السياسات النفطية الفنزويلية على مفترق الطرق

بيرنارد مومر *

TT

تسلم هيوجو تشافيز الرئاسة الفنزويلية في 2 فبراير (شباط) عام 1999، بينما كانت اسواق النفط تشهد فوضى عارمة، غير ان الاحوال تغيرت دراماتيكيا نحو الافضل منذ ذلك الحين، وما من شك في ان الرئيس الفنزويلي الجديد لعب دورا مهما في ما شهدته تلك الاسواق من تعاف. وكانت الحكومة الفنزويلية السابقة قد اوشكت تحت وطأة ضغوط شركة النفط الفنزويلية الوطنية على مقاطعة منظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك)، بينما كانت سياسات هذه الشركة المعلنة من زيادة حجم انتاجها والتغاضي عن الحصص والاسعار التي حددتها اوبك سببا رئيسيا في ازمة اسعار النفط عام 1998. واقدم الرئيس تشافيز ووزير نفطه علي رودريغيز على عكس هذا الوضع بالكامل. فالى جانب كل من حكومتي المكسيك والسعودية، نجحت فنزويلا في ايجاد تفاهم جديد حول حصص الانتاج ورفع الاسعار بين اعضاء منظمة اوبك وغيرها من الدول المصدرة للنفط. علاوة على ذلك، استضافت الحكومة الفنزويلية عام 2000 ثاني لقاء تاريخي ضم قادة دول اوبك. وكانت نتيجة كل ذلك عوائد ضخمة من صادرات المشتقات النفطية وصلت الى 27.3 مليار دولار عام 2000، وهي زيادة مهمة مقارنة باعلى العوائد المسجلة عام 1981 وتبلغ قيمتها 19.1 مليار دولار.

هبوط العوائد المالية بيد ان هناك ثمة فارقا مهما، فقد وفرت عوائد الصادرات لعام 1981 البالغة 19.1 مليار دولار دخلا حكوميا بلغت قيمته 13.9 مليار دولار من وراء رسوم الامتيازات وضريبة الدخل، في حين ان عوائد الصادرات عام 2000 والبالغة 27.3 مليار دولار لم توفر للحكومة سوى 11.3 مليار دولار من العوائد المالية. وبلغت حصيلة رسوم الامتيازات وضرائب الدخل 73 في المائة من عوائد الصادرات عام 1981، ولكنها لم تبلغ سوى 41 في المائة عام 2000. وفي الواقع، بين عام 1976، وهو العام الذي أمم فيه قطاع صناعة النفط الفنزويلي، وعام 1992 لم تكن هذه النسبة ثابتة بل بلغت 64 في المائة اولا ثم 81 في المائة، اي بمعدل71 في المائة. ومنذ عام 199 وحتى عام 2000 تذبذبت هذه النسبة بين 28 في المائة و50 في المائة، اي بمعدل 36 في المائة فقط.

تحويل الكلفة إلى الداخل ان من بين اسباب هبوط العوائد المالية اقتراب البلاد من حافة الافلاس عام 1989، واضطرارها الى قبول تطبيق برامج الاصلاحات الهيكلية التابعة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. عندها تبنت شركة النفط الفنزويلية اسلوب المحاسبة الذائع في العالم من تسجيل الخسارة والارباح، محددة بذلك نشاطاتها داخل فنزويلا. حينها شرعت الشركة في تحويل الأكلاف الضخمة التي تنفقها على مشاريعها في الخارج الى فنزويلا، وهذا ما ساهم في زيادة ارباحها خارج البلاد. وكانت المنافع التي حققتها الشركة من وراء ذلك واضحة، ففي حين تخضع الشركة الى دفع 67.7 في المائة ضرائب دخل في فنزويلا فانها لا تسدد سوى 34 في المائة من تلك الضرائب في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، عمدت الشركة الفنزويلية الى تحويل اعباء ديونها البالغة 9 مليارات دولار الى حساباتها داخل فنزويلا، وهي الديون المترتبة بشكل كبير على سياسة التدويل التي نفذتها. وفي اوائل التسعينات استدانت الشركة مليار دولار من احد فروعها الاجنبية، وتمكنت الشركة من تحقيق ارباح من وراء ذلك من خلال الاتفاق على معدلات فائدة تعادل الفارق في معدلات ضريبة الدخل.

التعاقد الخارجي في عام 1989، بدأت فنزويلا في فتح عدد من حقول النفط الثانوية امام المستثمرين المستقلين. وبلغت حصيلة انتاج تلك الحقول حوالي 500 برميل في اليوم خلال عام 2000. وبما ان عقود التشغيل صيغت بصورة تقلص العبء الضريبي على عاتق المستثمرين المستقلين، فان قسما كبيرا من الارباح التي حققتها تلك الاستثمارات على يد المستثمرين المستقلين لم يخضع لمعدل ضريبة الدخل المعتاد والبالغ 67.7 في المائة ولكن الى معدل اقل لم يصل إلا الى 34 في المائة. ويعود السبب في ذلك الى طبيعة تلك العقود التي تصنف في باب الاتفاقات الخدماتية لا الانتاجية. على جميع الاحوال، تمكنت الشركة من خلال ذلك على رفع انتاجها النفطي، رغم انها لم تحقق سوى زيادة متواضعة في الارباح، ومن زيادة السيولة المتوفرة لها ايضا.

تخفيض ضريبي تفاوضت شركة النفط الفنزويلية مع وزارة الطاقة والمناجم الفنزويلية على فرض رسوم امتيازات بنسبة 1 في المائة فقط بدلا من النسبة المعهودة التي تصل الى 16.67 على الاستثمار في عدد من حقول النفط الثانوية. كما نجحت الشركة في مفاوضاتها مع الحكومة على فرض واحد في المائة من رسوم الامتيازات، تفرض خلال الاعوام العشرة الاولى من تنفيذ المشروع، على اربعة مشاريع مشتركة لها مع شركات اجنبية في حزام منطقة «اورينوكو». فضلا عن ذلك، فان قانون ضريبة الدخل الاخير والصادر عام 1993 اعفى تلك المشاريع من معدل ضريبة الدخل البالغ 67.7 في المائة والمفروضة على المشتقات النفطية، وفرض عليها بدل ذلك معدل ضريبة الدخل البالغ 34 في المائة والمعمول به في القطاعات غير النفطية. ومن بين تلك المشاريع مشروع «بتروزواتا» الذي اصبح في وضع يمكنه الإنتاج شهر فبراير (شباط) عام 2001 ويوشك الآن على تحقيق قدرته الانتاجية القصوى بتحويل 120 الف برميل في اليوم من النفط الخام الثقيل جدا الى 104 الاف برميل في اليوم من النفط المعالج. وفي شهر يونيو (حزيران) عام 2001 سيبدأ مشروع مشابه، سيرو نيجرو، بالانتاج ايضا. وبهذا مع حلول النصف الثاني من هذا العام سيصل انتاج النفط الخام المعالج ومخفض الضرائب الى 208 الاف برميل في اليوم.

غير ان ثمة مفارقة برزت في هذا السياق، اذ لم يكن المطورون العام الماضي جاهزين لتكرير 128 الف برميل في اليوم من النفط الخام الثقيل جدا، وهي الكمية التي كانوا ينتجونها آنذاك. لهذا السبب بيعت هذه الكميات على انها نفط خام بحوالي 15 دولارا للبرميل الواحد (وليخفف بمزجه بالخام الخفيف)، وحسب معدل رسوم الامتيازات المعمول به والبالغ 16.67 في المائة فان عوائد هذه الرسوم بلغت 2.50 في المائة للبرميل الواحد. اما الخام الثقيل جدا الذي سينتج هذا العام، وعلى مر الاعوام العشرة المقبلة، فانه سينتفع من تقليص رسوم الامتيازات من 16.67 في المائة الى 1 في المائة.

وفي عام 1993، تمكنت شركة النفط الفنزويلية من اقناع الكونجرس بالغاء ضريبة الانتاج من قيمة الصادرات والتي كانت تصل الى 29 في المائة. كما اتاح قانون ضريبة الدخل الجديد اجراء تعديلات على معدلات التضخم، والتي خفضت معدل ضريبة الدخل من حوالي 59 في المائة قبل عام 1993 الى معدل بلغ 43 في المائة ما بين عام 1993 وعام 2000.

تحويل الأسعار منذ عام 1983، وهو العام الذي بدأت فيه شركة النفط الفنزويلية تنفيذ سياساتها الرامية الى تدويل الشركة، عمدت الشركة الى استخدام فروعها الاجنبية «لتصدير» ارباحها من خلال تحويل الاسعار. وهذا يفسر الحيوية المدهشة لسياسات التدويل التي نفذتها شركة النفط الفنزويلية. وتبلغ قيمة تلك التحويلات في الوقت الراهن حوالي نصف مليار دولار في العام.

الحصص الإنتاجية لأوبك والنفط الخام الثقيل جدا ان اعتبار النفط الخام الثقيل جدا جزءا من الحصة التي حددتها اوبك لفنزويلا ستكون له آثار كارثية، اذ انه في هذه الحالة سيحل محل النفط الخام التقليدي الذي تعدى 20 دولارا للبرميل الواحد (بالنسبة لسلة الصادرات الفنزويلية)، تقريبا الى 10 دولارات للبرميل الواحد. وكما هو جار في الوقت الحاضر، فان الحكومة الفنزويلية قبلت بالرأي القائل ان النفط الخام الثقيل جدا لا يعد من ضمن الحصص التي حددتها اوبك، لانه في الواقع اقرب الى القار منه الى النفط الخام. وبغض النظر عن قيمة هذا الرأي قانونيا وفنيا، فانه قد لا يعجب اعضاء اوبك عندما تصل الكميات المنتجة من النفط الخام الثقيل جدا الى كميات كبيرة. وربما كانت هذه اللحظة ليست ببعيدة، اذ هناك عمل دؤوب لتنفيذ مشروعين آخرين لإنتاج النفط المعالج، مما يعني رفع الانتاج الكلي من النفط المعالج الى 570 الف برميل في اليوم (بمعنى تكرير حوالي 659 الف برميل في اليوم من النفط الخام الثقيل جدا) بحلول عام 2005. وحسب خطط شركة النفط الفنزويلية فان انتاج النفط المعالج سيرتفع ليصل الى 2.1 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2010. وزارة الطاقة والمناجم تستعيد سيطرتها على المصادر الطبيعية حال تسلم رودريغيز آراكيو وزارة النفط عام 1999، شرع في تطبيق سياسات تهدف الى استعادة الدولة سيطرتها على المصادر الطبيعية في البلاد. وهذا يمثل في الاساس المصدر الذي تستمد منه الدول المصدرة للنفط قوتها. وفي هذا السياق، يبدو ان ترك المفاوضات على عقود المشاريع والمناقصات المختلفة بين يدي شركة النفط الفنزويلية كان خطأ استراتيجيا، اذ كانت عواقبه اغفال مصالح الشعب بصفته المالك للمصادر الطبيعية. ولعلاج تلك الاوضاع، اعادت الوزارة رسم جولات المناقصات المختلفة الخاصة بالغاز الطبيعي. ومع ان شركة النفط الفنزويلية ستستمر في اداء دورها في الجانب الفني من المسائل، ستتولى الوزارة الآن ادارة الامور على الجانب السياسي والمالي. كما ان قانون الغاز الاخير، الذي صدر عام 1999، رفع من الحد الادنى المالي الذي كانت الحكومة مستعدة لقبوله. وحدد معدل رسوم الامتيازات بـ20 في المائة كحد ادنى، وسيكون هذا المعدل ضمن المعايير التي تؤخذ بالحسبان في جولة منح الرخص والامتيازات المقبلة.

الى جانب ذلك، وضعت وزارة الطاقة والمناجم نهاية لاتفاقات رسوم الامتيازات القديمة، ولم يعد تحويل الاسعار ممارسة مقبولة. كما ألزمت شركة النفط الفنزويلية دفع رسوم امتيازات حسب اسعار السوق المفتوح، غير ان الحكومة لا تزال تقبل بالاسعار المحولة والمخفضة عند تقدير مطلوبات ضريبة الدخل. اصدرت الجمعية العامة في فنزويلا شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قانونا يسمح للحكومة بالتحرك بحرية لإصلاح الاطار القانوني القائم الذي ينظم المشتقات النفطية. واعلنت وزارة الطاقة والمناجم بعد ذلك ان قانون مشتقات النفط الجديد سيحدد معدل رسوم الاصلاحات بـ20 في المائة. وعموما، فان الوزارة (التي يرأسها الآن الفارو سيلفا كالديرون بعد ان اصبح علي رودريغيز امينا عاما لمنظمة اوبك شهر يناير (كانون الثاني) عام 2001 تعتقد انه في سياق العولمة لا بد ان تصبح رسوم الامتيازات مصدرا مركزيا لجمع العوائد في اي نظام مالي جديد لقطاع النفط. اما الطريقة الذائعة في العالم من تسجيل الارباح والخسائر فباتت حقيقة قائمة، غير ان هذه الحقيقة تصعب إن لم تمنع من فرض معدلات عالية من ضرائب الدخل. وعلى مر السنوات العشرين الماضية او نحوها كان الاتجاه السائد في بقاع العالم يميل بعيدا عن تحصيل معدلات عالية من ضرائب الدخل من الشركات الكبرى مفضلا عليها ضرائب المكوث والقيمة المضاعفة. ومما يثير الدهشة، ان وكالة الطاقة الدولية وامانة معاهدة ميثاق الطاقة والشركات متعددة الجنسيات والمستشارين الدوليين جميعا حاولوا طيلة تلك الفترة دفع الدول المصدرة للنفط على السير في الطريق المعاكس. هل ستنجح سياسات الإصلاح النفطي؟

لا تتميز قوانين مشتقات البترول الجديدة في فنزويلا بانها ذات اثر رجعي، لهذا فانها لا تنطبق إلا على الرخص والامتيازات والعقود الجديدة، لا القديمة منها. وبالنسبة للعقود القديمة فان الحكومة لا تقدر على فعل شيء تجاهها سوى التفاوض مع الشركات الخاصة، غير ان قوة الحكومة التفاوضية مع شركة النفط الفنزويلية، التي تملكها الدولة في الاساس، مختلفة. وتعتقد وزارة الطاقة والمناجم ان بالامكان عكس الاصلاحات المالية الكارثية لعام 1993، على الاقل قسم منها. والهدف المعلن هنا هو العمل على تقليص معدل رسوم الامتيازات المعمول به في شركة النفط الفنزويلية الى حد كبير، مع الحفاظ على الحد الادنى المتصور والبالغ 20 في المائة، ولكن مع تخفيض معدل ضريبة الدخل البالغ 67.7 في المائة الى المعدل المعتاد والبالغ 34 في المائة في ذات الوقت. غير ان ليس ما يضمن نجاح هذه الاستراتيجية، ولنتذكر ان رئيس شركة النفط الفنزويلية الجنرال جواكابورو لاميدا كان يرأس ايضا دائرة الميزانية الحكومية حتى اكتوبر (تشرين الاول) عام 2000، ولهذا فانه على ادراك تام بالمشكلة المالية. كما انه بات مدركا الآن طبيعة المشاكل التي تواجه شركة النفط الفنزويلية، والتي يمكن اختصارها بالاشارة الى رقم واحد: زيادة الكلفة والإنفاق خلال عام 2000 بنسبة بليغة تصل الى 44.6 في المائة. لهذا ينبغي ان يكون على رأس اولويات رئيس شركة النفط الفنزويلية تحسين اوضاعها فورا.

لا بد من توفر ارادة قوية ومقدرات تفاوضية عالية لاعادة قطاع النفط الى المسار الصحيح، من منظور مالي واستثماري. كما ان من الصعب جدا تضخيم اهمية النتائج الايجابية. اما جواب السؤال القائل: «لِمَ انخرطت شركة النفط الفنزويلية في الماضي في استراتيجية تُفضي الى تقليص العوائد المالية؟» فيمكن التوصل اليه بمعرفة ان قيادة هذه الشركة توصلت الى استنتاج، مفاده ان النظام السياسي وصل حدا من التدهور لا يمكن اصلاحه. وقد توصلت الشركة الى هذا الاستنتاج اوائل عام 1983، بعد انتهاء عشر سنوات من تحقيق عوائد مالية كبيرة وسط ديون خارجية وازمة مالية. وهكذا وصلت الشركة الى قناعة تقول ان انفاق دولار افضل دائما من دفع دولار اضافي للضرائب. في تلك السنة شكل هيوجو تشافيز حركته العسكرية بعد توصله الى استنتاج مشابه. والسؤال المهم اليوم هو إن كانت الحلول المقترحة لمعالجة مشكلة النفط المالية ستساعد جمهورية تشافيز على حل مشاكل بلد يعاني من الفقر، اذ ان الفشل في حل تلك المشاكل لن يفضي الا الى اطالة امد التراجع الاقتصادي الذي شهدته الاعوام العشرون الماضية.

* معهد أوكسفورد لأبحاث الطاقة