الصين: زيادة الاستثمار الداخلي ودعم الانفاق الحكومي لمواجهة انخفاض الصادرات

1.9 تريليون دولار احتياطي العملات الأجنبية

متظاهرون صينيون يحتجون على اغلاق مصانعهم مع تراجع الصادرات (رويترز)
TT

على مدى ثلاثة عقود، تمكنت الصين من دعم التقدم الاقتصادي الملحوظ الذي شهدته وأصبحت بمثابة «ورشة صناعية» عالمية، وأطلقت العنان لسيل من الصادرات رخيصة الثمن. ولكن، في مواجهة ركود عالمي محتمل وتراجع في الطلب على الصادرات الصينية، ثمة تساؤل مطروح حول ما إذا كان الحزب الشيوعي الحاكم سيتمكن من حماية المعجزة الاقتصادية التي شهدتها الصين أمام الأزمة المالية. ويعد ذلك تساؤلا ملحا ليس من أجل الصين فقط، ولكن من أجل باقي دول العالم. حيث يقول مسؤولون أميركيون والعديد من الاقتصاديين إن النمو الصيني شيء هام بالنسبة للاقتصاد العالمي في الوقت الذي تعاني فيه الولايات المتحدة وأوروبا من تراجع اقتصادي خطير. ولكن لتجنب الأزمة، يقول الكثير من المحللين إن الصين ستحتاج إلى إعادة النظر في معايير نموذجها الاقتصادي، مع إعطاء دفعة إلى الاستثمار الداخلي باستخدام إنفاق حكومي ضخم ودعم السياسات التي تهدف زيادة طلب المستهلكين حيث تعرف الصين بمعدلات الادخار المرتفعة. وتظهر الأزمة العالمية في ظل لحظة سياسية هامة بالنسبة للصين، فالشهر الجاري يشهد الذكرى الثلاثين للإصلاحات السياسية التي دشنت لأول مرة نمو صيني يستهدف السوق، ويعد ذلك حدث هام أثار أسئلة يتعذر التهرب منها حول الخطوات القادمة التي يجب على الصين اتخاذها كي تصبح قوة سياسية واقتصادية عصرية. وعلى المستوى الجغرافي السياسي، يبدو أن الصين في مركز يؤهلها لتوسيع نفوذها، حيث تتمتع باحتياطي من العملة الأجنبية يبلغ 1.9 تريليون دولار، ناتج من فوائض تجارية كبرى واستثمارات أجنبية في الصين، ومن المحتمل أن تستحوذ على حصص مخفضة في البنوك الغربية والشركات الصناعية. ولكن في الوقت الحالي، يقول معظم المحللين إن الأولوية الكبرى لدى الصين هي حماية اقتصادها. وتقول قيادات صينية إن النظام المالي المحلي معزول بصورة كبيرة عن الأزمة العالمية، فالبنوك الصينية ما زالت تركز على الأوضاع الداخلية وتأثرت بصورة بسيطة نسبيا بالسندات المالية المتعثرة التي تبيعها البنوك الأميركية والأوروبية. ومع ذلك، تراجع النمو الاقتصادي إلى أقل مستوى له خلال خمسة أعوام، وتمثل البطالة مبعثا متناميا للقلق، وتضطر عشرات المصانع لوقف نشاطها في منطقة التصدير في الصين. وقد خسر تداول الأوراق المالية 65 في المائة من قيمته، وتراجعت مبيعات العقارات. ومن الراجح أن تتمكن الصين من تجنب وقوع ركود فوري، ولكن يمثل النمو الأكثر بطأ تحديا سياسيا أمام الحزب الشيوعي، الذي يستسقي شرعيته بصورة كبيرة من توفير الوظائف وزيادة الثروات. ومن المعلوم أن إنتاج الصين يجب أن ينمو بحد أدنى قدره 8 في المائة من الاقتصاد لتوفير وظائف كافية لامتصاص الزيادات في أعداد المواطنين الذين يبلغون سن العمل. ويتوقع الكثير من الاقتصاديين أن يهبط النمو إلى معدل أقل من هذا المستوى خلال العام المقبل. وخلال الأسبوع الماضي، أقام الآلاف من العمال العاطلين احتجاجات خارج مصانع مقفلة كانت تنتج لعبا للأطفال في إقليم غوانغدونغ، وهي محور التصدير الصيني. وقد أقفلت أكثر من نصف شركات مصدري ألعاب الأطفال في الصين خلال الأشهر السبع الأول من العام الجاري، ومعظمها من الشركات الصغيرة التي كانت تكابد لتلبية معايير الآمان الجديدة في ظل تراجع معدلات الطلب من البلاد الغربية، حسب ما أفادت به هيئة الجمارك الصينية.

ويقول كينيث ليبرثال، خبير الشؤون الصينية في مؤسسة «بروكينغز» في واشنطن، إنه إذا كان معدل النمو أقل من 8 في المائة خلال عام 2009، فأنا أعتقد إنه سيساورهم القلق نوعا ما، ودائما ما لديهم مشكلة في خلق وظائف جديدة. وتعكف القيادات الصينية على إعداد طريقة للتعامل مع الأمر يمكن أن تحاكي عملية الإنفاق التي قامت بها الحكومة في الفترة من 1998 حتى 2000، التي يرجع لها الفضل في مساعدة الصين على تجنب ويلات أزمة مالية وقعت في القارة الآسيوية عام 1997. وكان رئيس الوزراء السابق جاو رونجي قد انفق مليارات الدولارات لمواجهة الفيضانات وبناء الطرق ومشروعات مطارات جديدة لتحفيز الإنتاج الاقتصادي. وتعد الكثير من مشروعات البنية التحتية شيء ضروري للمحافظة على الميزة التنافسية للصين كمصدر صناعي. وفي الوقت الحالي، هناك حاجة لإجراء تحسينات على خطوط القطارات وشبكة الكهرباء. ولكن، تتمثل الحاجات الأبرز للصين في شبكة رعاية صحية وتخفيض الرسوم الدراسية وتحسين شبكة الأمن الاجتماعي الأولية، حسب ما يراه اقتصاديون. وينظر إلى تلك الخطوات على أنها شيء هام إذا ما كانت الصين ترغب في بذر الثقة في اوساط المستهلكين، خاصة سكان المناطق الحضرية من الطبقة العاملة وأكثر من 800 مليون مواطن ما زلوا يصنفون على أنهم فلاحين، كي يقوموا بالإنفاق بدلا من زيادة معدلات الادخار. ويقول زاو جونيان، أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة الدولية الصينية الأوروبية في شنغهاي «البنية التحتية للصين ممتازة، مقارنة بالهند، ويصبح الوضع أكثر صعوبة أمام الحكومة في الوصول إلى طرق لإنفاق المال بصورة تدر المزيد، إنه حافز من أجل الحافز».

ويقول ديفيد ماك كورميك، وكيل وزارة الخزانة الاميركية للشؤون الدولية، في مقابلة أجريت معه عبر الهاتف، إن المسؤولين الصينيين يفهمون أنه على ضوء حجم الاقتصاد لديهم، والطلب الضعيف من الدول الأخرى، فإن الطلب المتزايد على البضائع والخدمات داخل الصين سيكون ذلك في صالح البلاد. وأضاف «لا يمكنهم الاعتماد على الصادرات كقاطرة لتقدم اقتصادهم».

وحتى الوقت الحالي، فإن الإجراء الجديد الأكثر أهمية هو الاصلاحات في مجال الاراضي الزراعية الذي أعلن عنه الأحد الماضي، ولم تتضح بعد التفاصيل الكاملة للبرنامج، ولكن تسمح الخطة للمزارعين للمرة الأولى بتأجير أو نقل حقوق استخدام الأراضي، وتعد تلك خطورة بارز في الصين التي ما زالت بلد اشتراكي اسما. ويقول الاقتصاديون إن هذا الإجراء سوف يحسن من الاقتصاد في المناطق الريفية، على الرغم من توقع عدد قليل حدوث منافع مفاجأة. ولرفع الدخول في المناطق الريفية بصورة أكثر سرعة، رفعت أعلى هيئة تخطيطية صينية يوم الاثنين الحد الادنى لشراء القمح بمعدل 15 في المائة بداية من العام المقبل. ومن المحتمل أن تكون عملية تحويل المناطق الريفية وتكوين بلد من المستهلكين أمر شاق كما كان الحال مع تحويل الصين إلى عملاق صناعي. وخلال الأعوام الأخيرة، قام الرئيس الصيني هو جين تاو ورئيس الوزراء ون جيا باو بإزالة الضريبة الزراعية القديمة زيادة الإنفاق على المبادرات التي تستهدف المناطق الريفية. ومع ذلك ما زالت الفجوة بين الدخول في المناطق الريفية والحضرية تتسع. وفي الوقت الحالي، ما زال لدى الصين أكثر من 500 مليون مواطن يعيشون على اقل من دولارين في اليوم، ويبلغ معدل دخل الفرد الفي دولار فقط. وما زالت شبكة الأمان الاجتماعي غير مناسبة، حيث يقوم معظم الفلاحين بإدخار دخولهم لحماية أنفسهم في أوقات الأزمات الطبية أو لاستخدامها حين يتقدموا في العمر. ويقول أندي روثمان، المحلل في بنك «سي إل إس آيه» الاستثماري، إن الحكومة تروج للاستهلاك المحلي منذ عدة أعوام، ولكن هذا الأمر بالضرورة عبارة عن عملية تدريجية وليس بالخطوة التي يمكن أن تقدم علاج سريع للتراجع العالمي. ويضيف روثمان «ليس هذا بالشيء الذي تريد أن يتقدم بسرعة البرق، وتحاول الصين توزيع بطاقات ائتمانية على 800 مليون فلاح وسيكون ذلك بمثابة كارثة بعد أعوام قليلة».

ومن وجهة نظر جغرافية سياسية، يبدو أن الصين لديها الفرصة لملء فراغ تسبب فيه تعثر الغرب، لاسيما على ضوء مخزونها الضخم من العملة الأجنبية. وقد قام الرئيس الباكستاني آصف علي زارداري بزيارة بكين خلال الشهر الجاري وطلب توفير مساعدة مالية لمساعدة بلده على تجنب الإفلاس، ويأتي ذلك مقدمة لأمر قد يحدث كثيرا خاصة وأنه ينظر إلى الصين على أنها بلد يجلس على جبل من النقود. وهناك أمر ذي صلة بصورة أكبر بالولايات المتحدة، ويتمثل ذلك فيما إذا كانت الصين سوف تعيد النظر في إستراتيجيتها لدعم الدين الأميركي، ويقول خبراء صينيون إن الاقتصادين الأميركي والصيني مرتبطان بعضهما بعضا ولذا لن يقوم القادة الصينيون بإجراء أي تغيير مفاجئ في سياستهم الخاصة بتحويل أكوام احتياطي العملة الأجنبية لدى الصين إلى أصول يسيطر عليها الدولار. وهناك اتصالات شبه يومية بين وزيرا الخزانة الأميركي هنري بولسون ومسؤولين أميركيين بارزين ونظرائهم الصينيين. ويقول هو أنغانغ، الاقتصادي الصيني ومدير مركز الدراسات الصينية في جامعة تسينغوا «على ضوء مسؤولياتها كدولة كبرى، لن تتسبب الصين في اضطراب في الأسواق المالية الدولية، فالحكومة الصينية عاقلة للغاية وتتميز بالمرونة، وتعترف بأي سياسة بصورة واضحة جدا طالما أنها لا تؤثر على الأسواق المحلية والأسواق الدولية».

ويقترح بعض الخبراء الصينيين أن تستخدم الصين احتياطي العملة الأجنبية الذي لديها في شراء أسهم في الشركات الغربية، ويرون أنه بالقيام بذلك فإن الصين سوف تكتسب خبرة في التجارة العالمية. ولكن يقول آخرون إن الصين قد لدغت عندما حاولت شركات بتروكيماويات صينية مملوكة للدولة وفشلت في شراء شركة «يونوكال» الأميركية للبترول، وإنها سوف تكون حذرة في القيام بأي عمل يمكن أن يمثل مخاطرة من الناحية السياسية. وتظهر الضغوط الداخلية، حيث كانت هناك انتقادات بعد خسارة بعض صناديق الثروة السياسية. لا يعلم أحد يقينا متى سيعود الاستقرار إلى النظام المالي العالمي، ولكن الازمة اقنعت الكثير من المحللين الاقتصاديين بأنه ستتم إعادة النظر في النظام المالي نفسه. ويقول وانغ تاو، رئيس وحدة البحث الاقتصادي الصيني في «يو بي إس سكيورتيز»، إن الأزمة المالية «حدث جلل، ومع ذلك سيبقي المواطنون على نفس النظام مع إجراء إصلاحات عليه، ومن المحتمل أن يكون للصين صوت أقوى من أي وقت مضى».

وفي الأعوام الأخيرة، كتب بعض الخبراء الصينيين تحليلات حول حتمية التراجع الأميركي وإلى أي مدى يتحتم على الصين التعامل مع ذلك، ولكن في مواجهة الأزمة الحالية، يقول معظم المحللين الصينيين إن الصين مستعدة تقريبا للقيام بدور دولة عظمى. ويقول أكاديمي صيني طلب عدم ذكر اسمه حتى يستطيع مناقشة طبيعة عقلية المسؤولين الحكوميين «لا تريد الصين أن ينظر إليها على أنها بديل للولايات المتحدة، فنحن ما زلنا بلد نامي، نعم لدينا احتياطي أجنبي أكثر من الدول الأخرى، ولكن لدينا مشاكل أكثر».

* خدمة «نيويورك تايمز»