الاقتصاد اللبناني يترنح على إيقاع التصعيد السياسي

الناتج المحلي يتراجع والمخاوف تتزايد.. لكن الاستقرار النقدي مضمون باحتياط العملات الصعبة

مصرف لبنان في بيروت («الشرق الاوسط»)
TT

رفع التصعيد السياسي المتبادل في لبنان، على خلفية استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية، منسوب المخاوف لدى الهيئات الاقتصادية التي توجست مسبقاً من تداعيات مؤلمة يعجز الاقتصاد الوطني بمعظم قطاعاته عن تحملها، ما ينبئ بانهيارات جدية قد تصل آثارها الى القطاعات الناشطة التي نجحت في استيعاب الصدمات المتكررة منذ سنوات.

ولا يختلف اثنان في لبنان على توصيف المرحلة الحالية بالدقيقة والحرجة والتنبيه من مخاطر المرحلة المقبلة، لكن صرخات الاقتصاديين والمحاولات الخجولة التي بذلتها هيئاتهم التمثيلية، بالتعاون احياناً مع الاتحاد العمالي العام، لم تلق اي استجابة بعدما بات التصعيد والتصعيد المضاد الاسلوب شبه الوحيد للتخاطب بين الاطراف السياسية.

ويعبّر أمين عام جمعية المصارف الدكتور مكرم صادر بشكل صريح، عن معاناة الاقتصاديين والنقابات، بالقول: «لمرة اولى حقيقية تبدو لنا اوضاع الناس الاقتصادية والمعيشية، كل الناس في البلد، واوضاع الدولة وقطاع المؤسسات، ليس فقط معطى هاماً يجدر بالطبقة السياسية ان تأخذه جديا في الحسبان، بل ازمة حقيقية تحتاج للمعالجة. وقد تنفجر بوجه الجميع وتستحق لذاتها وقف التصعيد والتمترس. ويصب انفجارها في مزيد من الفقر والتهميش، اي مزيد من التعصب والتقوقع والجهل القاتل لمجمل فكرة الدولة والكيان والوطن».

وواقع الامر، ان الاقتصاد اللبناني الذي واجه آثار أكبر عدوان اسرائيلي واكثرها تدميراً على مدى 33 يوماً خلال الصيف الماضي وختم السنة على نمو سلبي، يتجه هذا العام الى انخفاض اضافي في نسبة النمو في ضوء التراجع المحقق بنسبة 2 الى 3 في المائة في الناتج المحلي خلال النصف الاول من العام الجاري. وعدم ترقب اي تبدل مهم في مسار النمو خلال الاشهر المقبلة بفعل تزايد الضغوط السياسية بدلاً من انحسارها».

وبحسب تقرير مصرفي حديث فانه «لا يمكننا الحديث عن نمو اقتصادي بدون تطبيع الاوضاع السياسية والامنية في البلاد، فمثل هذا التبدل في المناخ السياسي هو الكفيل بتمكين اللبنانيين من التغلب على احباطاتهم.. وعليه آن اوان الحوار والتسويات بين السياسيين الذين يتوجب عليهم انهاء خلافاتهم السياسية المنهكة للبلاد والتوافق على نظرة مشتركة حول مخارج الخلاص المتاحة».

ويذكر التقرير ان المستوى الحالي للناتج المحلي يساوي 22 مليار دولار سنوياً، وهو رقم شبه ثابت منذ سنوات، ما يعني تسجيل خسارة فعلية في حجم الناتج مقدرة بنحو 18 مليار دولار بفعل تباطؤ النمو او انعدامه. وهذا ما يكبح الاستخدام الكامل للطاقات الكامنة في الاقتصاد، حيث يفترض السيناريو الايجابي تسجيل نمو حقيقي بنسبة تقارب 6 في المائة على مدى خمس سنوات متتالية فيتحقق استخدام نسبة 75 في المائة من الطاقات الكامنة، مقارنة بنسبة 85 الى 90 في المائة في الاقتصادات المتقدمة او التي هي في طور التقدم.

ويبرز التقرير عودة الاقتصاد الى الركود المتمادي منذ مطلع العام 2005 بحصيلة سلبية تزيد عن واحد في المائة سنوياً للناتج المحلي، وذلك كانعكاس واقعي لجريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري والعدوان الاسرائيلي والتوترات الامنية والسياسية الداخلية التي تلته. وحال الاحتقان والتصعيد في مقاربة الاستحقاقات وذلك في ظل اختلالات مالية كبيرة ودين عام متفاقم فوق مستوى 40 مليار دولار اميركي.

ومن المؤكد ان معطيات لبنان ومؤشراته بما تحفل به من قلق ومخاوف، تكرس مناخاً منفراً للاستثمار. وهذا ما كرسته ارقام ميزان المدفوعات الذي سجل حصيلة سلبية في النصف الاول من العام الحالي مرشحة للتفاقم في الاشهر المقبلة، بالتوازي مع انحسار الانفاق الاستهلاكي بنسبة تتجاوز 25 في المائة، فيما عجز القطاع المصرفي، وهو الاكثر قوة ومناعة، في تجنب الكثير من الانعكاسات التي ضربت في عمق قطاعات اخرى وفي مقدمها القطاع السياحي.

وتظهر ارقام الميزانية المجمعة للمصارف اللبنانية نمواً جيداً في موجوداتها الاجمالية لتصل الى نحو 80 مليار دولار في نهاية النصف الاول من العام الجاري بنسبة نمو تزيد عن 8 في المائة، فيما زادت الودائع بنسبة 4.1 في المائة، لكن العوامل المحفزة لهذا النمو ترتبط باغلبها حجماً وموارد في زيادة وجودها واعمالها في الاسواق الخارجية للمصارف خصوصاً الاقليمية منها مقابل انحسار النمو والموارد من السوق المحلية. ويستدل على ذلك بالزيادة القوية للتسليفات بنحو 1700 مليون دولار خلال النصف الاول من العام الحالي، معظمها يعود الى تسليفات ممنوحة لغير المقيمين في إطار سياسة تقديم الخدمات المصرفية للمؤسسات الكبرى الموجهة نحو القطاعات الاقتصادية في المنطقة.

ويشير التقرير المصرفي الى ان الضعف الاساسي في الاقتصاد يكمن أصلاً في وضع المالية العامة للدولة الذي يزداد تردياً بعدما تجاوز الدين العام الاجمالي بنسبة 180 في المائة الى الناتج، رغم تسديد البنك المركزي نحو 1.6 مليار دولار من اصل الدين الذي يحمله ضمن عملية هندسة مالية أجراها اخيراً ضمن حساب فروقات القطع وموجودات الذهب.

لكن التقرير، ورغم قتامة الاوضاع السائدة والمخاوف من معطيات المرحلة المقبلة، يؤكد صلابة الوضع النقدي في ظل التغطية العالية لليرة اللبنانية من خلال موجودات مصرف لبنان من العملات الصعبة البالغة نحو 12.6 مليار دولار، ومن دون احتساب قيمة الذهب المملوك من الخزينة والتي توازي قيمته حالياً 6 مليارات دولار، وهذا ما ابقى الاستقرار النقدي وعززه في وجه التقلبات والتطورات.