أميركا: بيرنانكي «يخرس» منتقديه ويتحول لمنقذ اقتصادي

بعد أن اتخذ «رئيس البنك المركزي» إجراءات جريئة

بيرنانكي (أقصى اليسار) أثناء احد اجتماعات مجلس الاحتياط الاميركي («نيويورك تايمز»)
TT

كما لو كان قائدا عسكريا يعمَد إلى القوة بلا قيود، اتخذ رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي بين بيرنانكي عددا من الإجراءات بدأها في منتصف مارس (آذار) الماضي ويصفها البعض في البنك المركزي بـ« تعاليم» بيرنانكي. ويبدو أن بن بيرنانكي، رئيس مجلس الاحتياط الاميركي (البنك المركزي)، قد تمكن من إخماد أصوات منتقديه، لا سيما في وول ستريت، والتي قالت من قبل عنه انه أكاديمي جدًا وأبطأ من أن يتجاوب مع ظروف السوق. ولكن في الوقت نفسه، ظهرت انتقادات جديدة تقول إن بيرنانكي قد أزكى نيران التضخم وساهم في انخفاض قيمة الدولار عن طريق خفض معدلات الفائدة بشكل كبير. ويقول البعض انه قد عرّض مليارات الدولارات من الأموال العامة للخطر بموافقته على قبول أصول ذات قيمة منخفضة مثل الرهن العقاري والسيارات كضمان لقروض المؤسسات المالية. وقد أثار بيرنانكي العديد من التساؤلات حول ما إذا كان يمثل تهديدا لاستقلال مجلس الاحتياطي الفيدرالي عندما دفع المجلس إلى آفاق جديدة من التدخل وسن اللوائح. ويقول تشارلس كالوميريس، أستاذ الاقتصاد والتمويل بكلية التجارة جامعة كولومبيا، في إشارة لأنشطة الإقراض الخاصة بمجلس الاحتياطي الفيدرالي: «لقد كانت هناك بالفعل مجموعة من الإجراءات الجريئة غير المسبوقة. وذلك ما كان يجب القيام به تماما. ولكن ليس معنى ذلك أنني لا أرى أن هناك تكلفة وأنه ليس ثمة مخاطرة». ويدافع تيموثي جيثنر، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وهو صديق مقرب من بيرنانكي، عن «تعاليم» بيرنانكي بأنها استخدام فعال لسياسات مالية وأخرى للإقراض لتجنب حدوث انهيار اقتصادي. ويقول جيثنر: «غيَّر بيرنانكي من الإطار الذي تعمل فيه البنوك المركزية عند إدارة الأزمات. سينتقد البعض ذلك، وفي المقابل سيثني عليه آخرون، ولكنه بالتأكيد سيختبر على مدى عقود». وقد غيرت هذه الإجراءات من صورة بيرنانكي كأستاذ اقتصاد يحرص على أن يبقى بعيدا عن الأضواء.

ويقول ريتشارد فيشر، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في دلاس: «أنظر إليه الآن كما لو كان بوذا. لقد نمّى في نفسه هدوءا يعتمد على فهم كبير لاستخدام الوسائل، بغض النظر عن مدى قسوتها، لتحقيق النتائج التي يريدها».

وقد تسببت رغبة بيرنانكي في العمل مع الديمقراطيين في الكونجرس من أجل الوصول إلى معايير يمكن من خلالها منع إجراءات حبس الرهن العقاري، في اضطرابات داخل صفوف إدارة بوش. ويقول آلان بليندر، وهو أستاذ الاقتصاد بجامعة برنستون وصديق لبيرنانكي: « على الرغم من أن جورج بوش هو من عينه، فإنه قريب جدا من تأييد ذلك التشريع الذي يهدد جورج بوش بنقضه بالفيتو، وهو ما يوضح أنه على استعداد لأن يضحي بمنصبه».

ومن الأسباب التي تدفع بيرنانكي إلى هذا المنحى، اعتقاده بأن التعافي الأوسع للاقتصاد يعتمد على قطاع الإسكان، الذي ما زال يعاني من تراجع خطير. وهناك أدلة جديدة على أن قطاع العقارات المنزلية سيعاني من الكساد خلال هذا الربيع، حيث أشار أحد التقارير إلى أن الأسعار قد انخفضت بمقدار 14.1 في المائة في مارس (آذار) مقارنة بما كانت عليه قبل عام وأفاد تقرير آخر بأن مبيعات المنازل الجديدة قد انخفضت بمقدار 42 في المائة مقارنة بالعام الماضي.

وقد كانت هناك انتقادات سابقة من جانب الديمقراطيين لبيرنانكي الذي ينتمي للحزب الجمهوري. ومن بين من انتقدوه، روبرت روبين ولورانس سامرز، وقد شغلا منصب وزير الخزانة في إدارة كلينتون، حيث اتهماه بأنه يقلل من شأن مخاطر الركود. لكن هذه النظرة قد تغيرت. ويقول روبين عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي: «أعتقد أنهم أداروا أنفسهم بشكل جيد على مدى الأشهر القليلة الماضية». ويتفق الكثير من الديمقراطيين مع هذا الرأي. ويضيف السيناتور الديمقراطي تشارلس سكاملر، رئيس اللجنة الاقتصادية المشتركة: « يقولون إن الأزمات تصنع الرجال، وقد تمكن (بيرنانكي) من كسب مؤيدين من بين الناس الذين كانوا غير متأكدين من أدائه من قبل».

وللتقليل من احتمالية حدوث انهيار مالي، لجأ بيرنانكي إلى الاستحواذ على بنك استثماري، وهو بنك بير سترنز، وأعطى قروضا لبنوك أخرى ومنحها تسهيلات إقراض جديدة غير عادية. وتوجد لدى مجلس الاحتياطي الفيدرالي سبع نوافذ للإقراض، بعضها للبنوك الاستثمارية والتجارية. كما سمح بيرنانكي للمجلس بأن يقبل أصولا ما زالت قيمتها موضع نقاش، مثل السيارات، كضمان لبعض قروض المجلس. وللمرة الأولى، عين رئيس المجلس موظفين تابعين للمجلس داخل البنوك الاستثمارية لفحص دفاترها. وعلى عكس رغبة بعض الاقتصاديين المحافظين، قام بيرنانكي بسلسلة غير عادية من التخفيضات على معدلات الفائدة. وقد تسببت إجراءاته في انتقادات من خارج وداخل المجلس، ومن بين المنتقدين، اقتصاديون لعبوا دورا بارزا في الإدارات الجمهورية السابقة مثل جون تايلور بستانفورد ومارتن فيلدستين بهارفارد. وقد قال تايلور إن ما قام به المجلس من خفض معدلات الفائدة يعد شيئا خطيرا في ما يتعلق بالتضخم وقيمة الدولار، وقد جعلت هذه الانتقادات المجلس يقف في موقف الدفاع. وأفاد فيلدستين في مقابلة معه بأنه يشعر بالقلق بسبب خفض معدلات الفائدة ومنافذ الإقراض الجديدة وقبول أصول ما زالت محل نقاش كضمانات. وأضاف إنه من غير المحتمل أن تساعد هذه الإجراءات الاقتصاد الذي يحتاج إلى بعض الوقت لاستيعاب أزمة الإسكان ونقص الثقة بين المستهلكين. وقال: «بصراحة، لا أرى أن هناك ما يمكن للمجلس أن يفعله للتعامل مع المشاكل الجوهرية للاقتصاد في الوقت الحالي، فهم قد قاموا على الأقل بأقصى ما يمكن أن يقوموا به، وربما قاموا بالكثير جدا».

وكان بول فولكر، الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي حارب التضخم في الثمانينات من القرن الماضي، من بين من حذروا من أن المجلس يحاول القيام بما يتجاوز قدراته. فقد قال فولكر إن تدخلات البنك المركزي، خاصة في شراء بنك بير سترنز في مارس (آذار) الماضي، يمكن أن تأتي على حساب استقلاليته. ويقول صديق آخر لبيرنانكي، وهو كينث روجوف من جامعة هارفرد، إن رئيس المجلس يأخذ البنك المركزي لعصر جديد قد يكون من الصعب فيه منع الضغوط السياسية في المستقبل. ويقول روجوف: «ظل المجلس ناجحا في الحفاظ على استقلاله، وسيكون هذا أكثر صعوبة إذا ما تحملوا المزيد من المسؤوليات الرقابية». وقد اقترحت إدارة الرئيس بوش توسيع الدور الرقابي للمجلس في المستقبل، ولكن لم يوضح وزير الخزانة هنري بولسون أي صلاحيات يمكن منحها للمجلس. ويقال إن الإجراءات الأخيرة التي اتخذها بيرنانكي صحبها نقاش شديد، خاصة سياسة خفض معدلات الفائدة التي كان هناك نقاش ساخن حولها داخل المجلس، حسب مضبطة آخر اجتماع لصانعي السياسات. ويقول تشارلس بلوسر، وهو رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا، وكان ممن صوتوا ضد تخفيض معدلات الفائدة: «على مدى 30 عاما، عمل مجلس الاحتياطي الفيدرالي من أجل كسب المصداقية لدى الشعب، وعلى الرغم أنه من الصعب أن تحظى بالمصداقية، فمن السهل أن تخسرها إذا لم تكن حريصا».

ومع هذا فقد أكد بلوسر على تقديره لسعي بيرنانكي لسماع أصوات المعارضين وعلى قدرته على الابتكار. وقال: «التسهيلات الجديدة هي مبادرات من بيرنانكي، فهو يميل إلى أن تكون له نظرة جديدة عن إدارة النظام ويتخطى المعهود بعد تفكير عميق».

ولقد أثّر بيرنانكي في العديد من زملائه والبرلمانيين مستغلا مهاراته السياسية، فهو يستطيع أن يوصل وجهات نظره للديمقراطيين والجمهوريين على السواء بعيدا عن الأضواء. فعلى سبيل المثال، عمل الشهر الماضي مع الديمقراطيين في الكونجرس من أجل إصدار تشريع خاص بالإسكان يمنع المزيد من إجراءات حبس الرهن العقاري، وقد كان الرئيس بوش يهدد بنقض هذا التشريع باستخدام حق الفيتو. وفي المقابل أسعد بيرنانكي الرئيس بوش عندما دفع بعض الديمقراطيين إلى طلب تغييرات أكثر قسوة في حوكمة ورسملة عائد شركتي تمويل رهن عقاري كبيرتين هما: «فاني ماي» و«فريدي ماك». ويقول بولسون عن رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي: «إن بيرنانكي شخص ذكي ومبدع ومنفتح على الأفكار الجديدة». ولكن يقول مقربون من بيرنانكي إن الجو المتأزم غير العادي الذي كان سائدا العام الماضي قد قوى من عزم بيرنانكي، لكنه تسبب في بعض الآلام له. وهو ممن يبدو عليهم الهدوء ولكن داخله الكثير والكثير.

* خدمة «نيويورك تايمز »