مصر: الحكومة تخطف الكفاءات المتميزة من الشباب في القطاع الخاص وتستعين بخبراء البنوك

القطاع العام يبدأ دورة عكسية ويتجه لاحتضان الكوادر الجديدة بمرتبات مجزية

TT

منذ نجاح المصارف العامة في حل بعض مشاكل الديون المتعثرة بعد الاستعانة بخبراء القطاع الخاص والخبراء الدوليين اصبح هناك اتجاها متزايدا لجذب الكفاءات الموجودة بالقطاع الخاص للعمل بمرتبات مجزية في الحكومة وبعد أن عاش القطاع الخاص طيلة الثلاثين عاما الماضية ينتقي ويخطف المتميزين في القطاع العام انقلب الوضع واصبحنا بصدد دورة عكسية.

هذا الاتجاه بدأ في حكومة الدكتور عاطف عبيد السابقة حين تفاقمت مشاكل القطاع المصرفي وكان الحل الاسهل هو الاستعانة بذوي الخبرة من رؤساء المصارف المشتركة والاجنبية الذين حققوا انجازات في مناصبهم ليتعاملوا بنفس النجاح مع مشاكل المصارف ودعم هذا الاتجاه وجود عدد كبير من الشباب النابغ والحاصلين على اعلى الشهادات العلمية من الجامعات الأجنبية وقد تم جذبهم ليعملوا في هيئات ووزارات للاستعانة بخبرتهم وفقا لكادر خاص ومرتبات خاصة لم تعد الحكومة في النهاية من ايجاد ترتيبات لدفعها لهم.

وشهد الهرم الوظيفي الحكومي الاستعانة بالخبرات الدولية في قمته وبالشباب النابغ في قاعدته وحققت تلك الخبرات نجاحا لافتا في وزارات التجارة الخارجية والاتصالات والاستثمار وهيئة الاستثمار والبورصة المصرية.

ويعلق شريف سامي الخبير في الاستثمار والتنمية البشرية على هذا الاتجاه قائلا إن المنافس الجديد في سوق العمل هو العمل الحكومي وقد بدأ الاتجاه للاستعانة بالخبرات المتميزة في القطاع الخاص في القطاع المصرف وقطاع الاتصالات من باب «مكره اخاك لا بطل» فقد وجد المسؤولون أن افضل وسيلة لتقويم البنوك العامة وحل مشاكل الديون المتعثرة التي تتراكم بسبب عدم وجود ممارسات مرنة واقتصادية فعالة هو الاستعانة بكبار الرؤساء والمديرين ذوي الخبرات الدولية في البنوك الأجنبية في قمة الهرم الوظيفي في مناصب الرئيس ونوابه وكبار المديرين لاقسام الائتمان والخزانة وتقنية المعلومات والموارد البشرية وشاهدنا التجربة في بنك القاهرة ثم بنك مصر ثم بنك التنمية الصناعية والبنك العقاري وتم التوصل إلى اتفاق لمنح الكوادر المصرفية الجديدة مرتبات تقارب مرتباتهم في القطاع الخاص من خلال صندوق يتم تمويله من برنامج للمؤسسات الدولية المانحة وتشرف عليه وزارة التعاون الدولي أما قطاع الاتصالات فابرز مثال هو تولي المهندس عقيل بشير منصب رئاسة مجلس إدارة شركة الاتصالات المصرية وهي اكبر شركة حكومية في مصر من حيث عدد الموظفين وحجم الأصول وحجم الايرادات وتزايد الاتجاه في الاستعانة بالكفاءات في مناصب مساعد الوزير ومستشار الوزير والهيئات الاقتصادية الهامة مثل هيئة الاستثمار التي تولى رئاستها الدكتور زياد بهاء الدين الذي عمل طوال حياته في مكتب للمحاماه والاستثمارات القانونية والاقتصادية وفي رئاسة شركات خاصة كذلك نواب رئيس الهيئة وجميعهم من ذوي الكفاءة في القطاعات المصرفية والشركات العالمية من قبل.

ويشير شريف سامي الى أن الأمر لم يقتصر على قمة الهرم بل اتجهت الوزارات الحكومية إلى الاستعانة بالشباب المتميز الحاصل على دراسات عليا في الجامعات الأجنبية ليكونوا بهم وحدة خاصة ومكاتب فنية ومكاتب فنية تعمل في «مطبخ» المسؤولين والوزراء بمرتبات تصل إلى عشرة آلاف جنيه أي اكثر من مرتبات الوزراء الرسمية حيث لا يزيد راتب الوزير عن 4 آلاف جنيه.

ويشير شريف سامي الى أن المجتمع المصري منذ اواخر السبعينات كان يعتمد على تقسيم فئوى لمن يملك ملكات التميز والطموح ويتشكل وفقا لهذا التقسيم التدرج الاجتماعي ونظرة المجتمع فالمتميز جدا كانت تجذبه الشركات الأجنبية والمتميز يجذبه القطاع الخاص الناجح والاقل تميزا يجذبه قطاع الأعمال وفي نهاية القائمة لا يجد الشخص العادي في تعليمه وطموحاته سوى الالتحاق بالعمل الحكومي وبعد نجاح الحكومة في جذب الكفاءات المتميزة إلى قطاع المصارف شهد هذا القطاع ايجابيات كثيرة تمثلت في سرعة ايقاع العمل والانجاز السريع والمرونة في التعامل مع العملاء والجهات الأجنبية والتجديد في التوجه للعميل بمنتجات جديدة بل وتغيرت اعلانات البنوك فاصبحت تركز على الخدمة والعميل لا على نشر صور رئيس مجلس الادارة أو الوزير المسؤول واذا امكننا تقييم هذه التجربة في القطاع المصرفي بمقاييس الارباح والخسائر فان الوضع يختلف في الهيئات الحكومية والوزرات لان لها بعدا خدميا وحيث تأدية وظيفة يصعب الحكم عليها بمعايير قياسية المشكلة التي يثيرها خبير التنمية البشرية شريف سامي هي تفاوت الاجور والمرتبات في القطاعات الحكومية فالقطاعات التي يترتب عليها تحقيق تنمية بشرية حقيقية في مصر مثل قطاعات التعليم والصحة والاعلام فيها ادنى مستويات للاجور وبالتالي لن يقدم على العمل بها إلا متوسط الكفاءة والطموح بينما تتركز المستويات العليا في الاجور في قطاعات البترول والبنوك.

ويقول د. على المليجي وهو أحد الكفاءات التي استعانت بها الحكومة المصرية ليتولى رئاسة مركز إعداد القادة بعد سنوات من عمله في المجالات الدولية كنائب الوحدة التنفيذية للمعونة الانمائية والاكاديمية العربية ومشروعات الأمم المتحدة أن مصر لا تعاني من مشكلة «بطالة» فهناك حجم كبير من الوظائف والاحتياجات الوظيفية لكن المشكلة أن المعروض في سوق العمل ليس مؤهلا لهذه الوظائف المطلوبة في السوق بمعناه الدولي وليس المحلي فقط.

وقد انتقل الفكر من النظام الاشتراكي إلى الليبرالية.

وتحاول الحكومة الانتقال من زمن شؤون الافراد والتعامل مع الموظف على انه «ملف ورقي» إلى مستوى إدارة الموارد البشرية والتعامل مع الموظف على انه من أصول الشركة وليس مجرد رقم.

لذلك اتجهت الحكومة للاستعانة بالكفاءات في اكثر المستويات خطورة في قمة الهرم الوظيفي وهو مستوى الرؤساء والمديرين لانه يتصل باتخاذ القرارات الهامة واستجاب عدد كبير من المصريين العاملين بالهيئات الدولية والعالمية وهناك من كان يتقاضى مليون ونصف دولار سنويا وقبل العمل في الحكومة بـ 1 : 10 من هذا المبلغ.

ويؤكد د. علي المليجي انه لا توجد مشكلة تواجه تلك الكفاءات في الانتقال من بيئة القطاع الخاص الى بيروقراطة القطاع العام فمشاكل وعيوب القطاع الحكومي تتركز في تكدس الموظفين وغلب الجانب الاداري عن الجانب الفني وجمود اللوائح المالية والادارية وعد مرونة القوانين.

كما أن الاستعانة بالمصريين ذوى الكفاءة الدولية افضل من الخبراء الأجانب لان المصري من جانب يستطيع التعامل مع الجهات الأجنبية بنفس العقلية ومن جانب آخر فهو يدرك تماما مشاكل القطاع الحكومي من واقع معايشته للحياة المصرية والمشكلة هنا في الاجور التي يتم صرفها من صندوق المعونات الأجنبية لهذه الكفاءات فلابد للدولة أن تخلق «ميكانزم» للتمويل الذاتي لان الاستمرار في الاعتماد على المعونات الأجنبية لن يجدي على المدى الطويل.

ويصف محمود عطا الله نائب رئيس هيئة الاستثمار للمناطق الحرة تجربة انتقالية من القطاع الخاص الى الحكومة بانها انتقال إلى الجانب الآخر من المائدة فقد عمل طيلة ثمانية عشر عاما في البنك العربي الافريقي وبنك HSBC وصولا إلى منصب العضو المنتدب لشركة HSBC للاوراق المالية وقد اتخذ قراره بالعمل في هيئة الاستثمار كنوع من التحدي في تحقيق نجاح في خلق مناخ استثماري مشجع للمستثمرين والقضاء على المعوقات والصعاب وهى أيضا تنطوي على خدمة قضية وطنية مصيرية في مصر ويقول: هي مخاطرة محسوبة فالمناخ العام يشجع على العمل والصلاحيات الممنوحة كثيرة وكلها تصب في خدمة المستثمر ولا استطيع أن ادعي أن هناك معوقات بيروقراطية أو حكومية واجهتني في عملي بل على العكس تملك الهيئة موظفين وشبابا لديهم تصميم على النجاح وسرعة في الاداء حتى اننا اصبحنا نطالب القطاع الخاص بالعمل بنفس السرعة والانجاز الذي يتم به العمل في الحكومة.

يبقى أن نقول ان هناك قطاعات رسمية ما زالت توصد ابوابها على نفسها ومنها مؤسسات كانت حتى في العصر الشملوي تهتم بخطف الكفاءات من المصادر المتاحة ومنها الصحف القومية مثلا ايضا فان إعلان الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار منذ اسابيع بأنه يحذر القطاع الخاص لان قطاع الأعمال العام والحكومي سيجذب مزيدا من الخبرات قد آثار حالة من القلق خاصة ان القيادات الحكومية يصل عددها إلى تسعة آلاف مدير وان التجديد في هذه القيادات وادخال عناصر جديدة اليها سيتم عبر خطة متدرجة لانه يستحيل عمليا انجازه بسرعة مشيرا إلى أن أول توجيهات الرئيس للحكومة الجديدة بعد حلف اليمين كانت الاهتمام بالقوى البشرية في جهاز الدولة.

أن القطاع الخاص ليس المنزعج الوحيد لكن الكوادر الحكومية القديمة اكثر انزعاجا وتلك قصة أخرى.