«الفشل» يصبح خياراً في الاقتصاد الأميركي مع تزايد بواعث القلق حول النظام المالي

المستثمرون يدفعون المؤسسات لحافة الهاوية لتقييم قدرتها على مواجهة المخاطر

الاقتصاد الأميركي يعاني من سلسلة من حالات الذعر المتكررة («الشرق الأوسط»)
TT

يبدو أن الاقتصاد الأميركي يعاني من سلسلة من حالات الذعر المتكررة، فالكثير من الأشياء تسير في الاتجاه الخاطئ، وتراكمت الكثير من بواعث القلق حول النظام المالي، ولا يبدو أن ثمة شيئاً آمناً. والنتيجة أنه لا تكاد أزمة تنقضي حتى تظهر أخرى جديدة.. وهكذا دواليك. وعلى هذا الوضع يعلق جوزيف ماسون، الاقتصادي بجامعة لويزيانا: «نعرف أن هناك خسائر، ولكن لا نعرف في أي مكان بالضبط، والطريقة الوحيدة لمعرفة ذلك هو أن يقوم المستثمرون بدفع كل مؤسسة لحافة الهاوية، لننظر أياً منها سيستمر». ومن الآراء المتفائلة التي يعتقد بها بعض المحللين هو أن الأزمة الحالية قد تنتهي بصورة غير متوقعة كما بدأت. ويقول ديفيد موس، وهو مؤرخ اقتصادي بجامعة هارفارد، «تبدو معظم الأزمات مثل العواصف التي تحدث في الصيف، تبدأ فجأة وتتميز بالشدة، ثم تنتهي فجأة». وبدأت سلسلة الأزمات في الصيف الماضي مع قرب انهيار صندوقي تحوط بشركات «بير ستيرنز» المتخصصين في تداول الأوراق المالية التي تدعمها الرهون العقارية. وتبع ذلك سلسلة من الأزمات نالت من الدعائم الأساسية لسوق الرهن العقاري الأميركي، مما استلزم دعم مجلس الاحتياطي الفيدرالي. ثم كان بعد ذلك أن توالت سلسلة من الأزمات الأخرى قوضت البنية المالية في الولايات المتحدة، ونالت من بطاقات الائتمان وقروض الطلاب والديون المحلية وصناديق سوق المال. وخلال الأسبوع الماضي، وقع ما يبرهن على صحة وصف موس لطبيعة الأزمة ووصفها بأنها كالعاصفة، فبعد جولة أخرى من التطورات الكارثية المحتملة في أسواق الطاقة والإسكان، بدأ النظام المالي الذي كان على حافة الهاوية يتعافى بعض الشيء وأخذ يلتقط أنفاسه بعض الشيء. فخلال أيام قليلة، توقف التصاعد الذي كنا نشهده في أسعار البترول، وأكثر من ذلك أن انخفض سعر البترول 16 دولاراً للبرميل الواحد. وبعد المخاوف التي كانت تساور الجميع بشأن النظام البنكي، بدأت الأمور تهدأ فجأة في السوق، وخاصة عندما سجلت ثلاث مؤسسات كبيرة، وهي «سيتي غروب» و«ويلز فارغو» و«جي بي مورغان تشاس»، نتائج أحسن مما كان متوقعاً لها. مع ذلك، فإن قليلاً من الاقتصاديين مَنْ يرى أن العواصف التي تتهدد النظام المالي قد انتهت، حيث يقول المستشار البنكي المخضرم بيرت، من مدينة الإسكندرية بولاية فيرغينيا: «ببساطة، لم ينته الوضع بعد، فوضعية سوق الإسكان بها الكثير والكثير من القضايا. وممكن أن تستمر حتى العقد القادم».

وعندما تنخفض قيمة المنازل، تُفقد الصدمات النظام المالي والاقتصادي استقرارهما، مما يؤدي إلى المزيد من التوترات. وبدأت المشاكل تظهر في أحد الأشياء التي تبدو آمنة وسليمة في النظام المالي، وهي صناديق الاستثمار التعاونية بسوق المال. يعامل الكثير من المواطنين هذه الصناديق كما لو كانت مكافئة لحسابات المدخرات بالبنوك. ويضع المواطنون بهذه الصناديق 3 تريليونات دولار، حيث يفضلونها لأن بها فائدة أعلى من الحسابات البنكية، ويمثل هذا الرقم ربع الأموال المستثمرة بصناعة صناديق الاستثمار التعاونية في الولايات المتحدة، حسب ما أفاد به معهد «انفستمنت كامبني». والمشكلة هي أن صناديق سوق المال تختلف عن الحسابات البنكية في ناحيتين أساسيتين. أولا: لا تغطيها المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (يجب عدم الخلط بين صناديق سوق المال، التي تعرضها شركات صناديق الاستثمار التعاوني ولا يؤمن عليها فيدرالياً، وحسابات سوق المال، التي تعرضها البنوك ويتم التأمين عليها). ثانيا: استخدم جزء من المال الموجود في صناديق سوق المال في الفترة الأخيرة في استثمارات تعاني من مشاكل، مما أجبرَ بعض الشركات التي تعرض هذه الصناديق إلى تحمل الخسائر. وعلى سبيل المثال، اضطرت كل من «ليج ماسون» و«صن ترست بانكس»، أخيرا إلى ضخ 1.4 مليار دولار في صناديق سوق المال التابعة لهما، كما ضخ «بنك أوف أميركا» 600 مليون دولار بنفس الصورة. ولا تلقى اللائمة فقط في هذه الحالات على ما يبدو على أسعار الإسكان وحدها، بقدر ما يجب أن يلام سوق الأوراق المالية التي خلقتها شركات الاستثمار من الرهون العقارية والأصول التي تحفوها المخاطر. والقضية هي أنه إذا ما احتوت كل ورقة مالية سهما صغيرا فقط من كل هذه الأشياء، فإن الأوراق المالية في المجمل ستكون أكثر أمنا من الأصول الفردية التي تعززهم. ولكن لم يسر الأمر على هذا المنوال، كما يرى الاقتصادي ماسون من جامعة لويزيانا، إذ يقول «يتم ابتكار أدوات مالية جديدة كل يوم، وبعد ذلك يصبح لهذه الأدوات شكل معياري»، ولكن في هذه المرة، كانت تحرص البنوك والمؤسسات الاستثمارية على الحفاظ على أرباحهم المرتفعة عن طريق تعديل ابتكاراتهم. والنتيجة في الوقت الحالي هو أنه ليس هناك من يمكنه فهم إلى أي مدى تحيط المخاطر بالأوراق المالية الجديدة، وكم يستحقون وإلى أي مدى يعتمد أصحابها عليها، وعادة ما يكون هؤلاء الأصحاب مؤسسات كبيرة. وفي مثل هذه الظروف، يسعى المستثمرون والعملاء للحصول على إجابات عن طريق استخدام وسائل وقحة غير عادية عن طريق الضغط على مؤسسة تلو الأخرى لمعرفة أي منها سيتمكن من البقاء. ويقول ماسون: «ليست هذه طريق فعالة لإدارة النظام المالي، ولكن كيف يمكن أن تعرف؟». وهذا بالضبط ما حدث مع «فاني» و«فريداي»، اللتين تعرضتا بصورة خاصة إلى انخفاض كبير في أسعار الإسكان لأنهما تمتلكان أو يضمنان نصف العقارات الموجودة في الولايات المتحدة والتي تقدر بـ12 تريليون دولار. وتدافع المستثمرون خلال الأسبوع الماضي لبيع أسهم الشركتين اللتين ترعاهما، مما قلل من القيمة السوقية لـ«فاني» و«فريداي» بمقدار النصف، ودفع ذلك وزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى صياغة خطة تثبت من الحكومة الفيدرالية خلف عملاقي الرهن العقاري. وحدث نفس الأمر تقريباً مع «بير سيرنز» في مارس (آذار)، حيث وجه المستثمرون في خامس أكبر بنك استثماري في بالولايات المتحدة ضربة لأسهمه، ولكن ما أضر الشركة في الواقع هو أن مقرضيها قطعوا خطوط الائتمان الخاصة بالشركة، فقد كان المقرضون يخشون من أن شركة السمسرة قد أثقلتها أوراق الرهن العقاري السيئة، ولذا لم تتمكن من إعادة دفع ما اقترضته. واضطر مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى التحكم في بعض الأوراق المالية الأقل جاذبية وتوفير 30 مليار دولار في صورة تمويل لتمهيد الطريق لبيع بعض السلع التي أتت عليها النيران لـ«جاي بي مورغان». وكان الوضع مشابها بالنسبة لمؤسسة «كانتري وايد فينانشل»، فقد شاهدت المؤسسة، التي تعتبر أكبر مقرض رهن عقاري للقطاع الخاص، مواردها المالية تتداعى واحدا وراء آخر بعد أن ارتفعت المدفوعات المتأخرة على قروضها مع تدهور أسعار البيوت فجأة. واضطرت المؤسسة إلى قبول استحواذ «بنك أوف أميركا» عليها مقابل سدس قيمة السوقية قبل عام. وفي كل مثال، تُلقى باللائمة على سوق الإسكان التي تراجعت بصورة أسرع مما كان أي شخص يتوقعه. وفي الوقت الذي كانت تتراجع فيه أسعار الإسكان، تبين مدى الضعف الذي تعاني من الشركات التي كانت تعتمد على فرضية أن الأسعار ستظل في ارتفاع مستمر. ولكن لم تنحصر المشاكل في الولايات المتحدة على سوق الإسكان، ففي الوقت الذي كان يسعى فيه الأميركيون للتكيف على التراجع الذي يشهده سوق الإسكان وأزمة الائتمان، بدأت المشاكل تكثر في السوق، وخاصة ما يتعلق بسندات البلدية التي كانت تضمن بعض المشروعات مثل بناء المستشفيات والكليات التي كانت توفر تمويلا لقروض الطلاب. وكانت هذه الأزمة مفاجئة بصورة خاصة، لأنه على عكس سندات البلدية النمطية، والتي تطلب من المقرضين دفع الأموال لفترات طويلة مقابل سداد الفائدة بصورة ثابتة، فإن السندات الموجودة في قلب الأزمة كان يطلق عليها «أوراق مالية ـ قيمة المزاد» والتي يتم إعادة ضبط معدلات الفائدة الخاصة بها بصورة يومية وأسبوعية وشهرية بناء على نتائج المزادات الدورية. وبالنسبة لحالة قروض الطلاب، فقد كان الأمر مفاجئا لأن الحكومة الفيدرالية تضمن معظم القروض، مما يعني أنه ليست هناك فرصة للمقرضين أن يتكبدوا خسائر إذا ما عجز المقترضون عن الدفع. ومع ذلك، اضطر الكثير من الولايات إلى تعليق مشروعات البناء وتأخير عرض قروض الطلاب. ويؤكد موس من جامعة هارفارد أن الاقتصاد في الولايات المتحدة تمكن باستمرار من الصمود أمام الضربات التي توجه إليه على مدى التاريخ ودائما ما كان يعود ليتحسن. ولكنه يضيف: «في الوقت الحالي، تبدو الأزمة كما لو كانت في أي مكان آخر. يبدو أن الأزمات تتراجع ثم تظهر مرة أخرى قبل أن تنقضي».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ «الشرق الاوسط»