعرف في طفولتنا أننا كنا نمشي المسافات الطويلة كل صباح من وإلى المدرسة الابتدائية، ومن زملائنا من يمشي الكيلومترات على رجليه وهو ليس بفقير. أما اليوم فبعض الفقراء من يقف على باب المسجد بعد أن يذرف الدموع أمام المصلين، فإذا جمع الغلة ركب سيارة أجرة مكيفة وتوجه لمبتغاه. أكثر من ذلك لدينا من يصنف السفر للخارج لقضاء فترة الصيف أو للعمرة من الأساسيات، وربما استدان لينفق عليها! وهناك من احترف السفر في مواسم الصيف، يمد يده لإخوانه المواطنين، يستدر عطفهم ليساعدوه على أنه منقطع في بلاد الغربة، هذه الفئة ليست بحاجة إلى أموال بقدر ما هي بأمس الحاجة إلى توعية وضبط سلوكيات وربما عقوبات رادعة. نحن بحاجة (فعلاً) إلى تحديد منصف للحد الأدنى من الدخل، الذي يفي بتغطية الحاجات الأساسية للفرد، ونوفر للجميع الخدمات الصحية والتعليمية والسكن المناسب، وأن نجعل من تعليمنا معداً مناسباً لشغل الفرص الوظيفية ونكثف الجهود على المسارين، زيادة الدخل وترشيد الإنفاق، ونشعر الجميع بالمسؤولية للمشاركة في حل المشكلة.

* محلل مالي سعودي