الاتجاه إلى تخزين الحبوب الغذائية يساهم في رفع الأسعار

تحول المواد الغذائية إلى سلعة استثمارية

نقص انتاجية المحاصيل الزراعية من ضمن اسباب ارتفاع الاسعار (أ.ب)
TT

ظهرت أزمة الغذاء العالمية، التي تعد الأسوأ من نوعها منذ فترة طويلة، كنقطة مضيئة على شاشات الكومبيوتر في كبرى بورصات الحبوب الأميركية، حيث تبين من الوهلة الأولى أنها ليست مجرد أزمة عابرة. ففي شيكاغو ومينيابولس ومدينة كانزاس، كان التجار يعانون كثيرا في مطلع هذا الصيف، عندما ارتفعت أسعار القمح بشكل كبير بسبب المحصول الضعيف في الولايات المتحدة وأوروبا، والمؤشرات التي تدل على جفاف طويل المدى في أستراليا. وخلال أسابيع، أدرك التجار وجود تداعيات متسارعة لهذه الأزمة ـ فقد أدت إلى تنحي رئيس الوزراء في هاييتي وارتفاع عدد الأطفال الذين يعانون من الجوع في موريتانيا. بينما قرر المسؤولون الاميركيون في سوبر ماركت «Sam"s Club» وضع قيود على مبيعات الأرز. وفي الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار، تتحرك كبرى الدول المنتجة للحبوب الغذائية، ومنها الأرجنتين وأوكرانيا، اللتان تعانيان من التضخم بسبب أسعار النفط المرتفعة، إلى منع تصدير عدد من المحاصيل للسيطرة على الوضع داخل البلاد. ويعني هذا أن الإمدادات ستقل في السوق العالمية، بينما يقف الطلب العالمي على أعتاب مرحلة جديدة. وقد بدأت أسعار الذرة في الارتفاع خلال الشهور الماضية بسبب برامج إنتاج وقود الميثانول التي تدعمها الحكومة. ويعاني فول الصويا من ضغوط بسبب الطلب المتزايد في الصين. وبسبب تراجع الإمدادات في السوق العالمية، بلغت أسعار الذرة وفول الصويا والقمح والشوفان والأرز وغيرها من الحبوب معدلات خيالية. وقد أصبح الطعام مثل الذهب، فقد بدأ مستثمرون في سوق العقارات بـ«وول ستريت» إلى استثمار مئات الملايين من الدولارات في صفقات الحبوب، مما ساهم في ارتفاع الأسعار بشكل أكبر. وقد اتجهت الكثير من الدول إلى القمح الأميركي في ظل عدم توافر البدائل الكثيرة وضعف الدولار. وقد اتجه المشترون الأجانب، الذي كانوا يشترون عادة احتياجاتهم لمدة شهر أو شهرين، إلى التخزين، فقد تقدموا بطلبات لبورصات الحبوب الغذائية الأميركية لشراء كمية تزيد عن الكمية المعتادة بمقدار المثلين أو الثلاثة أمثال. وفي تلك الفترة، وقعت أحداث الشغب المرتبطة بالغذاء في مختلف أنحاء العالم. وقد دفع هذا الوضع المطاحن الأميركية زيادة وتيرة عملها على ضوء الطلب الكبير، مما زاد من مخاوف عدم توافر القمح في المستقبل.

ويقول جيف فودج رئيس مجلس التجارة في مدينة كانزاس: «هناك طلبات كبيرة من اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان. وبالرغم من الأسعار المرتفعة، لا تزال طلبات الشراء تتزايد». واضاف أن أسعار الحبوب قد بدأت في الارتفاع بشكل كبير جدا، ويسبب هذا الأمر ضغوطا كبيرة على التجار.

ويضيف فودج: «لم نر مثل هذا من قبل، فالأسعار ترتفع في يوم واحد على نحو لم يكن يحدث في عدة سنوات في الماضي. ولكن مهما ارتفع السعر فسيكون هناك من يشتري.. فهذه ليست أي سلعة، إنه طعام».

وقد تسببت هذه الأزمة في حالة من الهياج الكبير بشأن العرض والطلب على السلع الغذائية. فبعد أحداث الشغب التي قام بعض المواطنين الجوعى في عاصمة هايتي «بورت أو برنس»، اضطر رئيس الوزراء جاك ادوار إلكسي إلى الاستقالة هذا الشهر. كما شهدت 14 دولة على الأقل أحداث شغب بسبب الغذاء. ولاحتواء هذه الاضطرابات، بدأت بعض الدول، مثل إندونيسيا، زيادة دعم السلع الغذائية. وكان برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة قد حذر من زيادة في معدلات الجوع في بعض المناطق في كوريا الشمالية وغرب أفريقيا. وحذر البرنامج من أن أزمة الغذاء ستجعل أكثر من 100 مليون شخص من أكثر الفقراء في العالم، حيث يعانون من أوضاع معيشية أصعب، وسيكون عليهم أن ينفقوا الكثير والكثير من دخلهم على السلع الغذائية. ويقول السكرتير العام للأمم المتحدة بان كي مون: «ستؤدي الأزمة إلى سلسلة من الأزمات المماثلة، وستظهر مشكلة متشعّبة تضر النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والأمن السياسي في مختلف أنحاء العالم».

وقد بدأت بعض أسعار المحاصيل ـ مثل القمح ـ في الانخفاض مرة أخرى. في الوقت الذي بدأ المزارعون في زراعة المزيد من الأراضي الزراعية بالقمح لأنه يحقق معدلات ربح أكبر. ويتوقع المحللون انخفاض الأسعار بنسبة 30 في المائة خلال الأشهر المقبلة. وهناك عدد قليل من المحللين الذي يرى أن الأسعار سترجع إلى معدلاتها التي كانت عليها في بداية عام 2006، مشيرين إلى أن العالم عليه أن يتكيف مع الواقع الجديد المتمثل في أسعار مرتفعة. ويتكيف الناس مع الوضع الجديد بأشكال مختلفة، فبالنسبة للمليار شخص الذين يعيشون على أقل من دولار في اليوم، يعد هذا الموضوع أمر حياة أو موت. وتعاني مانثيتا سو، وهي أرملة تبلغ من العمر 43 عاما تعيش في كوخ من الطمي يقع في قرية موريتانية على مشارف الصحراء، من أسعار القمح التي شهدت ارتفاعا يصل إلى 67 في المائة في السوق المحلية خلال العام الماضي. والحل الذي توصلت إليه هي ألا تأكل الخبز. وبدلا من هذا لجأت إلى بعض السلع الغذائية الأرخص مثل ذرة السرغوم (الذرة السكرية) وهو حب داكن اللون يُقبل عليه الفقراء في العالم بشكل كبير لرخص ثمنه. ولكن المشكلة هي أن أسعار ذرة السرغوم ارتفعت هي الاخرى بمقدار 20 في المائة خلال الـ12 شهرا الماضية. وتعيش الأرملة على 50 سنتا يوميا وهي تعول طفلين، وقد اضطرت للتخلي عن وجبة الإفطار والاكتفاء بالشاي في وجبة الغذاء وتتناول وجبة من ذرة السرغوم في وجبة العشاء. وتقول المرأة: «لا أدري إلى متى سنستطيع العيش بهذه الطريقة».

وتعاني الدول التي تشهد تزايدا في الطلب على السلع الغذائية، على مدى السنوات الأخيرة، من أزمة زيادة الأسعار. وعلى الرغم من محاولات الصين تهدئة الشعب بالإعلان عن مخزون من الحبوب نسبته 30 ـ 40 في المائة من الإنتاج المحلي، فما زالت هناك حالة من القلق الشديد، حيث إن هناك تقارير عن إقبال المواطنين في مقاطعة غوانغدونغ على تخزين الحبوب، كما نفد الأرز من المحلات في هونغ كونغ. وفي الهند، قللت الحكومة في الفترة الأخيرة رسوم الواردات على زيت الطعام، ومنعت تصدير الأرز باستثناء الأرز البسمتي. وكما هو الحال في كثير من المناطق النامية فإن الأثر الأكبر لهذه الأزمة يظهر على الفقراء الذين يعيشون في المناطق الحضرية وتركوا الحياة في الريف ليعيشوا في مناطق عشوائية بها كثافة سكانية كبيرة. ويقول مانجيت سينج، وهو صاحب محل في نيودلهي يبلغ من العمر 52 عاما، إن الناس بدأوا في تخزين السلع الغذائية، لأنهم يخافون من نفاد الأرز والزيت. وحتى بالنسبة للدول الغنية بدأ بعض في تعديل أوضاعها. فقد تحول المنتجون في اليابان إلى الحبوب المعدلة وراثيا رخيصة الثمن، لاستخدامها في السلع الغذائية المعالجة. وقد بلغ التضخم في الدول التي تستخدم اليورو، ومنها فرنسا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا، 3.6 في المائة خلال شهر مارس (آذار)، وهو أعلى معدل منذ استخدام اليورو منذ نحو عقد من الزمان. والسبب الأساسي في هذا الأمر هو أسعار البترول والسلع الغذائية. ويختلف السبب الرئيسي وراء زيادة الأسعار من سلعة إلى أخرى، فمن الأسباب القوية لزيادة أسعار القمح الجفاف الذي تعرضت له أستراليا لعدة سنوات. وقد اشار العلماء استمرار هذه المشكلة بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي. ومع هذا، ترتفع أسعار القمح لأن المزارعين الأميركيين بدأوا في زراعة كميات أقل منه، أو زراعة القمح في أرض أقل خصوبة. وقد لجأوا إلى هذا رغبة في زراعة الذرة ليستخدموها في عملية إنتاج الوقود الحيوي. ومن المتوقع أن يذهب ما بين خمس الى ربع محصول الذرة في أميركا إلى مصانع إنتاج الإيثانول. ويقول بروس بابكوك، وهو أستاذ اقتصاد ومدير مركز التنمية الريفية والزراعية في جامعة ولاية آيوا: «لو لم يكن هناك إيثانول، لما كانت هناك الأسعار الحالية، وهذا لا يعني أن الميثانول هو السبب الوحيد، فقد كان من المحتمل أن تصل الأسعار لمستويات أعلى مما كانت عليه في بداية هذا العقد لأن إمدادات الحبوب في العالم قد أصبحت أقل من الإمدادات المتوافرة قبل عقد. ولكن ما حدث هو أن هناك طلبا جديدا في السوق».

وفي الواقع، يقول الكثير من علماء الاقتصاد أن أسعار السلع الغذائية كان يجب أن ترتفع بصورة أكبر منذ وقت أطول. فبعد سقوط حائط برلين، تغير العالم بسبب السوق المفتوحة المتسارعة وارتفاع معدلات التجارة والتطور في مجال الاتصالات ونقل التقنية. فعلى أساس توافر الحبوب في السوق العالمية بأسعار رخيصة نسبيا، بات تخزين الحبوب على النحو الذي يشهده العالم في الوقت الحالي وسيلة غير عملية. ومن ثم انخفض احتياطي الحبوب في العالم. ويشير بعض علماء الاقتصاد إن دعم السلع الغذائية والممارسات الأخرى التي تهدف إلى حماية المزارعين، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة واليابان شوهت الأسعار الحقيقية للسلع الغذائية في العالم.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)