انطلاقة صعبة للحكومة اللبنانية الجديدة

الكهرباء والأجور والتعيينات في المقدمة والدين العام مشكلة دائمة

TT

حدَّت المؤشرات الجيدة التي يحققها القطاع الخاص اللبناني وتوقف اندفاع اسعار النفط العالمية من وطأة الغياب الحكومي شبه التام بفعل استهلاك اكثر من شهرين في التكليف والتأليف واعداد البيان الوزاري وانتظار بضعة ايام لنيل ثقة المجلس النيابي وبدء الاعمال رسميا.

ورغم محدودية الآمال المعقودة على الحكومة الجديدة وما يمكن ان تنفذه قبل الدخول في استحقاق الانتخابات النيابية مطلع مايو (ايار) المقبل، فان المؤسسات المالية وشركات التصنيف الدولية لا تزال تتوجس من تجدد الازمة السياسية عند كل محطة يبلغها قطار الحكومة قبل انطلاقه. وهذا ما دفعها الى ادخال تحسين جزئي على الديون السيادية اللبنانية مع البقاء على وضعية المراقبة والمتابعة.

ولا يمكن تصنيف قدرة وزارة المال على تنفيذ اصدار جديد من سندات «اليوروبوندز» بقيمة 500 مليون دولار في خانة ايجابية مستجدة. اذ طالما نجحت الوزارة، بالتعاون مع مصرف لبنان المركزي، في تسويق هذه الاصدارات لدى المصارف المحلية التي تملك فوائض غير موظفة تزيد على 20 مليار دولار. كما ان الفائدة المدفوعة على السندات بلغت 8.5 في المائة سنويا فيما نسب الفوائد على الودائع بالدولار لا تتجاوز 6 في المائة وتتدرج نزولا حتى 2 في المائة.

وتواجه الحكومة في انطلاقها الموعود قضايا اقتصادية ذات امتدادات اجتماعية شائكة في مقدمتها ازمة الكهرباء التي تتفاقم تقنينا في عز الصيف والموسم السياحي وتتعاظم عجزا بلغ 791 مليون دولار في النصف الاول من العام الحالي. وهذا الرقم يوازي وحده نحو 16.5 في المائة من اجمالي الانفاق العام للفترة ذاتها ونحو 23 في المائة من اجمالي الايرادات، والاهم نحو 60 في المائة من اجمالي العجز. علما ان المستهلكين يتكبدون مبالغ مماثلة للتزود بالكهرباء خلال التقنين من اصحاب المولدات.

وما يزيد من حدة الازمة ان الخيارات المطروحة للمعالجة تتطلب تخصيص مبالغ تراوح بين 1500 و2000 مليون دولار لإنشاء معامل انتاج جديدة تعمل على الغاز. وهذا يعني، من جهة، تضخيما اضافيا للدين العام البالغ نحو 44 مليار دولار. ومن جهة اخرى، تأخير الحل لشهور طويلة او سنوات، ما يعقد خيار اللجوء الى رفع الاسعار لتعويض الانفاق والحد من العجز المرشح للتقدم الى مستويات قياسية جديدة في حال عاودت اسعار النفط للارتفاع في الاسواق العالمية. وكل هذا دفع بوزير الطاقة الجديد آلان طابوريان الى «حلول جزئية مؤقتة» تقضي باستجرار الكهرباء من مصر، اضافة الى سورية من خلال اتفاقية الربط السداسي.

اما الازمة الثانية الملحة فتتعلق بزيادة الاجور في القطاعين العام والخاص بعدما تبين ان لا اثر لقرار الحكومة السابقة في هذا المجال بفعل تمنع وزير العمل وقتها عن توقيع المرسوم. والزيادة المقترحة تبلغ نحو 135 دولارا. لكن الاشكالية القائمة في هذا المجال ان القطاع الخاص يرفض تعميم الزيادة على كل شرائح الاجور ويحصرها برفع الحد الادنى بالقيمة ذاتها. وهذا ما قد يستلزم اطلاق مفاوضات جديدة للجنة المؤشر التي تضم ممثلين للحكومة واصحاب العمل والعمال، مع الاشارة الى ان الانفجار الامني في 7 مايو (ايار) الماضي تزامن مع الاضراب العام الذي دعا اليه الاتحاد العمالي العام والتظاهر ضد تلكؤ الحكومة في اقرار زيادات الاجور، فيما لا تحصل اي تحركات مشابهة حاليا.

وتبقى الازمة الاهم المتعلقة بالدين العام وما يفرضه حجما وثقلا على موازنة الدولة ومحدودية قدراتها على الانفاق الاستثماري وضآلة امكاناتها لزيادة التقديمات الاجتماعية الملحة بسبب زيادة التضخم بحدود 10 في المئة خلال 6 اشهر، ما زاد من اتساع الهوة الفاصلة بين المداخيل والانفاق. وأطاح بالتالي قدرة آلاف الاسر الجديدة ذات المداخيل المتوسطة على ارساء التوازن المعيشي في حدوده الدنيا.

وتستهلك خدمة الدين سنويا نحو 3500 مليون دولار (اصول وفوائد) اي ما يزيد على 50 في المائة من اجمالي ايرادات الموازنة العامة. وهذا ما يبقي العجز في الموازنة بحدود 30 الى 33 في المئة سنويا رغم تحقيق فائض اولي في حساب الايرادات مقابل الانفاق. واذا تم احتساب خدمة الدين وعجز الكهرباء معا، فقد استهلكت نحو 74 في المائة من اجمالي ايرادات الموازنة خلال النصف الاول من العام الحالي. وهذه النسبة مرشحة للتفاقم ما دام الدين ينمو بمعدل سنوي يراوح بين 3 و5 في المائة، وعجز الكهرباء يتفاقم مع كل ارتفاع جديد في اسعار المشتقات النفطية. فيما الدولة في حاجة الى تمويل اضافي لاستيعاب العجز. وبالتالي لا افاق لامكانية البدء باصلاح مالي حقيقي وجدي.

وتعوّل الحكومة، كما المؤسسات المالية الدولية على مصدرين اساسيين للحد من تفاقم الازمة المالية والشروع في خطة اصلاحية متكاملة. الاول انسياب مبالغ اضافية قد تصل الى ملياري دولار من مخصصات «باريس ـ 3» بعد اقرار مشاريع القوانين الانمائية في مجلس النواب. وهذا مسار يحظى بتوافق سياسي معلن على الاقل. اما المصدر الثاني فدونه تعقيدات سياسية واقتصادية شتى. وهو يقوم خصوصا على بيع رخصتي الهاتف الخلوي (الجوال) وانشاء وبيع رخصة ثالثة وتحرير قطاع الاتصالات وتخصيصه بالكامل ما يؤمن عائدات تراوح بين 7 و10 مليارات دولار تكفل اطفاء جزء هام من الدين العام. فيما يتكفل البنك المركزي، في المقابل، باطفاء جزء ثان من محفظة سنداته الحكومة. وهذا مسار مفعم بالآمال، لكنه معقد وليس ممكنا تنفيذه خلال ولاية الحكومة الحالية الممتدة الى نحو ثمانية اشهر وبضعة ايام من الآن.

وتطول لائحة القضايا التي ستواجهها الحكومة مع انطلاقة اعمالها، من التعيينات الصعبة في وظائف الدرجة الاولى، الى هموم اسعار المشتقات النفطية قبيل حلول الشتاء، الى مشاكل الضمان الاجتماعي، الى الفساد المستشري في الادارات، الى الحاجات الانمائية الملحة وسواها. اما اقصى طموحات الناس فهي الحفاظ على الاستقرار الامني وتنمية ما امكن من التوافق السياسي مع تخفيف «آلام» الكهرباء والأجور بصفة خاصة.