ماذا فعل بنا سوق الأسهم وماذا فعلنا به؟

د. محمد محمود شمس

TT

أكاد أسمع بملء فؤادي أنين هذا السوق في ظلمة كل مساء تداول، وهو يشكو من آلام أسهم مزقت أضلعه وأكاد أبصر بأعماق قلبي تساقط الدمع من عيون الخاسرين وأكظم الغيظ وأطوعه صبرا على اعتلاء أصوات من يتضاحك عليهم. فمسكين مسكين سوق الأسهم اشتعل رأسه شيبا في عنفوان شبابه، وأبيضت عيناه من البكاء حزنا على أرملة ضحت بذهبها، ابتغاء السريع من الثروة وعلى رجل فقد وعيه فساقه طمعه ليخسر ما لديه من مال وعلى هذا المضارب الذي أشعل جشعه نيرانا غاضبة فشل في إطفاء لهيبها، فأحرقته وأحرقت معه غيره. فالكل يلوم سوق الأسهم وهو برأيي من كل ما وجه له من تهم، فهو لم يقحم مساهم واحد للدخول في أبوابه، ولم يجبر أحد للخروج منها، فالكل كان طائعا راضيا مدفوعا بأهوائه ورغباته تعطشا للثراء والرفعة والعلياء. فهنا وهناك من الحقائق التاريخية ما يبرهن على أن سلوكيات الناس لا تختلف من عصر إلى آخر فمن قديم الزمان لم تتغير أهواء الإنسان وغرائزه منذ حادثة قابيل وهابيل إلى يومنا هذا شرقيا كان هذا الإنسان أو كان غربيا. ففي عام 1635 افتتن علية القوم من الهولنديين بزهرة تدعى التولب فاندفعوا في شرائها كالسيل العارم، فارتفع سعرها ليبلغ قيمة الواحدة منها 25 طنا من الزبدة الهولندية. وفي عام 1636 تم تداول أسهم زهرة التولب بسوق هولندا للأسهم، واشتدت المضاربة المحمومة عليها حتى أن برز شهر فبراير (شباط) 1637، بدأ الانهيار المدروس بعناية من المضاربين لسعر سهم الزهرة المسكينة، كما حدث أيضا في شهر فبراير 2006 للأسهم السعودية، فباتت زهرة التولب ملقاة في شوارع وأزقة المدن الهولندية لا تجد من يشتريها. هذا وقد تكررت هذه الأحداث المؤلمة بأسواق الأسهم العالمية، أشهرها الانهيار الهائل بسوق نيويورك الأمريكية للأسهم في أكتوبر(تشرين الأول) 1929، والذي تسبب في الكساد العظيم بالاقتصاد الأمريكي، وأطاح الرئيس الأمريكي هيربرت هوفر. وهنا نتساءل من المسؤول عن انهيارات أسواق الأسهم؟ هل هو هذا البنيان الأصم الأبكم، الذي يتظلل بجدرانه السوق؟ أو من يتلاعب بآلياته من إداريين ومضاربين وإعلاميين؟ وتكاد تكون الإجابة متقاربة إلى حد بعيد في جميع الأسواق العالمية، فهي لا تبتعد عن الإخفاق الإداري لبعض أجهزة الدولة المعنية والنزعة الانتهازية لبعض أجهزة الأعلام وضيق أفقهم بجانب الجشع المحاط بجهل صغار المساهمين، إضافة بطبيعة الحال إلى مكر الذئاب من المضاربين. فوزارة التجارة والصناعة لم تراقب بجدية ولم تعاقب الشركات المساهمة، التي لم تمارس أنشطتها الرئيسة التي منحت الترخيص من أجله وهيئة سوق المال تأخرت كثيرا في إصدار اللوائح والقوانين التي تحد من تلاعب المضاربين، وكذلك تأخرت في إيقاف الشركات المخالفة لأنظمتها، أما مؤسسة النقد فتفتقر للآليات الاقتصادية الضرورية، التي تخفف من أعباء انهيار أسعار الأسهم. من ناحية أخرى فلقد كان لأجهزة الإعلام المرئية الدور السلبي لسقوط أسعار الأسهم، حيث كان للقنوات الفضائية دور كبير في تضليل المساهمين وضياع مدخراتهم لما منحوه من مساحات زمنية مفرطة لبعض الفتية، الذين ارتدوا لباس الاقتصاديين ونصبوا أنفسهم كمحللين ماليين فقط، لأنهم أخذوا دورة أو دورتين دراسيتين عن سوق الأسهم. وللأسف كان التفاف القنوات الفضائية حولهم باعثا قويا ليقنع هؤلاء الفتية أنفسهم بأنهم فعلا خبراء ماليون لديهم من الخبرات الواسعة ما تمكنهم القيام بإعطاء النصائح والتوصيات للمساهمين وهم للأسف لا يعرفون الفرق بين العرض والطلب. وإنه من الضروري التأكيد هنا على أنه حتى من يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد وإدارة الأعمال (قسم مالية بالذات) ليس لديهم الخبرة بسوق الأسهم في غياب الممارسة الحثيثة والفعلية لآليات السوق ومقوماته. فما بالكم بهؤلاء الفتية الحاصلين على دورة أو دورتين في مبادئ سوق الأسهم! ولقد كان من الأجدى لهذه القنوات الدفع بهؤلاء الفتية للتعليق بالقنوات الرياضية، بدلا من سوق الأسهم واستقطاب الخبراء الاقتصاديين الممارسين عمليا لأسواق الأسهم. الجدير بالذكر، أن المشاهدين للقنوات الفضائيين حاليا يكتفون بمراقبة شريط أسعار الأسهم فقط، مع خفض الصوت تماما لكراهيتهم الاستماع لهؤلاء الفتية الذين أغرقوهم بالديون والإصابة بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية. وأخيرا فقد كان للمساهمين أنفسهم دور كبير في الانهيار من خلال جهل وجشع الصغار منهم، الذين كان افتنانهم بالثراء السريع لا حدود له بدون علم ولا معرفة. أما كبار المضاربين فقد برعوا في العزف على أوتار قيثارة مصحوبة بنوتة موسيقية غنية بنغمات الإشاعات والمفاجآت وحرفنة التداول. فحري بالمساهمين الصغار أن يدركوا حقيقة هذا الدرس القاسي، وألا يخاطروا بأموالهم وسلامة عقولهم وصحة أجسامهم فيما ليس لهم به علم ولا خبرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* رئيس مركز استشارات الجدوى الاقتصادية ـ جدة