فحص «مصفاة».. الخطأ الصغير قد يولد «كارثة»

التخطيط يستمر سنوات.. والتنفيذ على مدار الساعة.. وأسواق النفط تترقب

TT

ينطلقون كأنهم جيش من النمل يخرج من مكامنه ليغزو فريسة مصابة ومستلقية تبلغ أضعاف حجمه. يتناوبون للقيام برحلات ذهاباً وإياباً من دون توقف للراحة في الليل أو النهار، لتفكيك أوصال هذه الفريسة، رغم ضآلة حجمهم مقارنة بها، بعزم وشجاعة وقوة إرادة منقطعة النظير. هكذا يبدو منظر عمال وفنيي ومهندسي شركة أرامكو السعودية وأنت تشاهدهم من قمة الأهرام الفولاذية التي تكون مصفاة التكرير في رأس تنورة، التي يبلغ ارتفاع بعض أجزائها أكثر من مائة متر في 16 طابقا، يجب تسلق 384 درجة للوصول إليها. يعملون في حالة استنفار لتفكيك أكبر مصفاة تكرير في السعودية على الساحل الشرقي بهدف الفحص والمعاينة والصيانة لها. ولكن ما يقوم به هؤلاء، ويفوق مقدرة جيوش النمل، هو قدرتهم على إصلاح إصابة الفريسة وتطبيب جروحها وإعادة تركيبها لتقف على قدميها وتعدو من جديد. وبسبب الملابس الواقية المتطابقة للجميع، يبدو مظهر العمال والمهندسين على أرض مصفاة رأس تنورة خلال أيام الفحص والمعاينة أشبه ما يكون بلوحة فنية مستوحاة من اللباس الواقي من الاشتعال Coverall والقبعات الصلبة والنظارات الواقية. نظام يطبقه الجميع من العمال والمشغلين وصولاً إلى أعضاء الإدارة العليا في الشركة طالما وجدوا بين المعدات. ينتشرون في أرجاء المصفاة في فرق عمل ومجموعات لا تنتشر بهذه الطريقة إلا في فترات الصيانة، لأن فترات التشغيل العادية لا تستدعي الكثير من العمل الميداني، إذ أن معظم المعدات والأجهزة تتم إدارتها عبر غرف التحكم في المصفاة. ولكنهم الآن بلباسهم شبه الموحد ينكبون على تأدية عمل يعرف كل منهم أهميته ويدرك خطورته ولا يكاد الغريب عن الموقع التمييز بين الفني والمشغل والمهندس والعامل وعضو الإدارة العليا، لأن إحرام مصفاة التكرير يجعلهم متساوين في المظهر.

عملية فحص ومعاينة مصافي التكرير في أرامكو السعودية هي نوع من الصيانة الدورية الشاملة لأجهزة ومعدات المصفاة، التي تقوم بأعمال تكرير الزيت الخام وتستخرج منه منتجات مثل البنزين والديزل والكيروسين والأسفلت، وغيرها من المشتقات البترولية خلال أيام تشغيل المصفاة الطبيعية. وبهدف التأكد من تحقيق تلك الأجهزة والمعدات لمواصفات الجودة النوعية التي تمكن المصفاة من استمرارية التشغيل سنة بعد سنة، فإن عملية الفحص والمعاينة تجري مرة كل بضع سنين ويتم أثناءها إيقاف نسبة كبيرة من طاقة المصفاة التشغيلية، ليتم فحصه وتجهيزه من منظور الهندسة والسلامة لأعمال الصيانة الدقيقة.

على مدار الساعة : ويشارك عادة في تنفيذ أعمال الفحص والمعاينة فريق عمل مكون من إدارة تشغيل المصفاة وإدارة الصيانة والإدارة الهندسية فيها، ومن خلفهم جيش من المشغلين وفنيي الصيانة وفنيي الخراطة والعمال الميدانيين يعملون في ورديات على مدار الساعة، ومهمتهم بشكل مبسط جداً هي وقف تشغيل المصفاة وتفكيك معداتها وأجهزتها وصماماتها قطعة قطعة، وفحصها بحثاً عن أي عطب أو خلل فيها أو تشققات أو صدأ. وحسب كل حالة يتم تحديد حاجتها للإصلاح والصيانة أو الاستبدال أو مجرد إعادة التركيب، إذا تبين أنها في حالة مطابقة للجودة المطلوبة. وعملية تنظيف المعدات والأنابيب وتنقيتها من الغازات والسوائل الخطيرة هي مسؤولية إدارة التشغيل في المصفاة ضمن ما تقوم به قبيل تسليم تلك المعدات لإدارة الصيانة للعمل عليها. لذلك فإن موضوع السلامة حتى في زحمة أعمال التفكيك والتركيب هو أمر له الاولوية يشغل عقلية وتفكير كل فرد من أفراد فريق الفحص والمعاينة طوال فترات العمل. ومظاهر الاستعداد للتعامل مع المخاطر المحتملة، وهي كثيرة ومتنوعة، واضحة في أرجاء المصفاة وبين جميع رواده، الذين يتم تدريبهم على أصولها بشكل مستمر وبتكرار منتظم، لأن الخطأ الصغير في بيئة عمل كهذه يمكن أن يولد كارثة، ولذلك فإن احتياطات السلامة وأدواتها منتشرة ويعد فهم التعامل معها أمراً حيوياً للجميع.

ثلاث جهات مختصة: عملية فحص ومعاينة مصفاة تكرير من الناحية النظرية عملية سهلة للغاية تشارك فيها ثلاث جهات أساسية وتقوم خلالها بثماني خطوات رئيسة لإنجاز المهمة هي: إيقاف التشغيل – إزالة المخاطر – تفكيك الجهاز – فحصه ومعاينته – إصلاحه إذا احتاج – صندقته Box up – إعادة التركيب – إعادة التشغيل. لو شبهنا المصفاة بالسيارة، فإن إدارة تشغيل المصفاة تقوم مقام مالك السيارة الذي يقود سيارته إلى الورشة ويقوم بإطفاء المحرك وفتح غطائه تمهيداً لبداية دور الميكانيكي. وبما أن المصفاة لا يُذهب بها إلى الورشة فإن الورشة تحضر إليها، ويكون فيها دور المالك هو وقف التشغيل والتأكد من أن المعدات خالية من الغازات السامة عديمة الرائحة أو أي مواد مشتعلة من بواقي أعمال التكرير قد تشكل خطراً على فنيي الصيانة عند القيام بدورهم. بعد ذلك يأتي دور إدارة الصيانة التي نشبهها هنا بالميكانيكي في الورشة، الذي يقوم بتفكيك تلك المعدات وتجهيزها للتقييم الفني من الإدارة الهندسية التي تعاين المعدات وتقوم بتحديد ما يجب القيام به من إصلاح أو استبدال. ومن ثم يعود دور إدارة الصيانة مجدداً لإعادة تركيب هذه المعدات في أماكنها من جديد بعد إصلاح الخلل إن وجد، بمساعدة شركات توفير قطع الغيار وورش الخراطة داخل الشركة. وعندما تجهز المعدات يتم نقلها من ثم إلى المالك ليعيد تشغيلها.

الواقع والمأمول: بطبيعة الحال، فإن المالك قبل أن يقرر أخذ سيارته إلى ورشة الصيانة، يكون لديه بعض التصور والتوقعات لشكل وحجم ونوع الأعطال التي قد تكون لحقت بمحركها. وأحياناً بعد عملية التفكيك، يجد المالك أن ورشة الصيانة قد عادت له بقائمة من الأعطال التي لم تكن في حسبانه. وعندها فإن السيارة ربما تبقى في الورشة مدة أطول ويتم إنجاز صيانتها بتكلفة أكبر. ولتفادي الوقوع في مثل هذا الموقف المحتمل قدر المستطاع والمعقول بالنسبة لمصفاة، فإن عملية الفحص والمعاينة يتم التخطيط لها بشكل دؤوب ومكثف خلال سنوات تسبق بداية أعمال الصيانة فيها.

جميع الجهات التي تقوم بتنفيذ عملية الفحص والمعاينة تشارك في التخطيط لها وفي أذهانهم جميعاً إضافة إلى النواحي التقنية والأمور المتعلقة بالسلامة زوايا أخرى لا بد أن تؤخذ في الحسبان، لأن إيقاف تشغيل الجزء الأكبر من المصفاة يعني توقف تدفق المنتجات البترولية التي تحتاج لها الأسواق المحلية والعالمية. وبالتالي يتم التنسيق والتخطيط مع الإدارات المعنية بهذا الملف لإيجاد كميات إضافية من هذه المنتجات وتخزينها لكي يتم من خلالها تغطية حاجة السوق والوفاء بالتزاماته خلال فترة التوقف. كذلك يتم التخطيط حسب التوقعات والدراسات الأولية لطلب واستيراد المواد وقطع الغيار اللازمة لصيانة أجهزة المصفاة بحساب وقت الصيانة المناسب ومدى انسجامه مع أوقات الإيصال المفترضة لتلك المواد ومدى توفرها أو الحاجة لتصنيعها من قبل الموردين لكي تصل في الوقت المحدد. مدرسة الفحص والمعاينة : وبما أن حجم العمل خلال فترة الفحص والمعاينة يكبر في مساحة وقتية أقل، فإن الحاجة للمزيد من الأيدي تكون أحياناً ضرورية. ويسهم في توفير ذلك النوع من العون نظام تبادل الخبرات القائم بين مختلف المصافي التي تديرها شركة أرامكو السعودية في المملكة. فيذهب منسوبون لمصفاة رأس تنورة، أكبر المصافي حجماً وتعقيداً في أرامكو السعودية، إلى مصافي التكرير في الرياض أو جدة أو ينبع أثناء قيامهم بأعمال الفحص والمعاينة لمعاملهم. وكذلك فإن منسوبي هذه المصافي يوجدون على أرض رأس تنورة للاستفادة من الخبرات التي يكتسبونها كل يوم عمل، جراء التعامل مع أنواع مختلفة من المشكلات التي قد لا تواجههم في المصافي التي يعملون بها. يقول رون ميركوري الذي يعمل في هذا المجال منذ 39 سنة منها 16 سنة في أرامكو السعودية: «العمل خلال فترة الفحص والمعاينة هي أفضل طريقة للتعلم، إنها بمثابة عملية تدريب عملاقة، ومصفاة رأس تنورة هي أفضل مكان لتلقي هذا التدريب».