ارتفاع أسعار النفط جعل من المجدي البحث في مجالات باهظة التكاليف

«مصائب» ارتفاع سعر البرميل فوائد لـ«قوم» هيوستن

1800 منشأة نفطية تعمل الآن في أميركا («واشنطن بوست»)
TT

رغم أن ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي ربما يشكل عبئاً مالياً على الكثير من قطاعات البلاد، فإنها تساهم في تحقيق طفرة اقتصادية داخل مدينة هيوستن التي تعد بمثابة عاصمة الطاقة داخل الولايات المتحدة. ففي تكساس سيتي القريبة، تقف عشرات الشاحنات خارج بوابات معامل التكرير النفطية الكبرى ومجمعات إنتاج البتروكيماويات. في الوقت ذاته هناك إقبال شديد على الاستعانة بطلاب الجامعات المحلية للعمل في المصانع مقابل 30 دولاراً في الساعة، حتى رغم عدم إكمال بعضهم للبرامج التدريبية التي تستمر عامين، وذلك في إطار جهود البحث الدؤوبة عن عمال مؤهلين. وتشير الإحصاءات إلى أن معدل التوظيف ارتفع في هيوستن بنسبة 2.8% خلال العام السابق، ما يمثل أعلى معدل بين أكبر 39 مدينة داخل الولايات المتحدة، ويفوق المعدل الوطني بما يزيد على تسعة أضعاف. وتشهد الولايات المتحدة تزايد التصريحات الصادرة بالبناء وعمليات نقل الشحنات عبر الموانئ المحلية. وتعمل ما يزيد على 1800 منشأة نفطية وأخرى خاصة بالغاز الطبيعي على مستوى البلاد، ينتمي الكثير منها إلى شركات طاقة ضخمة تتخذ من هيوستن مقراً لها، وهو أكبر رقم منذ منتصف الثمانينات. من جهته، أعرب «آلان هتشنز»، نائب رئيس والمدير العام بشركة «إيه آند أمب ماشين آند فابريكيشن» ومقرها بتكساس، عن اعتقاده بأن: «الأمور تتخذ الاتجاه الصحيح. مع وجود أسعار النفط عند مستوياتها الراهنة، ستعمل الشركات على الإبقاء على هذه المنشآت عاملة. إنها تحقق أرباحاً وتعيد استثمارها في المنشآت». وتجدر الاشارة الى ان النشاطات التجارية للشركة نمت بنسبة تجاوزت الضعف خلال كل من العامين الماضيين، ما دفع كبار المسؤولين التنفيذيين بها إلى البحث عن فنيين مهرة.

وأسهمت جميع هذه النشاطات في تحقيق معدلات كبيرة على صعيد البيع بالتجزئة وزيادة الضرائب على العوائد وارتفاع أسعار المنازل ـ موجز القول إن هيوستن تشهد تطورات تشكل عكس ما يجري بباقي أنحاء البلاد التي تعاني أزمة شديدة بسبب تراجع ثقة المستهلكين وارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي. كما تشهد بعض المناطق الأخرى داخل الولايات المتحدة ازدهاراً نتيجة أسعار الطاقة المرتفعة، مثلما الحال مع المناطق الساحلية من لويزيانا الواقعة داخل النطاق الذي تغطيه منشآت الغاز الطبيعي والنفط. أيضاً، حققت مناطق الجبال الصخرية والغرب مثل ولاية ويومنج، نمواً اقتصادياً نشطاً على امتداد عدة سنوات نتيجة ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والفحم الذي تنتجه. بيد أن عددا ضئيلا فقط من المناطق نجح في الوصول إلى مستوى الازدهار الذي حققته هيوستن، التي تشكل مقرا للمئات من شركات التنقيب عن النفط وخدماته، بما في ذلك شركات عملاقة مثل «بيكر هيوز». ورغم أن المستهلكين هنا يناضلون أيضاً للتكيف مع أسعار الجازولين التي وصلت إلى 4 دولارات للجالون وفواتير الطعام والخدمات المشتعلة، لقي الاقتصاد المحلي تعزيزاً نتيجة تدفق أموال هائلة على قطاع الطاقة الذي يوفر حوالي نصف الوظائف بالمدينة. من ناحيته، أشار «تراسي ماكدنييل»، نائب الرئيس التنفيذي لـ«شراكة هيوستن الكبرى»، وهي هيئة مسؤولة عن تطوير الاعمال إلى أنه: «نعلم أن الجميع يتحدثون عن الكساد داخل الولايات المتحدة، لكننا لا نعاني من هذا الأمر هنا». تحمل فترة الازدهار الراهنة ذكريات فترة الازدهار النفطي في مطلع عقد الثمانينيات من القرن السابق، التي انتهت فجأة مع اختفاء فقاعة الأسعار. خلال تلك الفترة، مثلما هو الحال الآن، تزايدت نشاطات التنقيب بدرجة بالغة مع ارتفاع أسعار النفط. وهاجر أفراد من خارج الولاية إلى هيوستن للمشاركة في الغنيمة. وعندما تراجعت أسعار النفط، انحسر الاقتصاد المحلي معها، حيث انهارت أسعار المنازل بينما ارتفعت معدلات البطالة بشكل حاد. إلا أن المحللين الاقتصاديين يرون أن الفترة الراهنة مختلفة، ذلك أنه في الوقت الذي أدى نقص المعروض إلى ظهور فترة الازدهار النفطي السابقة، فإن السبب الأكبر وراء ارتفاع أسعار الطاقة في الوقت الحالي يتمثل في تنامي الطلب العالمي، الذي يعتقد الخبراء الاقتصاديون أنه من غير المحتمل أن يشهد تراجعاً على مدار المستقبل القريب. في الوقت ذاته، اصطبغت صناعة النفط في هيوستن بصبغة عالمية، حيث ترتبط الكثير من الوظائف هنا بالنشاطات المعتمدة بصورة متنامية على التقنية المتطورة الخاصة بتحديد مواقع احتياطيات النفط والغاز الطبيعي على مستوى العالم، وتصميم وصنع معدات تُمكن من الوصول إليها. يذكر أن اقتصاد هيوستن يتميز حالياً بقدر أكبر بكثير من التنوع عما كان عليه في الثمانينيات، فرغم أن الطاقة شكلت المحرك الأكبر وراء الازدهار الاقتصادي الذي شهدته المدينة، فإنها ليست المحرك الوحيد، حيث تضم المدينة أيضاً مجمع تكساس الطبي، المؤلف من 46 مستشفى ومركز بحثي وكلية طبية. وبصورة إجمالية، يوظف المركز ما يزيد على 73 الف شخص في صناعة تتميز بشكل عام بالحصانة من التقلبات الاقتصادية بين الارتفاع والانخفاض. وتشير الإحصاءات إلى أنه خلال عقد الثمانينيات، شكل قطاع الطاقة حوالي 70 في المائة من الوظائف في هيوستن. علاوة على ذلك، لم تجتذب المدينة قط نمط المضاربات الذي أدى إلى ارتفاع أسعار المنازل بالأنحاء الأخرى من الولايات المتحدة، وعليه، لم تخلف الأزمة العقارية التي تعاني منها البلاد سوى تأثير ضئيل هنا. كما أدى ضعف الدولار إلى تعزيز معدلات التصدير من الميناء الخاص بالمدينة، الذي يعتبر الثاني على مستوى البلاد من حيث مستوى النشاط. ومع ذلك، يشعر بعض كبار رجال الأعمال في هيوستن بالقلق من أن أسعار النفط بالغة الارتفاع ربما تسفر عن اجتذاب ضغوط سياسية غير مرغوب فيها إلى المدينة. من جهته، أعرب «ماثيو تي. دويل»، المصرفي وعمدة مدينة تكساس، عن قلقه من أن ينجم عن أسعار النفط المرتفعة تراجع الطلب عند نقطة ما. وبالفعل، أسفرت أسعار النفط المرتفعة عن تفاقم تكاليف ممارسة النشاط التجاري، فمثلا، اضطرت شركة «أناداركو بتروليم هيوستن» إلى تكبد المزيد من الأموال في صورة رواتب للحفاظ على ميزتها التنافسية داخل سوق اجتذاب مهندسي البترول والجيولوجيين وغيرهم من العمال المهرة اللازمين للعثور على النفط والغاز الطبيعي واستخراجهما من مختلف أنحاء العالم. وأوضح «جيمس تي. هاكيت»، الرئيس التنفيذي لـ«أناداركو»، أن: «شركتنا تتمتع بميزة أفضل في إطار بيئة تتميز بأسعار اقل. إن إحدى المميزات المترتبة على الأسعار المرتفعة أنك تصبح قادراً على توفير تكاليف البحث عن النفط والغاز الطبيعي بمناطق أكثر بُعداً من العالم، لكنك لست بحاجة لأن يصل السعر إلى 130 دولارا للبرميل كي تحقق ذلك». بيد أنه رغم مشاعر القلق تلك، يبدو أن أسعار الطاقة المرتفعة تخلف تأثيراً جيداً على النشاط التجاري بصورة عامة، على الأقل في الوقت الحاضر، حيث شهدت شركات التنقيب العديدة الموجودة في هيوستن تصاعداً كبيراً في نشاطاتها، نظراً إلى أن الأسعار المرتفعة جعلت من المجدي اقتصادياً إجراء عمليات تنقيب عن النفط بالمياه العميقة وغيرها من الأنماط الأخرى باهظة التكلفة. وفي الوقت الراهن، تعقد الشركات الاستشارية المحلية المعنية بمجال الطاقة صفقات بمختلف أنحاء العالم لبيع خبرتها بمجال تقييم احتمالات توافر احتياطيات من النفط والغاز الطبيعي. وتكشف الإحصاءات الصادرة عن معهد التوقعات الإقليمية أن عدد الوظائف في هيوستن المرتبطة بمجال التنقيب عن موارد الطاقة زاد بنسبة تجاوزت 15% خلال العامين الماضيين. وفي الوقت ذاته، تنامى النشاط بمجال المصادر البديلة للطاقة، مثل الطاقة الشمسية والرياح. من ناحية أخرى، هناك رواج في النشاط التجاري الخاص بجهات صنع منتجات مرتبطة بمجال الطاقة ـ بما في ذلك أجزاء خطوط الأنابيب والقوارب الخاصة التي تخدم منصات التنقيب وأجهزة الاستخراج التي تعمل بالضغط العالي، وترتب على ذلك زيادة في الوظائف المتوافرة بمجال التصنيع في هيوستن. وبالمثل، هناك حالة مشابهة من الرواج بمناطق أخرى من الولايات المتحدة ترتبط بصورة وثيقة بصناعتي النفط والغاز الطبيعي. على سبيل المثال، تشهد المناطق الساحلية من لويزيانا، بما في ذلك سانت ماري ولافورش تيربون، نمواً كبيراً في الأجور ومعدلات التوظيف، حتى في الوقت الذي تعاني فيه باقي أنحاء الولاية من وطأة حالة الانحسار الاقتصادي الوطني. وفي وايومنج، يتوقع المسؤولون استمرار النمو القوي على امتداد المستقبل المنظور، طالما ظلت أسعار الغاز الطبيعي مرتفعة. وتتمثل المشكلات الكبرى التي تواجه المسؤولين في وجود نقص حاد في العاملين والارتفاع الشديد في أسعار المنازل، التي تتسبب بدورها في حدوث زيادة حادة بمعدلات التضخم، التي تفوق حالياً المعدل الوطني بفارق كبير. من ناحيته، أكد «بك ماكفي»، رئيس قسم شؤون التحليل الاقتصادي بالولاية، «إننا نتحرك بأقصى سرعة. مع وجود أسعار الغاز الطبيعي عند مستوياتها الراهنة، من الصعب إصدار أي تعليق سلبي على الاقتصاد هنا».

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»