الاقتصاد الإسرائيلي: طفرة غير مسبوقة وسط تقلب سياسي

الحروب جعلته أكثر مناعة.. وأظهرت للمستثمرين الأجانب مدى مرونته

جانب من مدينة تل ابيب حيث تشهد البورصة هناك صعودا غير مسبوق («الشرق الاوسط»)
TT

«يا اخي احنا صار عندنا دمار كبير يحتاج لمجهودات جبارة لاصلاحه، اما اسرائيل فهي تخرج من كل ازمة اقوى اقتصاديا من السابق».

هكذا بدأت الشابة الفلسطينية المتخصصة في الاقتصاد حديثها عندما سألتها عن رأيها بالاوضاع التي تجري داخل فلسطين. وانعام موسى، الطالبة المتفوقة، التي حصلت على منحة دراسية وانهت الدراسات العليا في الاقتصاد من احدى الجامعات البريطانية وتعتزم العودة قريبا الى الضفة الغربية، كانت تتحدث بنبرة يطغى عليها التشاؤم «نحن نتحدث عن اسرائيل ليلا نهارا ولكننا في الحقيقة لا نعرفها جيدا، بل هي التي تعرفنا تمام المعرفة».

وتتابع قائلة: «انا لست من اليائسين ولكن علم الاقتصاد علمني ان واحد زائد واحد يساوي اثنين وليس عشرة، اقتصاد اسرائيل حاليا اقوى من كل دول الطوق العربية مجتمعة، ومعدل دخل الفرد الاسرائيلي يفوق كثيرا معظم الدول العربية، ولكننا لا نزال نردد ان ضرباتنا دمرت العدو الصهيوني». وفي الحقيقة فان الحقائق على ارض الواقع تدعم كلام الشابة الفلسطينية بقوة، فمن المتوقع ان يواصل الاقتصاد الاسرائيلي نموه القوي حيث من المنتظر ان يصل الناتج المحلي الاجمالي مع نهاية العام الحالي الى نحو 150 مليار دولار.

والمفارقة ان حرب الصيف في العام الماضي مع حزب الله كانت المرة الاولى في تاريخ اسرائيل التي يواصل فيها الاقتصاد نموه بوتيرة توازي التي كانت سائدة قبل الحرب. فقد بلغ نمو الانتاج الصناعي الاسرائيلي في عام 2006 حوالي 37 في المائة وهو ما جعل صحيفة «وول ستريت جورنال» تصف الاقتصاد الاسرائيلي بانه «افضل اقتصاد مبادر في العالم».

وفي المجال فان الاقتصاد الاسرائيلي ينمو للعام الخامس على التوالي، فمنذ عام 2003 بدأت اسرائيل تخرج من حالة الركود التي اصابتها جراء اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر (ايلول) في عام 2000.

وعلى مدى الثلاث سنوات الماضية شهد الاقتصاد الاسرائيلي طفرة قوية تمثلت في نمو قوي ترافق مع تراجع المديونية العامة نسبة الى حجم الناتج المحلي الاجمالي، فضلا على تدفق متصاعد للاستثمارات الاجنبية وسط هبوط ملحوظ في معدلات البطالة.

وتظهر بيانات صندوق النقد الدولي ان الاقتصاد الاسرائيلي كان قد تعرض لضربة قوية خلال عامي 2001 ـ 2002 بفعل الانتفاضة الفلسطينية، لكنه سرعان مع تكيف مع الوضع الامني.

فقد بلغ النمو الاقتصادي في عام 2003 بنحو 1.5 في المائة ليقفز المعدل الى حوالي 4.8 في المائة خلال عام 2004، ليرتفع الى 5.2 في المائة في عام 2005. وفي العام الماضي صعد معدل النمو الاقتصادي الى 5.1 على الرغم من الحرب على لبنان.

واسرائيل في عام 2006 وصل عدد سكانها الى نحو 7 ملايين نسمة وبلغ ناتجها المحلي الاجمالي 140.4 مليار دولار، بينما وصل معدل دخل الفرد الواحد الى نحو 20 الف دولار، وهي مؤشرات تضعها في مصاف المتوسطة او حتى المتقدمة.

وهنا قال رينهارد كلوس المحلل الاقتصادي في بنك (يو بي اس) العالمي «ان الحرب مع حزب الله رغم تأثيراتها السلبية الواضحة، الا انها بالمقابل اظهرت للمستثمرين الاجانب مناعة وقوة الاقتصاد الاسرائيلي، ومرونته في التعامل مع الاحداث». والحقيقة ان الدلائل قوية في هذا المجال، فقد حققت اسرائيل افضل دولة في الشرق الاوسط من ناحية التنافسية والترتيب 15 عالميا بحسب قائمة المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس ونشرها اخيرا. كما ان اسرائيل كانت افضل دولة في الشرق الاوسط من ناحية سهولة ممارسة الاعمال في الشرق الاوسط، و26 عالميا بحسب تقرير البنك الدولي الذي نشره اخيرا. ولم يظهر الاقتصاد الاسرائيلي في العام الحالي مؤشرات تعيق زخم النمو الاقتصادي القوي رغم سيطرة حماس على قطاع غزة، فطبقا لبيانات مؤسسة مورغان ستانلي، فقد نما الاقتصاد في الربع الاول من العام الحالي بنحو 6.3 في المائة(على اساس سنوي)، ولا يتوقع صندوق النقد الدولي ان يقل معدل النمو الاقتصادي في اسرائيل مع نهاية العام الحالي عن 4.8 في المائة.

وتابع كلوس قائلا: «وعلى الرغم من الوضع الذي كان سائدا اثناء الحرب مع حزب الله، الا ان الاقتصاد الاسرائيلي نما في عام 2006 بمعدل 5.1 في المائة، واسعار الاسهم صعدت بمعدل 40 في المائة 12 شهرا تنتهي في يونيو (حزيران) الماضي، في حين وصلت الاستثمارات الاجنبية في اسرائيل الى نحو 21 مليار دولار خلال العام الماضي». وفي هذا السياق من المتوقع ان تنمو الاستثمارات الاجنبية المباشرة في عام 2007 بنحو 8 في المائة لتصل الى 15.3 مليار، مقارنة مع 14.2 مليار دولار في العام الماضي، وهي الاكبر في منطقة الشرق الاوسط،. بينما بلغت الاستثمارات الاسرائيلية في الخارج في عام 2006 نحو 30 مليار دولار ارتفاعا من 18 مليار دولار في عام 2005 و13 مليار دولار عام 2004.

وفي هذا السياق أكد كلاوس ان الوضع حتى الان لم يثير قلق المستثمرين الاجانب او يؤثر سلبا على الاقتصاد الاسرائيلي، مبينا ان المستثمرين الاجانب اصبحوا يتعاملون على اساس ان العالم كله به مخاطر ولا يقتصر الامر على اسرائيل.

والدليل على ذلك انه رغم الاوضاع المتوترة في لبنان، او سيطرة حماس على قطاع غزة نجحت اسرائيل في استقطاب المزيد من الاستثمارات الاجنبية، فطبقا لبيانات وزارة المالية الاسرائيلية التي نشرها موقع «غلوب» الاسرائيلي المالي على شبكة الانترنت، فقد جذبت الدولة العبرية خلال الاشهر الخمسة الاولى من العام الحالي استثمارات اجنبية مباشرة في الشركات الاسرائيلية بلغت 9.8 مليار دولار.

وعلى صعيد الاسواق المالية فقد ارتفع مؤشر بورصة تل ابيب (TA 25) بشكل كبير خلال العام الحالي، فمنذ بداية السنة وحتي 17 يونيو (حزيران) الماضي، ارتفع المؤشر بنسبة 21 في المائة.

ولعل المزاج السائد داخل البورصة الاسرائيلية يدلل على ان اسرائيل قادرة حتى الان على التعامل مع التحديات الخارجية، وان سيطرة حماس على قطاع غزة لم تغير هذا المزاج اطلاقا، فمنذ بداية العام شهد السوق عمليات اكتتاب تجاوز العام الماضي باكمله حيث بلغت اكثر من 46 عملية استطاعت جمع 2.4 مليار دولار.

ومعدل التضخم المتوقع لهذا العام سيكون في حدود 2 في المائة وهو في الحدود المتوقعة، ومن المتوقع ان يتراجع الى اقل من الصفر في العام المقبل. بينما ستواصل معدلات البطالة هبوطها التدريجي، فبعدما وصلت الى 9 في المائة عام 2005، تراجعت الى 8.4 في العام الماضي وسط توقعات ان تبلغ 7.5 في المائة مع نهاية العام الحالي.

هذا ووصلت الصادرات الاسرائيلية الى مستويات قياسية في العام الماضي، فطبقا للبيانات التي اوردتها وحدة الاستخبارات الاقتصادية «الاكونومست»، فقد بلغت في العام الماضي نحو 43.3 مليار دولار، لكن قابلها ايضا زيادة في حجم الواردات التي وصلت الى 46.9 مليار دولار.

ولكن رغم تلك الانجازات الاقتصادية فان الوضع لا يخلو من تحديات كبيرة، فالاقتصاد الاسرائيلي من المتوقع ان يتراجع قليلا في العام المقبل الى نحو 4.1 في المائة نتيجة بعض العوامل المؤثرة ومن اهمها زيادة قوة العملة المحلية ـ الشيقل ـ التي قد تؤثر سلبا على الصادرات، فضلا على تراجع الانفاق الاستهلاكي للاسرائيليين وهو القوة الدافعة للنمو الاقتصادي.

كما ان الاستمرار بتطبيق موازنة صارمة يمثل تحديا كبيرا خصوصا مع ضغوط الجيش والاجهزة الامنية لزيادة المبالغ المخصصة لها خصوصا في حال تصاعد المواجهة مع الفلسطينيين او حزب الله، وتجارب الماضي تدلل ان الحكومات الاسرائيلية في غالب الاحيان تميل الى نزعة زيادة الانفاق العام رغم احتمال زيادة العجز في الموازنة العامة.

ومن التحديات الاخرى تخفيض معدلات الفقر وتقليص الفجوة بين الطبقات الاجتماعية حيث اشار في هذا الاطار تقرير لوحدة بيانات الاعمال في اسرائيل، (BDI)، اول من امس الخميس الى ان 19 عائلة اسرائيلية تتحكم بجزء كبير من نشاط الاقتصاد الاسرائيلي.

وكشف تقرير «تركز الثروة»، هو الثالث من نوعه، ان تلك العائلات الـ19 تحكمت بحوالي 59 مليار دولار (248 مليار شيقل) من ايرادات الشركات الاسرائيلية الكبرى، او حوالي 34 في المائة من ايرادات اكبر 500 شركة في اسرائيل والتي بلغت ايراداتها في عام 2006 نحو 171 مليار دولار (722 مليار شيقل).

واظهر التقرير ان مجموع ايرادات العائلات الـ 19 وصل الى ما يعادل 88 في المائة من الموازنة العامة الحكومة الاسرائيلية والتي بلغت في العام الماضي حوالي 67 مليار دولار (283 مليار شيقل)، وكذلك ما يوازي 54 في المائة من دخل قطاع الاعمال الاسرائيلي الذي بلغ في العام الماضي اكثر من 108 مليارات دولار (457 مليار شيقل).

وبين التقرير ان 5 عائلات فقط الموجودة في رأس القائمة تسيطر على 61 في المائة من مجموع ايرادات الـ 19 عائلة. تقدمتهم عائلة نوتشي دانكنير رئيس شركة (أي دي بي هولدينغ كورب) التي تصدرت قائمة عام 2006 حيث بلغ نصيبها لوحدها 18.7 في المائة من اجمالي ايرادات اكبر 19 عائلة.

كما يبقى معدل الديون العامة والتي تجاوزت اكثر من 123 مليار دولار تبقى مصدر قلق لصانعي القرار الاقتصادي في اسرائيل فهي تستنزف اعباء كبيرة كان يمكن تخصيصها لقضايا اكثر حيوية.

وعلى الرغم من ان معدل البطالة المتوقع ان يواصل انخفاضه لادنى مستوياته في 10 سنوات الى 7.5 في المائة مع نهاية العام الحالي، الا انه يبقى مرتفعا وينبغي التعامل معه بجدية.

وفي اطار التوقعات المستقبلية، صحيح ان معظم المراقبين لا يتوقعون ان تستمر الحكومة الحالية في موقعها حتى موعد الانتخابات العامة المقرر اجراؤها في عام 2010، بل يتوقعون سلسلة من التقلبات التي ستعقد الوضع سياسيا.

ولكن مع ذلك فان وحدة الاستخبارات الاقتصادية «الاكونومست» تؤكد في تقييمها الاقتصادي لاسرائيل، ان هناك اجماعا سياسيا في الدولة العبرية على القضايا الاقتصادية الرئيسية ومن ضمنها ابقاء العجز المالي دون نسبة 3 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي، والحفاظ على معدل التضخم في حدود النسب المرسومة وهي 1 ـ 3 في المائة. هذا بالاضافة الى استقطاب المزيد من الاستثمارات الاجنبية.