هل تنهي كوريا الجنوبية احتكار «العائلات» لاقتصاد البلاد؟

بعد فضيحة رئيس «سامسونغ».. وهيمنة 30 مجموعة تجارية تخضع لإدارة عائلات على 40% من الاقتصاد

لي كن هي، رئيس مجموعة «سامسونغ» الهائلة اثناء خطاب الاستقالة (ا.ب)
TT

عقد المشهد ألسنة الكوريين الجنوبيين من الصدمة، حيث تقدم لي كن هي، رئيس مجموعة «سامسونغ» الهائلة والمهيمنة على الاقتصاد الكوري الجنوبي، باستقالته فجأة وسط اتهامات جنائية، وقدم اعتذارا غلفه شعور بالخزي والعار.

جاء الإعلان عن استقالة لي أخيراً وتم بثه على الهواء مباشرة في التلفزيون الحكومي، وشكل أكثر من مجرد سقوط أحد أقوى الشخصيات بكوريا الجنوبية وملياردير جرت الإشادة به باعتباره إحدى الشخصيات المثالية المعنية بالمجال التقني، ولسيطرته المتميزة على أكبر القلاع الصناعية الكورية. وأسفرت هذه الحادثة عن وضع كوريا الجنوبية في مواجهة أحد أكثر الجوانب المحيرة لمعجزتها الاقتصادية، وهو كيف أن هذا الاقتصاد المتنامي بسرعة وتبلغ قيمته 960 مليار دولار، والذي يمد العالم بأشباه الموصلات والناقلات العملاقة، لا يزال يخضع في الجزء الأكبر منه لسيطرة حفنة من المجموعات التجارية المملوكة لأسر بعينها، مثل «سامسونغ». وتشير إحصاءات المصرف الكوري إلى أن أكبر 30 مجموعة تجارية تخضع لإدارة عائلات تهيمن على قرابة 40% من الاقتصاد. والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن هو ما إذا كانت كوريا الجنوبية قد بدأت بالفعل في التحرك نحو إضعاف السيطرة العائلية على مثل هذه المجموعات، أو على الأقل وضع هذه السيطرة تحت قدر أكبر من الرقابة والإشراف العام. وفي حديث أدلى به الأسبوع الماضي في أعقاب اتهام لي بالتهرب الضريبي وخيانة الثقة، تعهد الرئيس الكوري الجنوبي بإقرار المعايير العالمية لإدارة الشركات التجارية بالبلاد. من جانبه، أشاد كيم يونجي، بروفيسور القانون بجامعة يونساي في سيول، بهذه الخطوة باعتبارها تشكل «تقدمًا»، مضيفًا أن «نظام الملكية السرية بدأ أخيرًا بالنضوج. ويعد ذلك جزءاً من التحول نحو قدر أكبر من الشفافية والمحاسبة» وتواجه العائلات المسيطرة على مجموعات تجارية ضخمة انتقادات واسعة النطاق داخل كوريا الجنوبية، نظرًا لأن أساليبها السرية في إدارة شركاتها تبدو متناقضة مع المناخ العام بهذه الدولة النشطة التي تغلب عليها الشفافية والتي اتخذت من الديمقراطية نهجًا لها منذ بداية التسعينات. وبالنسبة للكثير من الكوريين الجنوبيين، تبدو مثل هذه العائلات بقايا للحقبة الاستبدادية القديمة عندما عملت المجموعات الصناعية يدًا بيد مع الحكام العسكريين. بيد أنه في الوقت ذاته، يجري النظر إلى هذه المجموعات التجارية على أنها مجوهرات ترصع تاج قصة من أعظم قصص النجاح الاقتصادي.

لقد كان الدافع والطموح الذي أبدته المجموعات التجارية العائلية أمثال «سامسونغ»، التي بدأت شركتها لإنتاج الالكترونيات ببيع أجهزة تلفزيون منخفضة السعر تحت اسم تجاري ياباني إلى دول مثل بنما، هو الذي أخرج كوريا الجنوبية من حطام الحرب الكورية. وبمرور الوقت، احتلت سيول الترتيب الثالث عشر بين أكبر اقتصادات العالم، وتميزت بناطحات السحاب الأخاذة ومستوى من أعلى مستويات المعيشة في قارة آسيا. ومن بعض النواحي، تعد «سامسونغ» أكبر شركة إلكترونيات على مستوى العالم، حيث بلغت مبيعاتها 158.9 مليار دولار عام 2006. ويحظى شعارها الأزرق بشهرة عالمية، وتسهم هواتفها الجوالة وأجهزة التلفزيون ذات الشاشة المسطحة في تحديد المعايير العالمية للشركات الأخرى. لذا نجد أنه في الوقت الذي زاد فيه غضب كوريا الجنوبية من المجموعات التجارية العائلية بها خلال العقد الماضي، ما زال من غير الواضح حجم الضغوط التي ستمارسها عليها. يذكر أنه في العام الماضي، صدر حكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات ضد تشنج مونج كو، رئيس مجموعة «هيونداي موتور» لإدانته بالاختلاس، لكن سرعان ما أصدرت محكمة استئناف حكمًا بإطلاق سراحه وتجميد عقوبته، مشيرة إلى أهميته بالنسبة للاقتصاد الكوري. كما أوقفت المحكمة تنفيذ حكم بالسجن لثلاث سنوات ضد رئيس مجموعة «إس كيه»، إحدى المجموعات التجارية العائلية العملاقة الأخرى لإدانته بالاحتيال في الحسابات. من ناحية أخرى، وفيما يتصل بالاتهامات الموجهة إلى لي كن هي، أسقط المدعون الجزء الأخطر من التحقيقات التي يجرونها، معللين ذلك بعدم كفاية الأدلة، ويرتبط هذا الجزء بما إذا كان قد عرض مبلغًا ماليًا على مسؤولين حكوميين كرشوة. وبدأ مسلسل سقوط لي في أكتوبر (تشرين الاول)، عندما عقد محام سابق بشركة «سامسونغ» (تحول فيما بعد إلى العمل كمرشد لصالح الشرطة) مؤتمرا صحافيا في إحدى الكنائس الكاثوليكية بسيول، حيث اتهم لي خلاله بعرض هذه الرشوة.

وبعد تحقيقات استمرت ثلاثة شهور، اتهم المدعون لي بنقل ملكية بعض أصول المجموعة إلى نجله بصورة غير قانونية والتهرب من دفع الضرائب المستحقة على مبلغ 4.5 مليار دولار من المعتقد أنها مخبأة في حسابات سرية. ويواجه لي عقوبة السجن مدى الحياة حال إدانته بالاتهامات الموجهة إليه. ومن المقرر أن يدفع قرابة 110 ملايين دولار كضرائب مستحقة. من ناحيته، نفى لي مساعدته لنجله بالصورة التي ذكرت. ولم تعلن «سامسونغ» خليفة له في منصب رئيس الشركة حتى الآن. وتوقع الكثيرون أن يستمر لي في رئاسة الشركة أثناء نضاله ضد الاتهامات الموجهة إليه، مثلما سبق أن فعل، ولكن بدلاً من ذلك، فوجئت البلاد بأسرها اخيرا بخروجه من عزلته المعتادة ليعلن تنحيه عن رئاسة الشركة بعد 20 عامًا قضاها في هذا المنصب. ووقف خلفه أثناء إعلانه خطاب الاستقالة تلفزيونيًا كبار المسؤولين التنفيذيين بالشركات الفرعية التابعة للشركة الأم والبالغ عددها 59 شركة. وقال لي في حديث وجهه إلى العاملين بالمجموعة، والذين يتجاوز عددهم 200 ألف موظف، «لقد تعهدت منذ 20 عامًا أن اليوم الذي سيتم فيه الاعتراف بـ«سامسونغ» كشركة تجارية من الطراز الأول، فإن المجد والنجاح سيكونان من نصيبكم. وأنا أعتذر بصدق عن عدم وفائي بهذا الوعد».

بعد هذا البيان المقتضب، سارع لي بالخروج من المؤتمر الصحافي دون تلقيه أسئلة. وجاء رحيل «لي» بمثابة صفعة لأقوى القلاع الصناعية بكوريا الجنوبية. يذكر أن مجموعة «سامسونغ» التي سيطرت عليها عائلة لي من خلال شبكة معقدة من ملكية الأسهم، تتضمن أيضًا أكبر مرفأ لبناء السفن وإصلاحها على مستوى العالم، وشركة إنشاءات تقوم حاليًا ببناء ناطحة سحاب في دبي ستكون الأكثر ارتفاعًا في العالم. تشكل المجموعة كذلك خمس صادرات كورية الجنوبية، مما دعا البعض إلى تسمية البلاد باسم: «جمهورية سامسونغ» على سبيل المزاح. إلا أن المحللين أشاروا إلى أنه لم يتضح بعد حتى الآن حجم السيطرة التي ستتخلى عنها أسرة لي فعليًا فيما يخص المجموعة. وشهد يوم استقالة لي اخيرا كذلك، إعلان المجموعة حلها مكتب التخطيط الاستراتيجي بها الذي استخدمه لي في إدارة المجموعة. وكان من بين إعلانات المجموعة أيضًا استقالة لي والمسؤولين التنفيذيين وثيقي الصلة به من مجالس إدارة 15 شركة تابعة لـ«سامسونغ» يجري التداول فيها علانية. بيد أنه حتى بعد إجراء هذه التغييرات، سيبقى لي أكبر فرد مساهم بالمجموعة.

وأشار النقاد إلى أنه سيستمر في التمتع بقدر هائل من السلطة وراء الكواليس من خلال المسؤولين التنفيذيين بمجموعة «سامسونغ» الموالين له ونظام دائري لحمل الأسهم عبر مختلف شركات المجموعة يساعد في الحفاظ على وحدتها. وصرح كيم صن وونغ، المحامي بمركز الحكم الرشيد للشركات، وهو مجموعة بحثية معنية بمراقبة المجموعات التجارية الكبرى الخاضعة لسيطرة عائلات بعينها، بأن رئيس سامسونغ المستقيل «لم يفقد السيطرة الفعلية».

وتسيطر أسرة لي على المجموعة من خلال امتلاكها حصة كبيرة داخل شركة «إيفرلاند» التي تعمل في تشغيل متنزه ترفيهي، والتي تملك بدورها حصة في شركة التأمين على الحياة التابعة لـ«سامسونغ» والتي تملك أسهما داخل «سامسونغ للإلكترونيات» والتي بدورها تملك أسهمًا في شركة بطاقات ائتمان تابعة لـ«سامسونغ». وتملك شركة بطاقات الائتمان حصة من شركة «ايفرلاند». من ناحية أخرى، أعلنت المجموعة أن نجل لي، ويدعى لي جاي يونغ ويبلغ من العمر 39 عاما، سيتنحى عن منصبه كرئيس قسم العلاقات مع المستهلكين في شركة «سامسونغ للإلكترونيات» للعمل بمكتب الشركة في دولة نامية لم يتم ذكر اسمها. يذكر أن لي كن هي لديه أيضًا بنتان. وتعرض لانتقادات لمحاولته نقل السيطرة على المجموعة إلى نجله، مثلما ورثها عن والده، لي بيونج تشول الذي أسس شركة «سامسونغ» عام 1938. وعاد كيم، البروفيسور بجامعة «يونساي» للقول إن «الشركات يجري إجبارها على التخلص من هياكل الملكية المعقدة. ومع الانتقال من جيل لآخر، ستختفي العائلات من الساحة. وستصبح الشركات شبيهة بتلك المملوكة لعائلات داخل الولايات المتحدة والدول الأخرى».

* خدمة نيويورك تايمز