دراسة دولية تدعو الغرب إلى الاعتراف بدور المستثمرين العرب والتعاون مع صناديق الثروة السيادية

تحذيرات غربية من العواقب الجيوسياسية المترتبة على التشدد في العلاقات المالية مع العالم العربي

TT

شهدت صناديق الثروة السيادية المملوكة للعرب والاقتصادات الناشئة الأخرى نمواً مطرداً خلال السنوات الأخيرة. وأصبحت تلك الصناديق ذات شأنٍ كبير لدى المستثمرين في الأسواق المالية العالمية، الأمر الذي أثار جدلاً كبيراً حول أثر تلك الصناديق على هيكل النظام المالي العالمي وبنيته.

وبحسب دراسة حديثة، فإن التحول السريع للصناديق السيادية من هامش الأسواق المالية العالمية إلى مركزها، وسرعة انضمامها إلى غيرها من فئات المستثمرين الكبار الأخرى، هو الذي نقلها إلى الجو العام العالمي. وقد صار مديرو صناديق الثروة السيادية العربية معقدين على نحو متزايد كمستثمرين عالميين مع إدارتهم لمحافظ دولية معقدة. وبعض منهم يدخل في استثمارات استراتيجية في صناعات تدرك حكوماتهم أنها ذات صلة وثيقة بتنمية وتنويع اقتصاداتها الوطنية.

وفقاً للدراسة الصادرة عن «مؤسسة كارنيج للسلام العالمي»، فإن صعود صناديق الثروة السيادية قد صاحبه جدل عام ساخن بخصوص التهديدات التي يمكن أن تشكلها مثل هذه الصناديق للمصالح الغربية الاقتصادية والشركاتية وأخيراً السياسية. ولكن هذه المجادلات التي بدأت في أواخر ربيع عام 2007 فشلت في تطوير مفاهيم واقعية لبيان كيف يمكن دمج صناديق الثروة السيادية في البنية المالية العالمية.

واستجابة للضغوط الجماهيرية، بدأت الأجهزة المنظمة على المستويات الدولية والوطنية في تطوير سياسات لتوفير أُطر جديدة يمكن أن يعمل فيها المستثمرون الأجانب من أمثال صناديق الثروة السيادية. وأهم مبادرة دولية في هذا الصدد هي مجموعة العمل الدولية لصناديق الثروة السيادية التي دعا إلى تشكيلها صندوق النقد الدولي سعياً منه إلى تطوير ميثاق سلوكي تطوعي، غير أن هذه المبادرة لم تمنع الجهات المنظمة الوطنية من تطوير سياساتها الخاصة فيما يتعلق بالاستثمارات السيادية الأجنبية. وبدل من ذلك فإن نتائجها سوف تتنافس مع نتائج عمليات السياسة التي تتم ممارستها على المستويات الوطنية وفوق الوطنية.

وأوضحت الدراسة إن هذا الموقف السياسي المعقد يمثل تحديات جديدة لمديري الاستثمار العرب. وإذا أخذنا في اعتبارنا التحول السريع لصناديق الثروة السيادية من كونها مستثمرين ثانويين إلى مستثمرين مركزيين عالميين، فإن الاستراتيجيات التي ساعدتها جيدا في الماضي سوف يتعين تعديلها على ضوء وضعها الجديد وتعرضها، فهي بحاجة إلى تطوير قدراتها كي تدير بمزيد من الفعالية التحديدات السياسية التي ستواجهها حتما في المستقبل.

وجاء في الدراسة التي حملت عنوان «عندما يتكلم المال.. صناديق الثروة السيادية العربية في المجتمع العالمي.. حديث في السياسة»، أن الوضع المركزي الذي حصلت عليه الصناديق السيادية حديثا يحتاج إلى ترجمته إلى الاضطلاع بمزيد من المسؤوليات من أجل استقرار الأسواق المالية العالمية. وفي الوقت الحالي، نجد أن المستثمرين العرب استفادوا إلى حد كبير من الأسواق الغربية المفتوحة والشفافة تماما، وقدموا إسهاما ماليا نحو الحفاظ على درجة ما من الاستقرار السوقي في أواخر عام 2007 وأوائل عام 2008. والآن فإنهم بحاجة إلى اتخاذ خطوة أبعد بتقديم إسهام فعال في تطوير الأعراف والمبادئ التي سوف تتيح استقرارا على المدى الطويل للأسواق المالية. إنهم بحاجة إلى لعب دور رئيسي في بناء إطار مؤسسي يوفر إرشادات للمشاركين في السوق.

والواقع أن لهؤلاء المديرين نصيبا كبيرا في الإسهام نحو إيجاد إطار عالمي جديد يتمتع بالقوة الكافية التي تجعله يرجح التشريعات المحلية ويتفوق عليها، علما بأن السياسات التي من شأنها أن تسفر عن تفتيت حيز الاستثمار العالمي بالنسبة إلى صناديق الثروة السيادية ليست في مصلحتهم.

وقالت الدراسة إنه يتعين على الغرب إدراك أن معادلة القوة الاقتصادية العالمية تمر بمرحلة تحول، فصناديق الثروة السيادية ليست ظاهرة عابرة ولكنها ملمح جديد وقوي وباق من ملامح العلاقات المالية الدولية. وسوف يصبح من الحتمي أن تتعلم الدبلوماسية الاقتصادية الغربية ـ في سعيها إلى تأمين طريق للوصول إلى رأس المال القادم من العالم العربي وغيره من الاقتصادات الناشئة، الآن وفي المستقبل ـ كيفية توجيه مشهد استثماري جديد وكيفية التفاوض بانسجام مع فئات المستثمرين الجديدة.

وشددت الدراسة على أنه بدلاً من التركيز على حماية الأصول الغربية من المستثمرين الأجانب، ينبغي على الغرب أن يعترف بدور المستثمرين الأجانب الجديد ويمد يده إلى صناديق الثروة السيادية العربية بأسلوب بنّاء. كما ينبغي على الغرب أن ينظر في العواقب الجيوسياسية المترتبة على التشدد في العلاقات المالية مع العالم العربي؛ فالاعتماد المالي المتبادل ربما يساعد على استقرار الروابط السياسية بين الاقتصادات الغربية المستقبلة والمستثمرين العرب. ويمكن للاستثمارات الاستراتيجية العربية في الأصول الغربية أن تساعد على تنويع الاقتصادات العربية ودعم أجندة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبهذا تسهم في الاستقرار السياسي بشكل عام في الشرق الأوسط الأوسع نطاقا. وأخيرا فإنه حريّ بالغرب أن يمنع أية أجندة شعوبية مبنية على الخوف من الهيمنة الغربية من تقرير سياسته المستقبلية فيما يتعلق بصناديق الثروة السيادية العربية ونظيراتها الخاصة بالاقتصادات الناشئة الأخرى.

وهناك مجال للتكهن بشأن ما إذا كانت جهود مجموعة العمل الدولية لصناديق الثروة السيادية، والتي يقوم بتنسيقها صندوق النقد الدولي، سوف تحصل على الدرجة اللازمة من الشرعية لحماية الأسواق المالية من التدخل السياسي من قبل الجهات المنظمة الوطنية. وكما يشير المحللون الماليون، فإنه في حالة زيادة أصول صناديق الثروة السيادية من 3 تريليونات دولار حاليا إلى 12 تريليون دولار في السنوات القليلة المقبلة، فسوف تتعرض الأسواق المالية والأعراف والمبادئ الصريحة والضمنية التي تحكمها لتوتر أشد مما هو عليه الحال اليوم، حسبما ذكرت الدراسة.

وأوضحت أنه يتعين على الجهات المنظمة الدولية أن تأخذ في اعتبارها هذه التحولات العميقة التي تشهدها الأسواق المالية العالمية. ولن يكفي وضع ميثاق للسلوك مصمم تكتيكيا للمساعدة على تجنب الجدل ومواصلة العمل كالمعتاد. وأية اتفاقية بين الاقتصادات المستثمرة والمستقبلة ينبغي أن تستند إلى إدراك أن تفتيت الأسواق المالية العالمية ليس في مصلحة أي أحد؛ ومن ثم فإن الاقتصادات المستثمرة والمستقبلة تحتاج إلى العمل في اتجاه اتفاقية تثبت مرونتها على المدى الطويل.

وقالت الدراسة إنه من المفيد أن ينخرط الأطراف الرئيسيون وأصحاب المصلحة في حوار مستمر وشامل لمعالجة البيئة الاستراتيجية الأوسع نطاقا التي ستشكل المشهد الاستثماري العالمي في السنوات المقبلة، وهذا الحوار يمكنه أن يساعد على وضع أساس لترتيب جديد يتمتع بدرجة عالية من الشرعية اللازمة لتوفير استقرار طويل المدى وقدرة على التنبؤ في الأسواق المالية العالمية.

وأشارت الدراسة إلى أن «جهاز أبوظبي للاستثمار» يعدّ حالياً أكبر صندوق سيادي في العالم، لكن لا توجد معلومات كافية حول طريقة إدارة الصندوق واستراتيجيته الاستثمارية وحجم أصوله، فالتقديرات الخاصة بحجم الصندوق تتراوح ما بين 500 إلى 875 مليار دولار، منوهةً إلى بعض الصعوبات الأخرى التي تكتنف الصندوق، مثل عدم الشفافية وسياسته الخاصة بالاحتفاظ بنسبة صغيرة من الأسهم تظلّ أقل من متطلّبات الكشف عن هويتها، فضلاً عن أن الصندوق يعهّد بـ 80 في المائة من أمواله إلى شركات خارجية.

* السعودية.. والصناديق السيادية

* ووفقاً للدراسة فإن مكانة السعودية باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم من شأنها أن تجعلها مرشحاً رئيسياً لتشغيل صندوق ثروة سيادي كبير، إلا أن القيادة السعودية ترددت منذ فترة طويلة في استخدام الصناديق السيادية كأداة للانخراط في الأسواق المالية العالمية. فالجغرافية الاقتصادية للمملكة وحجم سكانها يتطلبان درجة كبيرة من السيولة المالية ويثيران شهية أقل لتقبل المخاطر، مما يوفر خلفية لاتباع سياسة للاستثمارات الخارجية تختلف اختلافا ملحوظا عن السياسات التي تنتهجها الإمارات الأصغر منها حجما في منطقة الخليج العربي. وفي أبريل (نيسان) الماضي فقط أعلنت السعودية عن تأسيس صندوق ثروة سيادي، وحتى ذلك الحين كانت احتياطياتها الأجنبية تتولى إدارتها مؤسسة النقد العربي السعودي، التي تمثل البنك المركزي للمملكة.

وبحلول عام 2008 تم تقدير ممتلكات مؤسسة النقد العربي السعودي الأجنبية غير الاحتياطية بما يزيد على 300 مليار دولار، أما احتياطياتها فتقدر بمبلغ 30 مليار دولار. وعلاوة على هذه المبالغ، تتولى مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) ـ بالنيابة عن الأجهزة السعودية الأخرى ـ إدارة قرابة 60 مليار دولار، بما في ذلك صناديق التقاعد السعودية. أما الأصول التي تملكها فمعظمها يتم استثمارها في السندات السائلة قليلة المخاطر، ولكنها تشمل أيضا أسهم وسندات ذات مخاطر أكبر، مما يجعل من مؤسسة النقد العربي السعودي مستثمرا متحفظا. وتقدر شركة ماكنزي أند كومباني (McKinsey & Company) أن 20 في المائة من إجمالي أصول مؤسسة النقد العربي السعودي الأجنبية عبارة عن نقد وودائع، و55 إلى 60 في المائة منها عبارة عن دخل ثابت، و20 إلى 25 في المائة منها في صورة أسهم. أما حصة مؤسسة النقد العربي السعودي من الاحتياطيات الدولارية والتي تصل إلى 85 في المائة فهي تعتبر مرتفعة. والمفترض أن مؤسسة النقد العربي السعودي تقوم بتعهيد كافة عمليات تخصيص الأسهم، بل وربما بعض من أعمال إدارة الدخل الثابت، مما يعني أن مستثمري القطاع الخاص السعوديين ناشطون في توظيف الاستثمارات.

وسوف تبدأ أداة الاستثمار الجديدة، وهي سنابل السعودية، بمبلغ 5.3 مليار دولار، حيث تتولى إدارتها شركة استثمارية مخصوصة مملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة السعودي والغرض منها تنويع قاعدة أصول المملكة المالية وتحسين إدارتها لمخاطر الاستثمار، كما أنها ترمي إلى تنويع اقتصاد المملكة من خلال تطوير قطاع الخدمات المالي بها وبناء مهارات إدارة الأصول لدى المواطنين السعوديين.

وبحسب الدراسة، فإنه من السابق لأوانه أن نقول بالضبط أي دور ستلعب سنابل السعودية في الأسواق المالية العالمية أو في الاقتصاد الوطني السعودي. وقد تكهن بعض المعلقين بأن أي صندوق يتم إنشاؤه من قبل السعودية سوف يكون أكبر بكثير من 5.3 مليار دولار، وذلك إذا أخذنا في اعتبارنا الزيادة الحادة في الأصول الأجنبية الرسمية التي تملكها السعودية. ومع ذلك فإن الحجم الفعلي الصغير للصندوق المؤسس حديثا يعتبر رد فعل للجدل العلني العالمي حول صناديق الثروة السيادية والحركة الارتجاعية السياسية التي واجهتها. وتشير هذه الرسملة الصغيرة إلى أن الصندوق الجديد ربما يتبع مقاربة حذرة عند مراكمته لأصوله الدولية.