باريس تتجه نحو الصدام مع شركائها الأوروبيين بعد رفضها «أي شراء أجنبي» لـ «سوسيتيه جنرال»

عدم استبعاد صفقة فرنسية بالكامل مع إعلان «بي.إن.بي باريبا» تطلعه لشراء المصرف المضطرب > خبراء يحذرون من فضائح احتيال أخرى قد تهز أي بنك في أي وقت

موظفو «سوسيتيه جنرال» يجتمعون أمام المقر المركزي للبنك (غرب باريس) للاحتجاج ضد الاستحواذ المحتمل للبنك من قبل منافسه الفرنسي «بي.إن.بي باريبا» (ا.ف.ب)
TT

أكد بنك بي.ان.بي باريبا أمس الخميس انه يدرس تقديم عرض لشراء سوسيتيه جنرال بعد أن تعرض لخسائر معاملات مريبة، وتسعى فرنسا لإبعاد أي متقدمين اجانب لشرائه.

وقال متحدث باسم بي.ان.بي «نحن ندرس الامر لان جميع بنوك أوروبا تدرسه». مؤكدا تقريرا أوردته صحيفة لوموند الفرنسية عن البنكين الفرنسيين وبعد أن أبلغ شخص على علم بالامر رويترز ان بي.ان.بي لم يستبعد صفقة فرنسية بالكامل.

وارتفع سهم سوسيتيه جنرال 2.3 بالمئة الى 83.70 يورو أمس لتبلغ قيمته السوقية نحو 40 مليار يورو (59 مليار دولار) بعد أسبوع من كشفه عن خسائر قدرها 4.9 مليار يورو (7.3 مليار دولار) والقى المسؤولية فيها على متعامل واحد هو جيروم كيرفيل.

وفي عام 1999 تجنب سوسيتيه جنرال عرض شراء من بي.ان.بي باريبا. وثارت تكهنات في السوق منذ ذلك الحين بشأن اندماج البنكين.

وقال جاك جوتييه من جي.اس.دي جيستيون ان اندماج البنكين سيكون جيدا بالنسبة لحملة الاسهم في البنكين.

واضاف «فيما يتعلق بشبكة أعمال التجزئية المصرفية في فرنسا سيضاعف ذلك من طاقة بي.ان.بي. وسيسفر ذلك ايضا عن وفر في التكاليف اذ ان اعمالهما تتداخل في العديد من المجالات».

ومن ناحية اخرى تتجه فرنسا نحو صدام مع شركائها في الاتحاد الاوروبي بعد ان قال جان كلود جونكر رئيس مجلس وزراء منطقة اليورو ان ظهور عرض من بنك أجنبي لن يكون أمرا مثيرا للدهشة.

وقال جان بيير جوييه الوزير الفرنسي للشؤون الاوروبية «عندما نكون في قطاعات حساسة للغاية ومنها القطاع المالي لانه هيكلي بالنسبة للاقتصاد يكون من الطبيعي ان تتطلع السلطات العامة الى من سيسيطر على الاموال الفرنسية».

وقال جونكر، رئيس وزراء بلجيكا، لمحطة اذاعة اوروبا1 «اذا اراد شخص قادم من الخارج القيام بعمل جيد في سوسيتيه جنرال... فماذا يزعجني من ذلك». وتدخل مستشار بارز للرئيس فرنسوا ساركوزي للتحذير من محاولات شراء اجنبية. وقال المستشار هنري جينو لمحطة تلفزيون بي.اف.ام «الدولة لن تقف مكتوفة الايدي وتترك سوسيتيه جنرال تحت رحمة أي مفترس».

وقال رئيس الوزراء فرنسوا فيلون في وقت سابق هذا الاسبوع ان «الحكومة مصرة على أن يبقى سوسيتيه جنرال بنكا فرنسيا كبيرا». بصرف النظر عن ضخامة فضيحة التداول التي مازالت فصولها تتكشف في بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي وخسائره التي بلغت سبعة مليارات دولار، فان المذهل فيها هو الانطباع الذي تخلفه بأن التجاوزات في أسواق المال لا تعرف وربما لن تعرف حدودا.

ومن المحير بالقدر نفسه أن الساسة يعلنون كل مرة تقع فيها الفأس في الرأس أنه لا بد هذه المرة من التحرك لمنع تكرار المأساة، ومع ذلك فالتاريخ يعيد نفسه بانتظام مرعب حتى أن بيير كيليتو من وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية يقول لرويترز ان الحكومات عقدت اتفاقا مع الشيطان. ويرى كيليتو أن الزعماء السياسيين يتقبلون بكل هدوء نظرية أنه لا مكسب بلا مخاطرة وأن الفشل المالي أو الازمات المالية من حين لاخر هو الثمن الذي لا بد من دفعه مقابل المخاطرة التي تصنع الثروة والنمو الاقتصادي في بقية الاوقات.

وقال كيليتو، الذي تواجه شركته اتهامات بالفشل في الكشف عن أزمة الرهون العقارية الاخيرة والازمة الائتمانية التي أعقبتها، «القبول بوجود الازمة هو بمثابة اتفاق فاوست (مع الشيطان)الذي أبرمه صانعو السياسة مع صناعة المال».

ويجادل بأن البديل لا بد أن يكون جذريا مثل الزام البنوك بزيادة الاحتياطيات الالزامية لعشرة أمثالها لكن المخاطرة في تلك الحالة لن تتمثل في الاخفاق بل في القضاء على القدرة على الابتكار وعلى النمو.

وفي الوقت الحالي يبدو أن وقت الحساب قد حان بعد نحو خمس سنوات من النمو الاقتصادي الكبير وأسعار الفائدة المنخفضة التي غذت مناخ الاستثمار بلا قيود. وقبل عشر سنوات كان أحد الاخفاقات الكبرى صندوق ال.تي.سي.ام وكان من صناديق التحوط التي تحظى بالتقدير بين خبراء المال في وول ستريت باعتباره خلاصة العبقرية المالية الى أن انهار.

ثم كانت فترة ازدهار قصيرة أعقبتها فقاعة أسواق التكنولوجيا والانترنت التي ظلت تكبر حتى انفجرت. والان حان وقت الانهيار والنكوص من جراء مشاكل سوق الرهون العقارية عالية المخاطر التي بلغت حد الازمة في الولايات المتحدة. وتضخمت المشكلة لتصبح أزمة ائتمان عالمية عندما أدركت البنوك وكبريات المؤسسات المالية أنها لا تعرف شيئا عن مدى استثمارات بعضها البعض في جبال الديون التي تراكمت وأعيد بيعها في صورة أوراق مالية قابلة للتداول.

ثم كانت الطامة الكبرى الاسبوع الماضي عندما أعلن بنك سوسيتيه جنرال أنه خسر 4.9 مليار يورو بسبب تعاملات جيروم كيرفيل ،31 عاما، الذي اتهمه البنك بالمقامرة بعقود آجلة على مؤشرات الاسهم تبلغ قيمتها عشرة أمثال هذه الخسارة.

وأعاد ذلك الى الاذهان فضائح أخرى مماثلة رغم أن هذه الفضيحة فاقتها جميعا في الحجم ومنها فضيحة المتعامل نيك ليسون الذي أفلس بنك بارينجز البريطاني عام 1995. ويقول ليسون ان التعاملات الاحتيالية متفشية وأن هول المفاجأة بالنسبة له لا يتمثل سوى في ضخامة خسائر سوسيتيه جنرال.

وقال ليسون في مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية (بي.بي.سي) «أعتقد أن تعاملات الاحتيال حدث يومي على الارجح بين أسواق المال».

وأضاف «فالقصة هي نفسها ما حدث لبنك بارينجز عام 1995 وهي نفسها ما حدث لبنك (ألايد ايرش الايرلندي) بعد عامين ثم بنك ناشيونال استراليا».

وقد أمضى ليسون عدة أعوام في السجن في سنغافورة ثم بدأ حياته من جديد في غرب ايرلندا حيث أصبح الرئيس التنفيذي لنادي جالواي يونايتد لكرة القدم ويدير شركة خاصة ويتقاضى مبالغ مقابل الحديث عن تعاملاته قبل انهيار بنك بارينجز. ويتفق مع ليسون في الرأي القائل أن الامور تبدو مروعة من جديد ويليم بويتر الاستاذ بكلية لندن للاقتصاد الذي كان عضوا في لجنة البت في أسعار الفائدة ببنك انجلترا المركزي.

واستضاف رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون محادثات يوم الثلاثاء مع زعماء ألمانيا وفرنسا وايطاليا كان قد رتب لها في ديسمبر (كانون الاول) الماضي لبحث مخاطر الازمة الائتمانية. وعندما اجتمع القادة أضيفت الى مخاوفهم مشكلة سوسيتيه جنرال. ويقول ماركو انونتسياتا كبير الاقتصاديين في بنك يونيكريديت الاستثماري «ما يجب عليهم حقا فعله هو البدء في تحديد خطوات بسيطة وملموسة في الوقت نفسه لتقوية نظام الاشراف».

ويضيف «بخلاف ذلك فان الخطر يتمثل في أن اطلاق المزيد من بيانات النوايا الغامضة قد يبدو نوعا من العبث بينما الدخان يتصاعد من الاقتصاد والنظام المالي».

من جهة أخرى قالت رويترز في تحليل آخر لها أن رغم كل برامج الكمبيوتر المعقدة والاختبارات النفسية بل والبواعث الاخلاقية يمكن للمتعاملين المحتالين الذين يبرمون صفقات دون علم رؤسائهم أن يهزوا مؤسساتهم في أي وقت وفي أي مكان.

وقال مارك راش المستشار لدى شركة اف.تي.اي الاستشارية والذي كان يدير وحدة جرائم الكمبيوتر بوزارة العدل الاميركية في السابق «كل العوامل التي تصنع متعاملا عظيما يمكن أن تصنع محتالا عظيما أيضا»، بل ان راش الذي ساعد في تهدئة أسواق المال الاميركية بعد هجمات 11 سبتمبر (ايلول) عام 2001 يخشى من الفزع الذي قد يتسبب فيه متعامل منفرد بأكبر بنوك وشركات الاوراق المالية في العالم. ويقول هارفي بيت الذي كان يرأس لجنة الاوراق المالية والبورصات الاميركية عامي 2001 و2002 «ما من نظام معصوم من الخطأ. فالخوف من امكانية وجود متعاملين محتالين يلازمك طول الوقت».

وأسباب القلق جلية. فالمصرفيون والمنظمون والمستثمرون شعروا بالصدمة للكيفية التي تمكن بها موظف من المستوى المتوسط من ابرام تعاملات في الاسهم غير مأذون له بها أدت الى خسارة بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي 7.2 مليار دولار وتسببت في هبوط الاسواق الاوروبية.

وقال مستشارون في ادارة المخاطر ومسؤولون سابقون ان من المستحيل استئصال كل المتعاملين الذين قد يتسببون في كوارث. لكن بوسع البنوك اتخاذ تدابير وقائية.

ويقول بيت ان هذه التدابير «يجب أن تشمل مجموعة مختلفة من أدوات الرقابة حتى اذا كان شخص قد اجتاز (من قبل) أي شكل من أشكال المراجعة».

وتحتاج الكثير من عمليات الاحتيال اهتماما مستمرا من جانب مرتكبيها حتى يمكنهم الاستمرار في الظهور بأن كل شيء على ما يرام.

ولهذا السبب تشترط البنوك التي يوجد لديها أفضل الضوابط أن يأخذ العاملون أسبوعا أو أسبوعين كاملين لقضاء اجازة تنقطع فيها صلتهم تماما بمكاتبهم.

وهذه الفترة تمثل فرصة للمدققين للتعرف على ما اذا كانت هناك أي مخالفات طويلة الاجل في غياب مرتكبها.

والمتعامل جيروم كيرفيل الذي أوقع سوسيتيه جنرال في المشكلة لم يكن يأخذ عطلات من العمل. وتوجد أيضا تدابير لا تفلح في تحقيق الغرض منها. ويتفق العديد من الخبراء أن من بينها الاختبارات النفسية، لان المتعامل المحتال يملك في الغالب عبقرية حسابية، كما أن الاختبارات قد يكون فيها قدر من التطفل المبالغ فيه على الموظفين ومحبطة لمعنوياتهم.

وتقول لويز بورك مديرة ادارة المخاطر السابقة بشركة ستيت ستريت كورب، ان من المستحيل التعرف على أفضل المجرمين لانهم غالبا ما يبرعون في اخفاء ما يفعلون. وعلاوة على ذلك فان تسعة من بين كل عشرة موظفين قد يرتكبون الاحتيال في ظل الظروف الملائمة خلال احدى المراحل في حياتهم المهنية على حد قول بورك. ومن العوامل التي تعزز احتمالات حدوث الاحتيال الضغوط من أجل النجاح في العمل والمشاكل المالية وممارسة القمار وادمان المخدرات. وقالت بورك «الشخص الواحد قد يكون عرضة لارتكاب الاحتيال في أجواء مختلفة وفي أوقات مختلفة من حياته». واذا أسفرت المراجعات العادية عن اطلاق صفارات الانذار فيمكن للبنوك متابعتها بأي اجراء يبدو مناسبا سواء بتوسيع نطاق عمليات الاشراف أو باجراء تحقيق كامل.

وتتجاوز كلفة اجراء تحقيق كامل 100 ألف دولار لذلك فان اللجوء اليها يقتصر على الحالات التي يكون البنك شبه واثق فيها من وجود المخالفات. وهنا يتم استدعاء خبراء الكمبيوتر لفحص جهاز الكمبيوتر الخاص بالمتعامل موضع الشبهات وجهاز البلاكبيري الخاص به ويستخرجون منهما الادلة.

وقال بيت «اذا أردت الاستمرار والبقاء فيجب أن تتأكد من أنك تحاول أن تسبق الاشرار دائما بخطوة على الاقل».

ومع اتضاح تفاصيل ما حدث في بنك سوسيتيه جنرال سيسعى العديد من البنوك الى فحص نظمها لرصد نقاط الضعف. وعلى هذه البنوك أن تتحرك بسرعة لان المحتالين يتعلمون من أخطاء الاخرين.

وقال سانديب فيشنو العضو المنتدب لشركة بيرينج بوين للاستشارات وادارة المخاطر ان محاولات تقليد ما حدث تتزايد. وعلى البنوك أيضا أن تجري مراجعة وافية لنظم الكمبيوتر المصممة للتعرف على التعاملات غير العادية. وربما تحتاج هذه النظم لاعادة ضبطها لزيادة درجة حساسيتها للسلوك غير المعتاد. وربما يكون النظام أيضا عرضة لسوء الاستخدام من جانب اخرين مطلعين على أسلوب عمله. فالمتعامل الفرنسي كيرفيل على سبيل المثال، كان يعمل في المكاتب الخلفية للبنك قبل أن يصبح متعاملا، مما أتاح له الاطلاع على نظم الكمبيوتر المستخدمة في مراجعة تعاملاته.

وقال متعامل في عقود الخيارات في بنك بنيويورك له خلفية تشبه خلفية كريفيل انه يعلم عن حالات لم ينقطع فيها متعاملون عن استخدام أجهزة الكمبيوتر التي كانوا يعملون عليها للتدقيق في التعاملات حتى بعد أن انتقلوا من المكاتب الخلفية الى صفوف المتعاملين.

وحتى عند سحب هذه الادوات التي يتعرف بها نظام الكمبيوتر عليهم مثل كلمات السر يمكن لهم بسهولة اقتحام النظم التي يفترض فيها أنها مأمونة. وأضاف «ربما يكون بامكاني أن أفعل ذلك».

وهذه هي الثغرات التي يبذل العديد من البنوك جهودا كبيرة لرصدها وسدها.

وتنفق البنوك ملايين الدولارات على نظم ادارة المخاطر ونظم الكمبيوتر الخاصة بتشغيلها للتعرف على عمليات الاحتيال المحتملة.

وتفعل البنوك ذلك في الغالب من تلقاء نفسها وبنصيحة من مجموعة مختارة من المستشارين لكي تزيد صعوبة معرفة عملياتها على الغرباء. وتعتبر البنوك ادارة المخاطر أيضا جزءا من الوصفة السرية التي تمنحها ميزة على منافسيها. وقال فيشنو «سيوجد من يقولون: لدينا الثقة في ضوابطنا، وهذا حدث هناك ولم يحدث لنا، وفي رأينا أنهم هم السذج».