شرح العوامل المؤثرة فعلاً على أسعار النفط الخام

سعره في أماكن الإنتاج أقل من نصف السعر النهائي الذي يدفعه المستهلك

TT

مع تخطي سعر برميل النفط الخام حاجز السبعين دولارا خلال الفترة الماضية، أصبحت التساؤلات تتزايد حول تأثير ارتفاع أسعار النفط على اقتصادات الدول المستهلكة ومستويات العرض والطلب العالمي وردود الفعل المحتملة من قبل الحكومات، وأخيرا إمكانية استمرار الأسعار عند هذه المستويات.

وبنظرة عاجلة على الأسواق النفطية، نرى أن الأسعار الحالية لخام غرب تكساس الوسيط (WTI) هي ضعف متوسط السعر خلال الخمس السنوات الماضية. وكما هو متوقع فلقد أدلى المحللون والخبراء والصحافة بدلوهم للإجابة على هذه التساؤلات، فنجد في مختلف وسائل الإعلام الكثير من الآراء حول موضوع تأثير الأسعار على اقتصادات الدول. وكثيرا ما تتم المقارنة بين أوضاع اليوم وأوضاع الاقتصاد والسوق النفطي في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات حيث شهد السوق آنذاك ارتفاعا كبيرا في الأسعار كما هو موضح في الرسم تبعه تأثير قوي وسلبي في الاقتصاد والطلب على النفط.

ومن المثير للاهتمام أيضا أن جميع الدراسات التي تمت من قِبل شركات النفط والمعاهد العلمية والجامعات والمستشارين في السنوات الماضية لم تضع أي تصور أو سيناريوهات لوصول الأسعار الى مستوياتها الحالية. وكان التفكير السائد أن اقتصادات العالم ومستويات الطلب سوف تنهار عند هذه المستويات. ولعل الدرس الحقيقي في هذا الشأن هو أن الجميع كان مخطئا بشأن إمكانية وصول الأسعار الى مستويات اليوم من ناحية، ومستويات النمو الاقتصادي وما يرتبط به من طلب مرتقب على النفط في ظل هذه الأسعار من ناحية أخرى.

ويعزى السبب الأساسي في عدم صحة التوقعات السابقة إلى أن أسعار النفط تخضع لمجموعة كبيرة من العوامل المتشابكة والمتغيرة في آن واحد. وبعض تلك العوامل منظور، بينما البعض الآخر غير منظور ويكاد يستحيل التنبؤ بحدوثه مثل إعصار كاترينا الذي اجتاح خليج المكسيك وهي المنطقة المهمة من حيث إنتاج وتكرير النفط. ولكن العوامل الأساسية التي ينبغي أخذها في عين الاعتبار عند النظر في مسألة تأثير أسعار النفط على الاقتصاد وتقديرات الطلب المستقبلي كثيرة ومتشابكة، فالعلاقة بين سعر النفط والطلب معقدة وفي تغير وتطور مستمر. ولن يتطرق هذا المقال الى أسباب الارتفاع في الأسعار ولن يسعى لإعطاء توقعات للأسعار المستقبلية، بل قد يدرك القارئ عند نهاية المقال أن من المستحيل أن يجزم أحد، مهما بلغت درجة معرفته، باتجاهات الأسعار والمستويات المتوقعة لها مستقبلا. ولكن المقال يبرز أهم العوامل المتعلقة بتأثير سعر النفط على الطلب مع إيضاح تأثير كل منها وبشكل مختصر.

«سعر النفط الحقيقي» هو من أكثر العوامل وضوحا حيث أن القوة الشرائية للعملات تضعف مع الزمن حسب مستويات التضخم. وللتوضيح فإن متوسط سعر خام برنت في عامي 1979 و1980 كان حوالي 36 دولارا وهو ما يعادل 80 دولارا بعملة اليوم، لذا تبقى أسعار اليوم، مع ارتفاعها ظاهرياً، أقل من السعر الحقيقي لها في ذلك الوقت. وعليه فإن تأثير الأسعار على الطلب والاقتصاد يختلف من سنة الى أخرى حسب القوة الشرائية.

يلبي النفط أكثر من ثلث طلب الطاقة العالمي وهو أقل من مستوياته في السبعينات حيث انخفضت حصة النفط بين مصادر الطاقة بعد طفرة الأسعار. وهنا تأتي أهمية عامل «حصة النفط في مزيج الطاقة»، حيث تتفاوت حصص النفط بمزيح الطاقة للدول المختلفة حسب تركيبة اقتصادها ووفرة النفط محلياً. ففي السعودية مثلاً يلبي النفط حوالي 60 في المائة من استهلاك الطاقة مقارنة بـ38 في المائة في ماليزيا و20 في المائة في جنوب أفريقيا. ولذا فإن تأثير الأسعار على الاقتصاد والطلب يكون أكبر في الدول التي يكون للنفط فيها دور رئيسي في مزيج طاقتها ولن يكون التأثير بنفس المستوى بين كافة الدول نظراً لاختلاف حصة النفط في مزيج طاقة كل منها.

زيادة «الكفاءة في استعمالات النفط»، هو عامل مهم آخر يسمح بتخفيض استهلاك النفط دون تأثير سلبي على الاقتصاد. وهناك مستويات متباينة عالميا من الكفاءة، ففي الولايات المتحدة تحسنت كفاءة السيارات بشكل كبير في أواخر السبعينات والثمانينات ثم استقرت خلال التسعينات نظرا لانتشار السيارات ذات الكفاءة المنخفضة على خلاف أوروبا الغربية واليابان حيث استمر السعي للوصول إلى كفاءة أفضل خلال الثلاثة العقود الماضية. أما الدول النامية فتتسم عموما بمستويات كفاءة منخفضة من الدول الصناعية، ونظرا لعدم ثبات مستوى الكفاءة بين الدول فيكون الطلب على النفط في كل منها في وضع مختلف بسبب تغيير الأسعار. «ضرائب الإستهلاك» هي عامل آخر تتحكم أغلب الدول في أسعار النفط عن طريقها، فالمنتجات النفطية يتم التحكم بها عن طريق الدعم أو الضرائب وبالتالي فإن أسعار المنتجات قد لا تتبع تقلبات أسعار النفط العالمية. بالإضافة الى ذلك فقد تحد آلية الضرائب من تأثير الأسعار العالمية على السعر النهائي الذي يدفعه المستهلك. وللتوضيح، فإذا كان في بلد ما سعر اللتر الواحد من البنزين 0.50 دولار وكانت الضريبة 0.50 دولار، فإن زيادة 20 في المائة على سعر البنزين إلى 0.60 دولار للتر تسبب زيادة قدرها 10? فقط في السعر النهائي البالغ 1.10 دولار. وتزيد المسألة تعقيدا حين نعلم أن بعض الدول المستوردة للنفط تفرض ضرائب أعلى على المنتجات المكررة المستوردة مقارنة بالضرائب على النفط الخام بغرض تشجيع استثمارات التكرير المحلية علاوة الى أن آليات ومستويات الضرائب تختلف من دولة الى الأخرى.

قد يندهش القارئ حين يعلم أن سعر الخام في أماكن الإنتاج يمثل أقل من نصف السعر النهائي الذي يدفعه المستهلك عالمياً، فالأسعار المعلنة للنفط الخام في وسائل الإعلام والمتداولة بشكل واسع هي أسعار النفط في مناطق الإنتاج والاستهلاك الرئيسية. أما السعر الذي يدفعه المستهلك النهائي فيكون أعلى بشكل كبير نظرا لتكلفة الشحن من مناطق الإنتاج (أو التكرير) الى منطقة الاستهلاك، وهو ما يأتي بنا إلى عامل التأثير الخامس: «تكلفة الشحن والتكرير والتسويق» وهي تكلفة تضاف الى تكلفة الضرائب التي ذكرت سابقا. تتسم أسواق النفط العالمية بتوفر تشكيلة واسعة من الزيوت تختلف من حيث خاصية الكثافة، وهي خاصية تحدد ماهية النفط إن كان من النوع الخفيف أو المتوسط أو الثقيل، كما تختلف أنواع الزيوت في خاصية نسبة الكبريت الموجودة بها، وهي خاصية تحدد هل النفط من النوع الحلو أو المر. وتبعا لذلك فالأسعار تختلف من صنف الى آخر، والزيوت من النوع الخفيف والحلو مثل (WTI) تعتبر الأغلى سعرا. ويتم تسعير أغلب الزيوت عن طريق خصومات من زيوت تسعير تسمى «زيوت القياس (الزيوت المرجعية)»، وأشهرها خام (WTI) الذي ينتج في غرب تكساس في أميركا، وخام برنت الذي ينتج في بحر الشمال. ومن الخطأ أن يعتبر سعر الزيوت المرجعية هو متوسط السعر لجميع الزيوت لأن أغلب زيوت العالم أثقل وبنسبة كبريت أعلى من الزيوت المرجعية وبالتالي يكون سعرها أقل. وبالتحديد كان متوسط السعر العالمي لجميع الزيوت أقل من خام غرب تكساس بثلاثة دولارات قبل أربع سنوات وارتفع الفرق بنهاية العام الماضي الى سبعة دولارات. والفرق هذا متقلب حسب أسعار المنتجات النفطية المكررة، ووضع طاقة مصافي التكرير، ونوعية الزيوت المنتجة عالميا ومدى توفرها.

الدولار الأميركي أكثر العملات تداولا في العالم ويستخدم في المبيعات الدولية للنفط والمنتجات المكررة والمواد الأساسية والمعادن النفيسة. ولكل دولة عملة تستخدم في تعاملاتها التجارية الدولية والداخلية لها مستوى صرف مقابل الدولار على حسب حجم واتجاه التجارة مع الدول الأخرى وأسعار الفائدة ومدى تدخل البنك المركزي لحفظ سعر الصرف عند مستويات معينة. وهذا يعني أن لكل دولة وضعا خاصا من ناحية تقلبات سعر صرف عملتها مقابل الدولار، ويتبعه فرق في القوة الشرائية لخامات النفط المستوردة بين الدول وبالتالي تأثير الأسعار عليها يختلف. فعلى سبيل المثال، في أوضاع السوق الحالية وبسبب سعر صرف الدولار يدفع المستهلك الأوروبي للمنتجات النفطية سعرا أقل مما يدفعه المستهلك في الدول الأخرى نتيجة لارتفاع عملة اليورو مقابل الدولار.

يؤثر «تنوع قطاعات الاستهلاك» بطريقة مختلفة، فمن البديهي أن يكون تحليل تأثير الأسعار مبنيا على دراسة اقتصادات وخصائص الاستهلاك في الاستخدامات المختلفة لمشتقات النفط. وعادة ما تحصر هذه الدراسات استهلاك النفط في ثلاثة قطاعات رئيسية هي النقل والصناعة والتدفئة. وتتعرض لتعقيدات إضافية، فقطاعات النقل مختلفة جدا، منها النقل البحري والبري والجوي ولكل منها اقتصادات خاصة وتكلفة تشغيل مختلفة. وفي النقل البري نجد تنوعا إضافيا فهناك النقل الشخصي والتجاري (الشاحنات) والدراجات النارية. ولكل من هذه القطاعات خصائص معينة من النواحي الاقتصادية ونوع الوقود وبالتالي يكون تأثير الأسعار عليها متنوعا أيضا.

يعد الشح في وفرة «بيانات الاستهلاك» الدقيقة من المشكلات الرئيسية التي تواجه أسواق النفط في عدة مناطق استهلاكية رئيسية وهامة في آسيا وأميركا الجنوبية وغيرها. ففي بعض المناطق يقاس الطلب بشكل غير مباشر عن طريق احتساب مستويات الإنتاج المحلي وصافي الإيرادات من النفط ومشتقاته. وبالتالي فإن مستويات التغيير في المخزون غير معلوم مما قد يجعله يحسب وكأنه زيادة في الاستهلاك وهو ليس كذلك. ولهذه الأسباب نرى اختلافاً في تقدير المختصين لمستويات استهلاك الصين وروسيا مثلا. ويخلق هذا الوضع مشكلات في الدراسات الاقتصادية وفي توقعات تأثير الأسعار عليها.

ونظرا لتشعب الموضوع فلن يتم سرد عوامل أخرى مؤثرة كـ«مستوى التضخم العام» السائد، و«أداء البنوك المركزية» في التحكم بمستويات التضخم، و«تكلفة الأصول الثابتة» المستخدمة في الاستهلاك وغيرها. ومن المهم في نهاية المطاف معرفة أن العلاقة بين أسعار النفط ومستوى الطلب تبقى عكسية، ولكن مع استمرار التطور الاقتصادي والتقني في العالم وزيادة تشعب العوامل الأخرى المؤثرة فإن العلاقة تكون على درجة عالية من التعقيد والغموض مما يستوجب المراعاة الخاصة والتحليل المكثف عند وضع أي تصور لمستوى الأسعار المستقبلية وكذلك للخطط والاستثمارات المتأثرة بسعر النفط.

* مستشار توقعات الطاقة في شركة أرامكو السعودية وممثل السعودية في لجنة أوبك الاقتصادية