هل بدأ الدولار يفقد سيادته على العالم؟

هل يمكن لليورو أن يحل محله؟

TT

عندما بلغ الدولار في الأسبوع الماضي أدنى مستوى له في التاريخ، مقابل سلة من العملات الدولية، تساءل بعض الاقتصاديين ما اذا كان الدولار قد بدأ يفقد وضعه كعملة الاحتياط النقدي الأولى في العالم. غير أن هذه التساؤلات عادة ما تصاحب الفترات التي يفقد فيها الدولار قدراً ملحوظاً من قيمته. وخلال الثلاثين عاماً الماضية تعرض الدولار إلى 4 انخفاضات كبيرة في قيمته. وآخر هذه المرات الأربع هو الانخفاض الحالي الذي بدأ في عام 2002، وخسر خلاله الدولار حتى الآن 31% من قيمته مقابل اليورو (الذي يعادل الآن نحو 1.37 دولار لليورو الواحد) و19% مقابل سلة من العملات المختلفة، كما تعدى الإسترليني حاجز الدولاريين. وفي الواقع فإن العالم قد غير عُملته مرة واحدة في التاريخ الحديث، وهي عندما كان الجنيه الإسترليني يتربع على العرش إبان العصر الذي كان فيه الذهب مقياساً للعملة. ولكن خلال سنوات الحرب العالمية الأولى تحولت بريطانيا من دولة دائنة الى دولة مستدينة. وبعد الحرب مباشرة، نحو عام 1920، برز الدولار الأميركي كالعملة الوحيدة التي يمكن استبدالها بالذهب دون مخاطر، رغم أن الجنيه الإسترليني كان لا يزال قريباً منه. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتوجه ضربة ثانية للإسترليني الذي اضطر الى تخفيض قيمته مرتين خلال تلك السنوات، ليصبح بعدها الدولار سيد الموقف من دون منازع كعملة الملاذ الأولى في العالم، أي العملة التي تفضل البنوك المركزية حول العالم الاحتفاظ باحتياطياتها النقدية بها.

ولكن رغم خسائر الدولار خلال العامين الماضيين، فإن الارقام التي يصدرها صندوق النقد الدولي توضح أن نسبة 66% من جملة احتياطيات العملات الأجنبية في دول العالم ما تزال محفوظة بالدولار، وذلك مقارنة بـ25% باليورو و4% بالين الياباني و3% بالجنيه الاسترليني. وحتى بعد صدور هذه الأرقام، فهناك المتشككون الذين يعتقدون أن الدولار هذه المرة بدأ فعلا يهتز إن لم نقل يفقد عرشه تدريجيا.

ويستدل هؤلاء على حجتهم بمجموعة من المؤشرات المهمة، من بينها أن عدداً من البنوك المركزية حول العالم قد خفض بالفعل مشترياته من سندات الخزانة الأميركية بحث ارتفعت قيمة هذه المشتريات خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام بملياري دولار فقط، بينما كانت قد ارتفعت في العام الماضي بـ295 مليار دولار، وأيضا في عام 2003 بـ175 ملياراً. كما أن عجز الحساب الجاري الأميركي يبلغ 6% من إجمالي الناتج المحلي، وهي أعلى نسبة يصلها في تاريخه على الاطلاق. وبالمثل، فقد بلغت الاتزامات الخارجية (أشبه بالديون) للولايات المتحدة 22% من إجمالي الناتج المحلي، وهو أيضا رقم قياسي. ويعتقد أصحاب هذه النظرية أن هذه الأرقام لو تكررت في السنوات المقبلة، فلا شك أن بعض العملات الأخرى ستبدأ تنازع الدولار في هيمنته على العالم. بروز اليورو: إن العملة المرجحة لمنافسة الدولار، بطبيعة الحال، هي اليورو. فالعملة التي يلجأ لها العالم للاحتفاظ باحتياطيه النقدي يجب أن تكون مستندة الى اقتصاد كبير، وله حصة معتبرة من إجمالي الناتج التجاري والمالي في العالم. وبهذا المقياس فالاقتصاد الأميركي لا يزال مسيطراً. لكن منطقة اليورو ـ المتوسعة باستمرار ـ اصبحت قريبة جداً منه من حيث الحجم، بل ان حجم التجارة الأوروبية تعادل تقريبا نظيرتها الأميركية. وأصبحت أوروبا تُكمل نصف تعاملاتها التجارية بعملتها الجديدة.. اليورو. غير أن عملة العالم للاحتياط النقدي يجب أيضا أن تستند الى سوق مالي كبير ومتطور. وبهذا المقياس فإن البورصة الأميركية متفوقة كثيراً على البورصات الأوروبية، ربما لأنها بورصة واحدة بينما تتعدد البورصات الأوروبية بعدد بلدان الاتحاد الأوروبي. لذا فقد كان لقيام عملة موّحدة في أوروبا (اليورو) أثرٌ ضخمٌ في توحيد الاقتصادات الأوروبية ـ أو تقريبها الى بعضها البعض. وهذه هي البداية فقط، فقيام العملة الموحدة تحت إمرة بنك مركزي واحد يتحكم في سعر الفائدة سيساهم من دون شك في تطور سوق مالية موّحدة تُطرح فيها أسهم جميع الشركات الأوروبية العامة. أضف الى ذلك التوسع الجغرافي للاتحاد الأوروبي، الذي ساهم أيضا في تحويل أوروبا الى منطقة تجارية ضخمة بعدما كانت في الماضي أشبه بنادٍ صغير لبضع دول متفرقة.

ويقول باري إتشينغرين، المحاضر في جامعة كاليفورنيا، في دراسة صغيرة، إن سيطرة أي عملة على العالم يتطلب أيضا ثقة المستهلكين في قيمة تلك العملة. ويضيف أن احتفاظ الدولار بموقعه كعملة الاحتياط النقدي عالمياً سيتوقف على السياسات المالية التي ستتبعها الولايات المتحدة. فاذا استمر عجز الحساب الجاري مرتفعاً لفترة من الزمن، واذا ظلت الالتزامات الخارجية تتصاعد، فإن الدول الأخرى ستصبح غير راغبة في حفظ احتياطاتها النقدية بالدولار، ومن ثم فستنخفض قيمة الدولار، الأمر الذي سيؤدي بدوره الى ضغوط تضخمية مما سيزيد من نفور الدول عن العملة الأميركية. فهذه هي الدائرة الخبيثة التي قد تفقد الدولار عرشه، ولن يجدي وقتها رفع اسعار الفائدة لجذب المستثمرين.

وتوضح دراسة أخرى اعدها جيفري فرانكيل، الأستاذ في جامعة هارفرد، أن هناك عاملاً إضافياً يلعب دوراً في تحديد عملة الاحتياط الدولية، وهو ما سماه «التأثير والتأثر» أي أن السلطات النقدية في بلدان كثيرة، تختار العملة المعينة فقط لأن بقية العالم تختارها أيضا، وبذلك يسهل على الجميع التعامل عبرها. ويقول فرانكيل إن اليورو يمكن أن يحل محل الدولار، ولكن ليس قريباً، مذكراً بأن الدولار نفسه استغرق بضعة عقود لكي يحل محل الجنيه الإسترليني. ويحاول الكاتب وضع تصورين (سناريوهين) خلال العشرين سنة المقبلة ـ الأول لانتصار اليورو، والثاني لبقاء الدولار. فالأول يفترض أن تستمر العملة الأميركية في خسارة نحو 3.6% من قيمتها كل عام مقابل سلة من العملات، في حين يستمر اليورو في الصعود بمعدل 4.6% سنويا مقابل نفس السلة من العملات. وهذه الأرقام لم يخترها الكاتب اعتباطاً، بل هي الأرقام الحقيقية التي ظلت سائدة بين عامي 2001 و2004. فاذا افترضنا استمرار هذه النسب، فإن اليورو سيصبح العملة الأولى بحلول عام 2024.

بل اذا تبنت كلٌ من بريطانيا والسويد والدنمارك عملة اليورو، فضلا عن دول أوروبا الشرقية التي انضمت في 2004 الى الاتحاد الأوروبي، فإن التاريخ قد يتغير من 2024 الى 2019، أي بعد 12 عاماً فقط. أما السيناريو الثاني، فيتلخص في أنه اذا لم تستطع أوروبا تخطي عقبات التوحيد الحالية، فإن البعض يرى أن عملة اليورو نفسها قد تختفي، ما بالك أن تسود العالم.

عملتان متعادلتان: غير أن هناك سيناريو ثالثاً يطرحه باري إتشينغرين من جامعة كاليفورنيا، وهو أن تصبح العملتان ـ الدولار واليورو ـ متعادلتين في اجتذابهما لاحتياطات العالم من النقد. فمع مرور الوقت وتمكن اليورو من إثبات قيمته، قد يتخلى العالم عن فكرة «العملة المسيطرة».

ويقرر الكثيرون الاحتفاظ باحتياطيهم النقدي بعملات أخرى يثقون بأنها ستحفظ لهم قيمة ثروتهم. وفي واقع الأمر فإن هذا الوضع ماثلٌ حالياً، إذ أن الدولار ينال 66% من احتياطات العالم، بينما ينال اليورو 25% منها. فالمطلوب هو أن تقترب النسبتان من بعضهما البعض ليتحقق السيناريو الثالث.. وهو اقتسام العرش. ويستبعد إتشينغرين ان تقترب عملة أخرى (غير الدولار واليورو) من اكتساب ثقة العالم، نظراً الى أن أوروبا والولايات المتحدة «يتمتعان بمؤسسات مالية قوية وبسياسات مالية حكيمة وشفافة وباحترام كبير لحقوق الملكية الفردية والعامة». وأضاف أنه في المقابل فإن الصين مثلاً لا تتمتع بثقة العالم من حيث استقرار مؤسساتها المالية وشفافية اسواقها وتعاملاتها التجارية، فضلا عن احترامها لحقوق الملكية الفردية. فهذه كلها أسباب تحكم على العملة الصينية (اليوان) بعدم المنافسة لعشرات السنين رغم نمو الاقتصاد الهائل، ورغم كون السوق الصيني يفوق في عدد مستهلكيه (1.3 مليار نسمة) مجموع السوقين الأميركي والأوروبي معاً.