انهيار الليرة التركية يسلط الضوء على تأثير مخاطر اتباع نظام سعر صرف وسط بين العائم والثابت في بعض الدول العربية

د. هنري توفيق عزام *

TT

لم تكن الحكومة التركية هي الخاسر الوحيد عندما انهارت عملتها في أواخر شهر فبراير (شباط) الماضي من عام 2001، إذ أن صندوق النقد الدولي كان قد نصح تركيا باتباع نظام سعر صرف وسط يجمع بين كونه مرتبطا بالدولار مع هامش تغيير محدد سلفا. ولقد ارتبط هذا بتنفيذ برنامج اقراض يبلغ حجمه 11.5 مليار دولار، لذلك يتوجب على صندوق النقد أن يفكر من جديد إذا ما أقبل على اللجوء لمثل هذه الوصفة في المستقبل ثانية.

وقد ثبت بالتجربة فشل جدوى مثل هذا الإجراء في كثير من البلدان في تحقيق نتائج إيجابية لهذه الدول كما كان الأمر عندما أرغمت كل من المكسيك عام 1994 ودول شرق آسيا عام 1997 ـ 1998 والبرازيل عام 1999، وأخيراً تركيا على تخفيض عملاتها وكانت النتيجة إلحاق المزيد من الخسائر والأضرار بالاقتصاد.

ولقد سمح نظام سعر صرف العملة، الذي كان سائدا في تركيا خلال عام 2000 وحتى 22 فبراير الماضي 2001، بهامش تذبذب في سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار بما لا يزيد على %15 في السنة، ويعتمد هذا النظام على التدخل في سوق الصرف وفي تغيير أسعار الفائدة على الليرة التركية للحفاظ على الهامش المسموح به. وقد قامت البنوك التركية باقتراض الدولارات أو استخدمت أرصدتها وودائعها من الدولارات لشراء سندات حكومية بالليرة ذات العائد الأعلى، وذلك اعتقادا منها أن تثبيت أسعار الصرف مقابل الدولار بالشكل المتفق عليه سيحد من الخسارة التي قد تتعرض لها البنوك. أما الآن، وقد تراجعت قيمة العملة المحلية، أصبحت البنوك تعاني من خلل كبير في موازناتها، وتحولت الأزمة التي طرأت على العملة إلى أزمة اقتصادية ومصرفية.

ومن الجدير بالذكر، أن %62 من مجموع الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، كانت تتبع نظاماً وسطاً بين سياسة تثبيت سعر صرف العملة وتعويمها بشكل مطلق في عام 1991، وتراجع هذا الرقم إلى %30 في أواخر العام الماضي، ولم يكن هناك بين هذه المجموعة أي دولة كبيرة سواء نامية أم متقدمة.

ويعرف اصطلاح التعويم الحر للعملة بأنه يحدث في غياب أي نوع من التدخل في سوق الصرف، تاركاً المجال لقوى العرض والطلب لتحديد أسعار صرف العملة المناسبة.

أما في الأنظمة التي توصف بأنها الوسط بين تثبيت أسعار صرف العملة أو تعويمها بشكل حر فيحكمها متغيران:

1 ـ وجود هامش محدد سلفاً يسمح فيه لأسعار الصرف أن تتذبذب قياساً بالسعر المستهدف.

2 ـ سعر صرف ثابت مقابل الدولار أو غيره من العملات العالمية قابل للتعديل من دون أن يكون هناك التزام من قبل الحكومة بالتصدي لأي محاولة لتخفيض قيمة العملة أو إعادة تقييمها في حال وجود خلل كبير في ميزان المدفوعات. ويشمل نظام تثبيت سعر الصرف ثلاثة بدائل هي:

أ ـ سعر صرف ثابت، يعرف بالمحافظة على سعر صرف محدد مقابل الدولار أو أي عملة أخرى رئيسية، وهنا يتضح التزام الحكومة بالسعر المعلن واللجوء إلى ممارسة سياستها النقدية والتدخل المباشر في سوق صرف العملات الأجنبية لضمان تنفيذ ذلك.

ب ـ مجالس نقدية (Currency Board)، مثل هونغ كونغ والأرجنتين، وهنا يتم تثبيت سعر الصرف وفقاً للقانون وليس تبعاً للسياسة السائدة، كما أنه يتطلب على أن أي زيادة في القاعدة النقدية بالعملة المحلية لا بد أن تقابلها زيادة موازية بالاحتياطي الأجنبي. ولا بد أن تكون الحكومة هنا قوية ومستقرة وملتزمة بثبات سعر الصرف، ويعزز موقفها تمتعها بسياسة مالية متوازنة وقطاع مصرفي قوي وقادر على الإيفاء بالتزاماته.

جـ ـ الوحدة النقدية وهي تهدف للتعامل بعملة موحدة أو مشتركة بصفتها عملة قانونية مقبولة من الأعضاء كافة (مثل اليورو) أو استخدام عملة أجنبية كعملة رسمية (مثل تعميم استخدام الدولار بدلا من العملة المحلية كما هي الحال في السلفادور والاكوادور).

وقد قامت معظم الدول العربية بوضع أنظمة لتثبيت أسعار الصرف، حيث لجأت إما إلى تثبيت العملة بشكل رسمي مقابل الدولار الأميركي (كما هي الحال في الأردن وعمان) أو أن أسعار الصرف يتم ربطها بحكم الواقع بالدولار (كما في السعودية والبحرين ودولة الإمارات وقطر)، وهناك ايضا نظام تثبيت سعر صرف مقابل سلة من العملات يكون فيها للدولار الوزن الأكبر كما هي الحال في الكويت أو مقابل سلة من العملات يكون فيها للفرنك الفرنسي أو اليورو الوزن الأكبر كما هي الحال في تونس والمغرب.

ولجأت بعض الدول العربية الأخرى الى اتباع نظام وسط بين تثبيت سعر صرف العملة وتعويمها، كما في مصر، حيث اعتمد أخيرا سعر صرف زاحف (crawling peg) للجنيه مقابل الدولار، وهي سياسة معلنة مسبقاً تهدف إلى تخفيض سعر الصرف بنسبة محددة كل يوم. وهناك ايضا نظام ربط سعر الصرف بعملة رئيسية، لكن سعر الصرف هذا يكون قابلا للتعديل كما في لبنان، حيث الليرة مرتبطة بالدولار والجزائر، حيث العملة مرتبطة بالفرنك الفرنسي أو اليورو.

أما في دول الخليج العربي، فقد تم تثبيت أسعار صرف العملات فيها مقابل الدولار الأميركي منذ أوائل الثمانينات ولم تتأثر أسواق هذه الدول سلبياً عندما ارتفعت قيمة العملة الاميركية بشكل حاد، بل على العكس فقد ساعد هذا على تقليل الضغوط التضخمية وارتفعت القوة الشرائية لدى المستهلك الخليجي. والمقولة ان اي تخفيض في العملة يعتبر عاملا محفزا لانه يجعل الصادرات ارخص في الاسواق العالمية لا تنطبق هنا، لان دول الخليج تصدر النفط والبتروكيماويات والالمنيوم والغاز الطبيعي المسال والفولاذ والمواد الغذائية، اضافة الى المنتجات الأخرى، ويتم تسعير هذه المنتجات بالدولار ولا تستفيد من تخفيض سعر صرف العملة المحلية.

وفي ما يتعلق بالأردن، فقد اختارت المملكة الاردنية تثبيت عملتها مقابل الدولار رسميا في عام 1995 عند 709 قروش أردنية للدولار، ومكنها هذا الإجراء من اتباع نظام صرف للعملة مماثل لذلك الذي تتبعه دول الخليج التي لها علاقات اقتصادية وتجارية متينة معها. فتثبيت سعر صرف الدينار الأردني مقابل الدولار شجع على تدفق مدخرات الأردنيين العاملين في دول الخليج، إضافة إلى انه يجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة ويدعم قطاعات السياحة والخدمات الأخرى التي تصدر إلى دول مجلس التعاون الخليجي. ومن أهم الصادرات الرئيسية للأردن الفوسفات والبوتاس والاسمنت والأدوية، التي يتم تسعيرها جميعا بالدولار، فأي تخفيض في سعر صرف الدينار لا يضيف شيئا إلى قيمتها التنافسية في أسواق الصادرات العالمية، وقد ساعدت سياسة تثبيت سعر صرف العملة على تخفيض المخاطر الناتجة عن حدوث تراجع العملة المحلية التي كان يخشاها المدخرون أو المستثمرون وعملت أيضا على تحقيق نوع من الاستقرار في سوق صرف العملات.

لكن لبنان اختار اتباع سياسة ربط للعملة مقابل الدولار بدون الالتزام الرسمي بالمحافظة على هذا السعر، ولقد تم الاعتماد على التدخل في أسعار الصرف من قبل البنك المركزي وإبقاء أسعار الفائدة على الليرة مرتفعة نسبياً، وذلك للمحافظة على قيمتها عند حدود 1500 ليرة للدولار، وتم تداول الليرة اللبنانية في حدود (1501 ـ 1514) منذ منتصف التسعينات حتى الآن، وتسعى الحكومة جاهدة للمحافظة على سعر الصرف هذا.

واتبعت مصر سياسة لبنان نفسها، حيث طبقت نظام تثبيت سعر عملتها بشكل يمكن ضبطه وإدارته، وتم تداول الجنيه المصري في حدود ضيقة عند مستوى 3.45 جنيه للدولار، لكن بعض الضغوطات بدأت تظهر على العملة في أواخر 1999، حيث فشلت الحكومة في انتهاج سياسة واضحة ومقبولة لإعادة التوازن إلى سوق صرف العملات. ونتيجة لحدوث نقص في العملات الأجنبية وزيادة سعر الفائدة على الجنيه المصري بين البنوك، قررت الحكومة اتباع سياسة الربط الزاحف للجنيه مقابل الدولار، حيث أصبح سعر صرف الجنيه المصري ثابتا عند مستوى 3.85 جنيه للدولار مع ترك مجال لتذبذب العملة أو تقلبها بنسبة %1 يوميا. وإذا تراجع سعر الصرف بهذا المعدل عند نهاية التداول كل يوم، يتدخل البنك المركزي ويضخ نقداً اجنبياً في السوق في اليوم التالي في محاولة لتقوية الجنيه، غير أن هذه السياسة قد تؤدي إلى تخفيض يومي في أسعار الصرف مقابل الدولار بنسبة %1.

ونتيجة لقوة مركز أسواق رأس المال العالمية، فإن اتباع أنظمة الصرف الوسطى كما هو الحال في لبنان ومصر، لن يمكنها من الصمود أمام حالات عدم التوازن التي تشهدها الأسواق بشكل مستمر سواء كان عدم التوازن هذا داخلياً أم خارجياً، ومن المستحسن أن تقوم الدول التي تتمتع بحساب رساميل حرة اما بتعويم عملاتها بشكل كامل أو تثبيتها مقابل الدولار أو اليورو. فإذا اقدمت هذه الدول على اتباع الأسلوب الوسط الذي يأخذ شيئا من الأول وشيئا من الآخر، ستكون عندها هذه السياسة محكومة بالفشل.

لا بد للحكومات من اتباع سياسة اقتصادية ونقدية سليمة تتسم بالمصداقية والشفافية وتعكس ما تتطلع إليه قوى السوق، فإن الأزمات تحدث عندما تقوم الحكومة بالإعلان عن نظام معين لسعر الصرف ولا تدعمه بالسياسات المطلوبة. لذلك فإن الدول العربية التي ترزح تحت عجز كبير ومتواصل في موازنتها الداخلية والخارجية، وحيث معدل التضخم بها أعلى منه في الولايات المتحدة، ينبغي أن تضع موضع التنفيذ سياسة نقدية متشددة تكون فيها أسعار الفائدة على العملة المحلية أعلى منها على الدولار إذا ما أرادت اتباع سياسة سعر صرف ثابتة على الدولار.

ان اعتماد نظام سعر صرف ثابت هو شبيه بوضع الاقتصاد في قالب محدد، وهذا يتطلب سياسة مالية متشددة ولا يسمح بالتجاوزات. اما اذا اغدقت الحكومات في الانفاق أو ارتفع العجز الداخلي والخارجي، يصبح هذا الرداء ضيقاً وتبدأ التشققات بالظهور عليه مما يستدعي اتخاذ تدابير إصلاحية واخضاع الاقتصاد للانضباط المالي ورفع معدلات الفائدة واتخاذ اجراءات تحررية اضافية وتسريع عمليات الخصخصة لاجتذاب الرأسمال الأجنبي. ان فرض القيود أو وضع الحواجز البيروقراطية على المعاملات بالعملة الأجنبية لحماية سعر صرف ثابت عند مستويات مغالى فيها، يمكن أن يزيد الأمور تعقيدا. كما أن منع تدفقات رأس المال الخارجي من الدخول إلى البلاد، قد يساعد مرحلياً في الحد من المضاربة على العملة، لكن سيكون له تكلفة اقتصادية، إذ قد يؤدي إلى عدم الاستفادة المثلى من الموارد الرأسمالية المتاحة للاقتصاد عالمياً.

ان السحب من الاحتياطيات الخارجية لدعم العملة لا يكفي للحفاظ على سعر صرف ثابت، إلا إذا واجهته سياسة تصحيحية مالية ونقدية، وبما أن غالبية الدول العربية تسمح بحرية انتقال رؤوس الأموال من وإلى البلاد، فإذا ما توقع المتعاملون في السوق تخفيض سعر صرف العملة مقابل الدولار وحدثت عمليات مضاربة على هذه العملة، فستجد السلطات أن التدخل في سوق الصرف عن طريق السحب من الاحتياطيات بمفرده لن يكفي، وقد تستنفد هذه الاحتياطيات قبل أن يعود الاستقرار لأسعار الصرف.

* كبير الاقتصاديين وعضو منتدب في مجموعة الشرق الأوسط للاستثمار