لبنان: بيع شركتي الهاتف الجوال يتبع مسار التوافق السياسي الداخلي

خبراء يحذرون مسبقا من هدر الموارد الجديدة

جنود من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان في أحد محلات بيع الهواتف الجوالة في مدينة النبطية (أ.ف.ب)
TT

كان متوقعاً ان ينتج اقرار الحكومة اللبنانية دفتر الشروط الخاص بإعادة تخصيص شركتي الهاتف الجوال نقاشاً مرغوباً يساهم في تحصين ادارة العملية وشفافيتها والاستثمار الافضل لعوائدها كمورد مهم يتكامل مع الموارد المتبقية من مؤتمر «باريس ـ3» لإعادة هيكلة الدين العام والتخفيف من وطأته وثقله في الازمة الاقتصادية العاتية. لكن الحاصل ان الخطوة الاولى في مسار التخصيص حوّلت الملف بكامله الى مادة خلافية جديدة بين الاطراف السياسية الفاعلة في لبنان على خطى الموالاة والمعارضة، لترتفع من جديد، موجات الشكوك حول قدرة اي حكومة على حسم هذا الملف الذي مر باختبارات قاسية ومكلفة عقب استعادة الدولة ملكية اسهم الشركتين منذ 5 اعوام وفشلها في ادارة التحكيم الدولي او اعادة تخصيصهما على الوجه المناسب.

والواقع، كما يراه المحللون والخبراء، ان الاوضاع الشاذة القائمة في لبنان على خلفية الانقسام السياسي الحاد منذ عام تقريباً وتصاعد المخاوف من اشتداد الازمة على ابواب استحقاق الانتخابات الرئاسية، سيدخلان اي طرح اقتصادي او غير اقتصادي في اتون الصراع. ولن يكون ممكناً القفز فوق معطيات الامر الواقع التي تشير صراحة الى فقدان الثقة بين الاطراف المعنية وتراجع الثقة الخارجية بالأوضاع الداخلية الى ادنى مستوياتها.

ويصنف خبير اقتصادي لـ«الشرق الاوسط» خطوة الحكومة ضمن التزاماتها امام الدول والمؤسسات المانحة في مؤتمر «باريس ـ3» الذي قرر مطلع السنة الحالية مساعدات وقروضاً مالية وتمويلية للبنان بما يتجاوز 7.4 مليار دولار، على ان يقابلها برنامج اصلاحي متكامل تلتزمه الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها. والاهم فيه تخصيص الكهرباء والاتصالات وبعض المرافق العامة الاخرى ورفع الدعم عن بعض المواد او تحرير اسعارها كالقمح والشمندر والمحروقات، اضافة الى الاصلاح الاداري الشامل وإعادة هيكلة الإدارات العامة بما يضمن «ترشيق» دور الدولة.

ويقول الخبير: تعرف الحكومة، بواقعها الحالي، حدود قدرتها في التصرف واتخاذ قرارات تتطلب توافقاً سياسياً في الحد الادنى. وما يشبه الاجماع في ملفات التخصيص ذات الابعاد المالية والاقتصادية والاجتماعية. ووفق هذه القناعة فان الخطوة الاولى التي اقرتها الحكومة هي الخطوة الاخيرة في عهدها. اما المسار الحقيقي للملف فيقع تحديده وتحديد مراحله ومحطته الاخيرة، اي انجاز البيع عبر المزايدة العمومية، ضمن صلاحيات الحكومة الجديدة التي سيتم تشكيلها حكماً بعد انتخاب رئيس جديد للبنان خلال المهلة الدستورية التي تنتهي في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل».

ووفق هذا التوصيف، فان الاولوية المطلقة، بحسب الخبراء والمحللين، هي امكانية «العبور الآمن» للاستحقاق الرئاسي الذي يفترض حكماً الانتقال من الصراع الذاهب باتجاه الانفجار الى الوفاق الذي يعيد وضع البلاد على مسار الانفراج. وهذا ما يقرر مسارات مجمل الاوضاع والأزمات القائمة.

ويؤكد الخبير الاقتصادي ان «من العبث طرح تصورات مسبقة لعملية تخصيص شركتي الهاتف الجوال او اي عملية مشابهة بمعزل عن الوضع السياسي القائم وتطوراته. والحكومة الحالية عاجزة واقعياً عن الايفاء بكامل التزاماتها لتأمين انسياب كامل الدعم المالي والتمويلي لمؤتمر باريس ـ3، او تنفيذ اي خطط اصلاحية جوهرية في المجالات المالية والإدارية حيث تبرز الحاجة الى التشريعات والقوانين المرتبطة بالمجلس النيابي الذي تعذر انعقاده في دورته العادية السابقة والذي تحول حالياً الى هيئة ناخبة حتى انقضاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية».

ولا تقلل هذه الواقعية في مقاربة ملف التخصيص من اهمية اقدام الحكومة على الشروع بتهيئة المستلزمات القانونية والإدارية لبيع رخصتي الهاتف الجوال وشركة قطاع الكهرباء وبدء التفكير بالبيع الكامل او الجزئي لشركة طيران الشرق الاوسط (ميدل ايست) المملوكة بكاملها من مصرف لبنان المركزي كذلك النظر في تخصيص كلي او جزئي لمرافق عامة اضافية كالمرافئ والمطار. فما يتم تحضيره حاليا يعبّد جزءا من الطريق الذي سيسلكه كل ملف على حدة. ويمنح الحكومة الجديدة دفعا مطلوبا لتسريع الحصول على الاجزاء الاكبر المتبقية من اموال المانحين التي تزيد عن 4.5 مليارات دولار.

ولا يستبعد الخبير الاقتصادي تحقيق عوائد تتجاوز 6 مليارات دولار كحصيلة بيع رخصتي الهاتف الجوال خلال شهر مارس (اذار) من العام المقبل وفق المسار المقرر للملف في حال تحقق الانفراج السياسي المطلوب. وسيكون لهذا المبلغ مع استعادة تدفق اموال « باريس- 3»تأثير مهم على الازمة الاقتصادية العاتية التي يعاني منها لبنان، ونواتها الاساسية المتمثلة بالدين العام البالغ نحو 43 مليار دولار (حوالي 190 في المئة من الناتج المحلي). لكن ما ينبغي التنبه له - بحسب ما يشدد الخبير - هو ان هذه المبالغ هي اقصى ما يمكن تحصيله خلال الفترة المقبلة. فقطاع الكهرباء خاسر. وجل ما تأمله الحكومة رفع العبء البالغ نحو 1200 مليون دولار والمرشح للارتفاع الذي تتحمله سنويا في دعم شراء المحروقات لانتاج الكهرباء. اما ملفات التخصيص في قطاعات النقل وسواها فدونها طريق طويل، فضلا عن محدودية مواردها قياسا بقطاع الاتصالات.

وتثير مطابقة هذا التنبيه على تجربة لبنان الطويلة في اضاعة الفرص مخاوف حقيقية من ذوبان هذه المبالغ في مزاريب الهدر وتأخير الاصلاحات والخلافات الداخلية، على غرار ما حصل بعد مؤتمر «باريس ـ 2» الذي امن ضخ مبالغ زادت على 3.5 مليار دولار لم تمنع ارتفاع الدين العام بنحو 10 مليارات دولار خلال السنوات الخمس الماضية.

ومن باب المقارنة، فان عائدات الدولة من شركتي الهاتف الجوال وشبكة الهاتف الثابت تبلغ نحو مليار دولار سنويا. وهي تشكل المورد الاهم للخزينة بعد الضريبة على القيمة المضافة. ومن المفترض ان يوازي عملية بيع هذا المورد خفض مقابل في الانفاق، وتحديدا في مجال خدمة الدين العام البالغة نحو 3.5 مليار دولار سنويا، وذلك من خلال اطفاء جزء من هذا الدين او من خلال ادارة موازية للموارد المحصلة مقابل الدين القائم. وهذه المهمة يمكن ان يتولاها البنك المركزي بكفاءة عالية خصوصا انه يحمل جزءا مهما من الدين الى جانب القطاع المصرفي.