البنك الدولي: سوء التغذية يقوض النمو الاقتصادي ويطيل الفقر في العالم الثالث

البلدان الفقيرة تخسر 3 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي

TT

حذر تقرير جديد صدر امس من أن سوء التغذية يكبد البلدان الفقيرة ما يصل إلى 3 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي السنوي، في الوقت الذي يتعرض فيه الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية لخطر فقدان أكثر من 10 في المائة من دخولهم التي يمكن اكتسابها أثناء حياتهم. وقال التقرير، الذي وزعه البنك الدولي امس وتلقت «الشرق الاوسط» نسخة منه، إن سوء التغذية قد يزيد من مخاطر الإصابة بفيروس الإيدز، في الوقت الذي يؤدي إلى انخفاض أعداد الأطفال والأمهات الذين يمكن أن يبقوا على قيد الحياة بعد الإصابة بمرض الملاريا. ووفقاً للتقرير الجديد الصادر بعنوان «تغيير وضع التغذية لتكون في صميم عملية التنمية» فإنه من المعروف منذ وقت طويل أن سوء التغذية يقوض النمو الاقتصادي ويؤدي إلى إدامة الفقر. ولكن المجتمع الدولي ومعظم حكومات بلدان العالم النامية أخفقت في التعامل مع سوء التغذية، على مدى العقود الماضية، حتى رغم وجود أساليب تم اختبارها جيداً لهذا الغرض.

واوضح التقرير «يتمثل الاختيار الحاسم الآن بين الاستمرار في الإخفاق، كما فعل المجتمع الدولي بالنسبة لفيروس ومرض الإيدز لأكثر من عقد من الزمن، أو أن نجعل التغذية في صميم عملية التنمية بشكل نهائي بحيث يمكن تحقيق تحسّن في مجموعة واسعة النطاق من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعتمد على التغذية».

واضاف أن بلدان العالم النامية التي تستثمر في تحسين أوضاع تغذية أطفالها تحقق عائدات مرتفعة على نفقاتها. وقد خلصت مجموعة من الخبراء الاقتصاديين البارزين في مجال التنمية على مستوى العالم، بما في ذلك ثلاثة من الحائزين جائزة نوبل، في دراسة لهم صدرت في عام 2004 تُعرف باسم «توافق آراء كوبنهاغن»، إلى أن الاستثمارات في مجال التغذية تُعتبر واحدة من «أفضل صفقات الشراء» التي يمكن لبلدان العالم النامية أن تقوم بها في تخفيض أعداد الفقراء وتحسين معدلات النمو الاقتصادي. وقال جان ـ لوي ساربيب، النائب الأول للرئيس ورئيس شبكة التنمية البشرية في البنك الدولي، «لسوء التغذية دور في أكثر من نصف مجموع وفيات الأطفال في أنحاء العالم، وهي نسبة لا يعادلها أي مرض معدٍ منذ تفشي مرض الطاعون (الموت الأسود) في أوروبا. ويرتبط سوء التغذية ارتباطاً وثيقاً بضعف الحالة الصحية وبالعوامل البيئية. الا ان واضعي السياسات، والاقتصاديين والسياسيين، غالباً ما يفشلون في إدراك هذه الارتباطات. فعلى سبيل المثال، من الممكن أن يبقى على قيد الحياة حوالي 60 في المائة من الأطفال الذين يموتون بسبب الإصابة بأمراض شائعة كالإسهال والملاريا إذا لم يكونوا يعانون من سوء التغذية في المقام الأول». ولا يُعتبر سوء التغذية أشدّ صور الفقر بروزاً فحسب، إذ يطلق التقرير عليه اسم «وجه الفقر غير المرتبط بالدخل» فهو يساعد في إدامة الفقر. واضاف ساربيب في هذا السياق قائلاً : «من المرجح أن يتسرب الأطفال الذين يعاونون من سوء التغذية من مدارسهم، ومن غير المحتمل أن يجنوا أي نفع من سنوات الدراسة، وعندما يكبرون فلن يحققوا إلا قدراً أقل من الدخل. وفي الوقت ذاته، من شأن تحسين أوضاع التغذية أن يؤدي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2 ـ 3 في المائة في البلدان الفقيرة، وأن يحفز معدلات نموها الاقتصادي». ويستطرد ساربيب قائلاً «إذا ما وضعنا ذلك في سياق حركة العديد من اقتصادات بلدان العالم النامية التي تشهد معدلات نمو سنوية تبلغ 2 ـ 3 في المائة، فمن المُمكن أن يؤدي تحسين أوضاع التغذية إلى مضاعفة هذه المعدلات. غير أن أوساط الجهات العاملة في مجال التنمية لم تفعل شيئاً يستحق الذكر في هذا المجال حتى اليوم». وأشار التقرير الى انه على عكس المفاهيم الشائعة فإن سوء التغذية ليس ناجماً ببساطة عن عدم وفرة المواد الغذائية: ففي واقع الأمر، هناك الكثير من الأطفال يعيشون في أسر تتمتع بوفرة من المواد الغذائية يعانون من نقص الوزن أو التقزم بسبب ممارسات غير ملائمة في إطعام الرضع أو رعايتهم، ونقص إمكانية الحصول على الخدمات الصحية، أو سوء خدمات الصرف الصحي. وفي العديد من البلدان التي ينتشر فيها سوء التغذية انتشاراً واسعاً لا يعتبر إنتاج الطعام هو العامل المقيِّد إلا في ظروف حدوث مجاعة. وتقول ميرا شيكار، أخصائية تغذية في شبكة التنمية البشرية بالبنك الدولي، وكبيرة مؤلفي هذا التقرير: «من البديهي أن نعتقد جميعاً أن تقديم مزيد من الطعام إلى الأطفال سيؤدي إلى تحسين التغذية، ولكن هذا التقرير يوضح لنا أن هناك فرصة قصيرة سانحة لتحسين أوضاع التغذية تمتد بين فترة الحمل وسن عامين. ومن المستحيل إصلاح الضرر الذي يحدث في هذه الفترة الزمنية. وإذا ما أضعنا هذه الفرصة السانحة نكون قد أضعنا فرصة علاج جيل من الأطفال بأكمله». واعتبر التقرير ان أفريقيا وجنوب آسيا أشدّ منطقتين في العالم تضرراً من جراء سوء التغذية حيث مازال حوالي ثلث الأطفال دون سن الخامسة في بلدان العالم النامية مصابين بنقص الوزن أو التقزم، كما أن 30 في المائة من سكان تلك البلدان مازالوا يعانون من نقص شديد في الفيتامينات والمعادن. ولكن الصورة تتغير الآن: فمعدلات سوء التغذية آخذة في التزايد في أفريقيا جنوب الصحراء. وحيث ان سوء التغذية وفيروس ومرض الإيدز يعزز بعضها بعضا فإن نجاح برامج مكافحة فيروس ومرض الإيدز في أفريقيا يعتمد بشكل جزئي على إيلاء مزيد من الاهتمام للتغذية.

وفي آسيا، بالرغم من أن معدلات سوء التغذية آخذة في التناقص، فإن جنوب آسيا ما زالت تعاني من أعلى معدلات من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية وأكبر أعداد منهم. وبخلاف المفاهيم الشائعة، فإن معدلات انتشار نقص التغذية في بلدان جنوب آسيا المكتظة بالسكان، كالهند وبنغلاديش وأفغانستان وباكستان، أعلى بكثير (38 إلى 51 في المائة) مما في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء (26 في المائة).

وحتى في شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، تعاني العديد من البلدان من مشكلة خطيرة تتعلق بنقص التغذية أو نقص المغذيات الدقيقة. وتشمل أمثلة ذلك كمبوديا وإندونيسيا وجمهورية لاو الشعبية الديمقراطية والفلبين وفيتنام وغواتيمالا وهايتي وهندوراس وأوزبكستان.

يقول برافول براتل، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة جنوب آسيا، «نعلم بكل تأكيد أن هناك أعداداً كبيرة من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية يعيشون في جنوب آسيا، ولكن ما يبرزه هذا التقرير لنا الآن يمثل حقيقة مفزعة حيث تبلغ معدلات نقص التغذية في جنوب آسيا حوالي ضعفي المعدلات السائدة في أفريقيا جنوب الصحراء. فحوالي نصف الأطفال في الهند يعانون من نقص في التغذية مقارنة بربع عدد الأطفال في أفريقيا جنوب الصحراء، وهذا الوضع غير مقبول بالمرة. وفي ضوء تأثيره المستمر على الاقتصاد الهندي، يعمل البنك الدولي عن كثب مع الحكومة الهندية لإعادة تنشيط هذه الحملة ضد سوء التغذية في منطقة جنوب آسيا». وبالرغم من النكسات الاقتصادية الشديدة، حققت العديد من بلدان العالم النامية تقدّماً باهراً. فعلى سبيل المثال، يتناول ما يزيد على ثلثي الناس في بلدان العالم النامية الآن الملح المزود باليود في طعامهم، لتعويض نقص اليود الذي يؤثر على حوالي 3.5 مليار شخص، خصوصاً من النساء والأطفال في أكثر من 100 دولة.

ويتلقى حالياً حوالي 450 مليون طفل سنوياً كبسولات فيتامين (أ) لمعالجة النقص الذي يؤدي إلى زيادة معدل وفيات الأطفال. وتبيّن هذه الأبحاث بجلاء أنه على الرغم من أن النمو الاقتصادي يؤدي إلى انخفاض معدلات سوء التغذية بصورة بطيئة «ويلعب دوراً أساسياً في توفير الموارد المالية اللازمة لتمويل برامج التغذية»، فإن لهذه الأنواع من برامج التغذية المباشرة أثراً أكثر سرعة وفعالية مقارنة بالبلدان التي تواجه هذه القضية من خلال الاعتماد فقط على النمو الاقتصادي. ويحتاج تحسين التغذية إلى إجراءات مركّزة من قبل الآباء والمجتمعات المحلية، تساندها إجراءات على الصعيدين المحلي والوطني في مجال الصحة والخدمات العامة، ولا سيما إمدادات المياه والصرف الصحي. وقد أوضحت تايلند أن سوء التغذية المعتدل والشديد يمكن تخفيضه بمقدار 75 في المائة أو أكثر خلال عِقد من الزمن بمثل تلك الإجراءات. أما الطرق الأخرى لتحسين أوضاع التغذية فتشمل: إتاحة التوعية والخدمات الصحية والغذائية «مثل تشجيع الاقتصار على الرضاعة الطبيعية، مقرونة برعاية الحوامل والخدمات الصحية الأساسية للأم والطفل»، إلى جانب مكمّلات المغذيات الدقيقة والأغذية المقوية. يقول بول جيرتلر، رئيس الخبراء الاقتصاديين بشبكة التنمية البشرية التابعة للبنك الدولي، وأستاذ اقتصادات وتمويل الشؤون الصحية في جامعة كاليفورنيا ـ بيركيلي، «أمامنا شواهد متنامية على أن هناك طرقاً مُبتكرة وخلاقة لتحسين أوضاع التغذية في كلٍ من البلدان المتوسطة الدخل والبلدان الأكثر فقراً. وتوضح لنا الخبرات المكتسبة من المكسيك أن التحويلات النقدية المشروطة، مقرونة بتحسين خدمات الرعاية الصحية والتغذية، قد أتاحت للفقراء إمكانية تحسين أوضاع الأطفال الغذائية بصورة كبيرة، وفي الوقت نفسه نجحت بلدان أخرى، كبنغلاديش وهندوراس ومدغشقر، في تعبئة المجتمعات المحلية للتصدي لمشكلة سوء التغذية عن طريق التعاون مع المنظمات غير الحكومية لاستخدام نُهُج ترتكز على المجتمعات المحلية».

ويحث التقرير البلدان التي تريد التصدي لسوء التغذية بصورة أكثر فعالية على تطبيق الدروس المستقاة من دراسات الحالات المُبتكرة تلك حتى تتمكن من «توسيع نطاق» برامج التغذية الوطنية بعيدة المدى التي يمكن أن تساعد ملايين البشر في أنحاء العالم. ويشير هذا التقرير إلى أن جانباً كبيراً من الإخفاق السابق في توسيع نطاق الإجراءات المتعلقة بنتائج التغذية ناجم عن نقص في استمرار الالتزام من جانب الحكومات، ما أدى إلى انخفاض الطلب على المساعدة في مجال التغذية. من جانبه يقول البنك الدولي إن من الضروري الموافقة على خطة العمل هذه، ومن ثم العمل بموجبها من جانب كلٍ من بلدان العالم النامية وأوساط الجهات العاملة في مجال التنمية. وكما يرى هذا التقرير الجديد فإن «سوء التغذية يعمل على إدامة الفقر، وبدون وجود إجراءات منسقة ومركّزة ومكثفة فلا يمكننا أن نتوقع تحقيق تقدّم ملحوظ في مجال التغذية أو تخفيض أعداد الفقراء».