من العالم الثالث للأول

TT

العنوان تم استعارته من كتاب رئيس وزراء جمهورية سنغافورة السابق لي كوان يو الذي نقل بلاده من دولة نامية صغيرة المساحة قليلة الموارد متعددة الأعراق إلى دولة متقدمة في شتى المجالات. أضحت مثالا يحتذى في الأمن والنظافة ومستوى دخل الفرد (قفز متوسط دخل الفرد من 400 دولار عام 1959 إلى 30000 دولار حاليا).

كان وراء هذا الانجاز إرادة صلبة وحزم وعزم لا يلين. كل إنجاز عظيم يبدأ بقائد عظيم له رؤية يحيلها إلى واقع. يقول لي كوان يو: كان أعظم مواطن القوة لدينا ثقة وإيمان الشعب بنا.هذا الشعب المجد النشيط التواق للعلم والمعرفة. مضيفا: حرصنا على عدم تبديد هذه الثقة عبر مساوئ الحكم والفساد.

بعد الانتهاء من قراءة الكتاب الذي قاربت صفحاته الألف، عاد إلي سؤال طالما رددته. لماذا لا نصبح دولة متقدمة؟

وغني عن القول أن الأمم كالأفراد تتاح لها الفرص لتنتقل من الفقر إلى الغنى ومن غياهب الجهل إلى نور العلم ومن الفوضى في التخطيط والتنفيذ إلى حسن التخطيط وروعة الأداء. لكن تقدم الأمم أكثر تعقيدا منها لدى الأفراد فهي بحاجة إلى قيادة حازمة واعية، برؤية بعيدة واضحة، ونظام تعليمي متطور، وتركيز على خلق اقتصاد قوي له صفة الديمومة يعتمد على إنتاج العقول والسواعد، وقيم تحث على الاستقامة وحب العمل وإتقانه، والتوفير على مستوى الأفراد والأمة وحب وتسامح واعتدال، ثم صحافة حرة تكون خير وسيلة وضمان لمنع التجاوزات أو التقصير. التاريخ لا يصنعه إلا العظماء كغاندي والملك عبد العزيز ونلسن مانديلا ولي كوان يو وغيرهم ممن حجزوا لهم مواقع ثابتة في قلوب شعوبهم وفي ذاكرة التاريخ.

والملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمير سلطان لديهما فرصة لن تتكرر للإبحار بالمملكة بعيدا عن شواطئ الدول النامية المتقلب إلى موانئ الدول المتقدمة الآمنة، المكان اللائق للمملكة بما لديها من إمكانات تؤهلها لتبوء تلك المكانة. ولضمان الوصول إلى تلك المحطة بأسرع ما يمكن يجب علينا أن نراعي النقاط التالية:

ـ الوقت هو العامل الحاسم. والدول المتقدمة في سباق محموم للحصول على أفضل النتائج في شتى المجالات، أهم أسلحتها العلم ومراكز الأبحاث. وكما يقول الشيخ محمد بن راشد في كتابه القيم «رؤيتي» هناك سباق في كل صباح بين الأسد والغزال وسيكون الجوع مصير البطيء من الأسود والموت لمن لا يسرع من الغزلان. ونفس الصراع الذي يجري في الغاب، يجري بين الأمم والأفراد، لكن أشد ضراوة وفتكا.

ـ الرؤية. لا بد من وجود الرؤية وإعلانها أمام الجميع حتى تكون دليلا وهاديا بعدها ترسم الأهداف وتوضع الخطط وعلى ضوئها يتم إصلاح نظام التعليم. والرؤية تصدر من أعلى سلطة وقد يضع مسودتها مختص لكنها تراجع وتبلور من قبل المعنيين بتنفيذها. يتم إقرارها وإعلانها من قبل قائد المسيرة. ومن أهم الرؤى ما أطلقته ماليزيا في عهد الرئيس محاذير محمد وهو أن تصبح ماليزيا دولة متقدمة بحلول عام 2020.

ـ التعليم. العامل الأهم والأخطر لمسيرة الأمة وتحقيق رؤيتها فلا اقتصاد قوي ولا تنمية مستدامة بلا عقول متفتحة منتجة وسواعد قوية تبني. ولا إتقان بلا ممارسة (لن أتعلم السباحة من كتاب).

لن نزرع قيم بلا مناهج تؤكد عليها ومعلمون يطبقونها وأسرة تتابعها. عندما تتخلف دولة عن السباق فأول ما تراجعه نظام التعليم، ليس بنسبة ما يصرف عليه فقط بل بكفاءة معلميه ومديريه وموجهيه وجودة المناهج ومحتواها وطرق التدريس وبيئة التعليم. وللتعليم مختصوه وأساتذته ولكن كثرة التدخلات وتشابك المصالح والخوف من المجهول تجعل من التطوير مهمة شاقة بل شبه مستحيلة إلا بدعم مباشر وتوجيه واضح من أعلى سلطة. بالتعليم المتميز تتحقق الرؤية ويقوى الاقتصاد الذي بدوره يقضي على البطالة وآثارها. وينأى بالدولة عن الأزمات.

ـ الاقتصاد. تمر المملكة في الوقت الحاضر بوفرة مالية بفضل ارتفاع أسعار البترول وزيادة إنتاجه. لكن الاعتماد على سلعة واحدة يعد مخاطرة. حتى الاستثمارات المحلية والأجنبية معظمها يصب في هذا الجانب. لا بد من تنويع مصادر الدخل وتعزيز مراكز الأبحاث لبيع ما تنتجه العقول بدلا مما تنتجه الحقول. ولتكون المملكة رائدة في أبحاث الطاقة وتحلية المياه ومكافحة التصحر إضافة إلى اللحاق بمجالات التقنية الأخرى. علينا أن نهتم بمصادر الدخل الأخرى كالسياحة بأنواعها حتى تكون رافدا للاقتصاد. علينا أن نحارب الفساد بأنواعه لأنه أسوأ عامل هدم للمشاريع وأكبر مستنزف لإمكانات البلاد. يستطيع الملك عبد الله بما لديه من رصيد هائل من الحب والشجاعة في اتخاذ القرار أن ينقل المملكة إلى مصاف الدول المتقدمة بأسرع مما يتوقع الآخرون ليحجز الوطن مكانه اللائق بين الأمم، ويتبوأ الملك عبد الله مكانه اللائق بين قادة العالم الذين أثروا في التاريخ وتركوا بصماتهم واضحة عليه.

* قائد كلية الملك فيصل الجوية في السعودية سابقا