شبح الانكماش المالي يخيم على العالم مع انخفاض الطلب

أرهب الخبراء في الثلاثينات وفي الثمانينات أطلق عليه في اليابان اسم «العقد الضائع»

إصابة الاقتصادات في جميع أنحاء العالم بالضعف، أدت إلى انخفاض الطلب على السلع مما قلل من أسعار المواد الخام
TT

مع وقوع عشرات الدول في الأزمة المالية، ربما يكون هناك تهديد آخر يستجمع قواه داخل الاقتصاد الأميركي، وهو احتمال تكدس المنتجات في انتظار المشترين واحتمال انخفاض الأسعار، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخنق الاستثمارات الجديدة ويزيد وضع البطالة سوءا على مدار شهور أو حتى أعوام.

والكلمة المناسبة لوصف هذا التهديد هي الانكماش المالي، أو انخفاض الأسعار، وهو المصطلح الذي يرهب الخبراء الاقتصاديين.

لقد صاحب الانكماش المالي الكساد الذي حدث في الثلاثينات. وكان استمرار انخفاض الأسعار هو محور أزمة اليابان التي أطلق عليها «العقد الضائع»، بعد الانهيار الكارثي لفقاعة العقارات بها في نهاية الثمانينات، وهي الفترة التي يجدها بعض الخبراء تتقارب مع الأزمة الأميركية في الوقت الحاضر.

يقول روبرت باربيرا، كبير الاقتصاديين في شركة «إي تي جي» للأبحاث والتجارة: «هذه بالتأكيد لمحة عن الخطر الذي أراه، هذه هي الأزمة التي نواجهها».

ومع إصابة الاقتصادات في جميع أنحاء العالم بالضعف، انخفض الطلب على البترول والنحاس والحبوب والسلع الأخرى، مما قلل من أسعار هذه المواد الخام. ومازال على الأسعار أن تهبط بصورة ملحوظة في بعض السلع والخدمات، باستثناء واحد بارز: العقارات. ولكن، بدأت قلة الطلب في تخفيض أسعار بعض المنتجات، مثل الأثاث والمفروشات، والتي انخفضت قليلا منذ بداية عام 2007، وفقا لبيانات حكومية. كما ستنخفض أسعار بعض الأجهزة والأدوات والمعدات.

منذ عدة أشهر فقط، كان واضعو السياسات الأميركية قلقين بسبب مشكلة مضادة، وهي ارتفاع الأسعار أو التضخم، حيث كانت في هذا الوقت تكاليف البترول والغذاء المرتفعة تتخلل داخل الاقتصاد. وفي يوليو (تموز)، كان متوسط الأسعار يفوق متوسط العام السابق له بنسبة 5,6 في المائة، وهو أسرع معدل للتضخم منذ عام 1991. ولكن مع نهاية سبتمبر (أيلول)، وصل معدل التضخم السنوي إلى 4,9 في المائة وساد توقع بأنه سينخفض أكثر من ذلك.

ومصدر القلق الجديد هو أنه في أسوأ وضع، ربما تكون نهاية التضخم بداية لنوع آخر من الأذى: عملية طويلة وبطيئة من خفض النفقات يفقد فيها المستهلكون والشركات حول العالم المال الكافي للشراء، مما يهبط بأسعار العديد من السلع. وعلى الرغم من أن ذلك يعتبر غير محتمل حتى الآن، إلا أن هذا سيؤدي بالشركات إلى البطء في إنتاجها والإسراع بتسريح موظفيها، مما يخرج المزيد من الرواتب من النشاط الاقتصادي، ويزيد من ضعف الطلب.

وتكمن خطورة تلك المشكلة في صعوبة العلاج. ويمكن لواضعي السياسات التخلص من التضخم برفع أسعار الفائدة، وتقليل النشاط الاقتصادي والطلب على السلع. ولكن كما اكتشفت اليابان، من الممكن أن يظل الاقتصاد واقعا في شرك الانكماش المالي لأعوام عديدة، حتى عندما تنخفض أسعار الفائدة إلى درجة الصفر: حيث يجعل هبوط الأسعار الشركات مترددة في الاستثمار حتى وإن كانت القروض مجانية.

وطوال معظم التسعينات، ظلت أسعار العقارات والعديد من السلع في انخفاض في اليابان. ومع تزايد تسريح العمالة وتضاؤل القوة الشرائية، ما زالت الأسعار على انخفاضها في دوامة من تناقص الأموال. ويخشى البعض من أن الاقتصاد الأميركي من الممكن أن يغرق في مصير مشابه لذلك، إذا كان الركود عميقا وطويلا، حيث يفقد المستهلكون القدرة على الشراء، بينما تستسلم أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية للتراجع الاقتصادي.

يقول نوريال روبيني، الخبير الاقتصادي في كلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك والذي تنبأ بوقوع الأزمة المالية ويحذر من الانكماش المالي منذ شهور: «هذا تهديد خطير في هذه المرحلة. فيمكن أن نقع في حلقة مفرغة من الأزمة المتفاقمة».

يقول معظم الاقتصاديين، ومن بينهم روبيني وباربيرا، إن واضعي السياسات الأميركية لديهم الأدوات التي يمكنها تجنب ذلك النوع من الانكماش المالي الذي وقعت فيه اليابان. وقد اندلعت المخاوف من الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة آخر مرة عام 2003، ولكن الاحتياطي الفيدرالي تغلب على ذلك التهديد بتخفيض أسعار الفائدة، مما أبقى على نمو الاقتصاد. وفي الاسبوع الماضي قام البنك الفيدرالي مجددا بتخفيض سعر الفائدة إلى 1 في المائة. كما أن خطط الإنقاذ الحكومية المتعددة ضخت أموالا في الاقتصاد.

ويقول كينيث روغوف، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي وهو الآن أستاذ في جامعة هارفارد: «إذا طبعت نقودا كافية، ستتسبب في تضخم».

ولكن حتى مع إطلاق السلطات الأميركية العنان للقروض، مازال التهديد يتصاعد. ولم يحدث منذ فترة الكساد الكبير أن واجه العديد من الدول الكثير من الأزمات في وقت واحد. ولكن الأزمة المالية أصبحت عالمية، مثل الفيروس الذي يشوه وجه كل علاج تجريبي. من كوريا الجنوبية إلى آيسلندا إلى البرازيل، انتشر الوباء وجلب معه تشديد على القروض التي حُرمت منها حتى الشركات المالية القوية.

يقول روغوف: «إننا ندخل بالفعل في مرحلة ركود عالمي قاسية. وقد سُمح للأزمة المالية الكبيرة أن تتحول إلى حالة من الذعر العالمي التام. إنه وضع خطير للغاية. والخطر المحدق هو أنه بدلا من المرور بعدة أيام سيئة، سنمر بعقد آخر ضائع».

لقد ازدهر الاقتصاد العالمي في الأعوام الأخيرة، وقد زادت خصوبته بفضل الاستثمارات المعارة. فنشأ عن هذا ممالك العقارات في فلوريدا وكاليفورنيا، ومصانع الحديد في أوكرانيا والمجازر في البرازيل، ومراكز التسوق في تركيا. هذا المد الآن يتخذ اتجاها معاكسا. تحسب البنوك والمؤسسات المالية الأخرى الآن استثمارات منهارة تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات. وبينما تحاول تلك المؤسسات إعادة بناء رأس مالها، توقف منح القروض للعديد من العملاء، وتطلب سرعة الوفاء بالدين من آخرين وتبيع أصولها ـ من المنازل التي تحصلت عليها من خلال حبس الرهن العقاري واستثمارات تتعلق بالرهن العقاري وقروض الشركات ـ بأسعار زهيدة. وتدفع عملية البيع إلى المزيد من هبوط الأسعار، مما يجعل الأصول المتبقية في الموازنات لا قيمة لها، وفي بعض الأحيان تدعو إلى جولة أخرى من البيع.

يقول باربيرا: «إنك تجد هذه الحلقة من رد الفعل المعاكس عندما تستمر قيمة الأصول في الانهيار. وهكذا بالضرورة تضع ضغطا هائلا على الاقتصاد العالمي».

في الأزمات الماضية، مثل تلك التي حلت بالمكسيك في عام 1994، وبعض دول آسيا عام 1997 و1998، كانت الاقتصادات الضعيفة تخطط من أجل استرداد عافيتها من خلال التصدير بقوة، وليس أقل من الولايات المتحدة. ولكن، هذه المرة المستهلكون الأميركيون متعثرون. وبعد أعوام من الاقتراض من أجل المنازل والاستفادة من بطاقات الائتمان، ينسحب المستهلكون.

من آسيا إلى أميركا اللاتينية، تتباطأ الصادرات ويجب أن تستمر على ذلك الوضع مع تضاؤل حجم الطلب العالمي. هذا يسبب مخاوف من أن كبار المنتجين مثل الصين والهند، الذين وسعوا من قدرتهم الإنتاجية كثيرا في الأعوام السابقة، سيكون عليهم أن يخفضوا من منتجاتهم في الأسواق العالمية من أجل استمرار عمل المصانع والتخلص من البطالة، مما يدفع الأسعار إلى الانخفاض.

في بداية هذا العام، اقترح بعض المحللين أن الشركات الأميركية قد تستمر في ازدهارها، حتى مع انسحاب المستهلكين داخلها، ببيعها منتجاتها في الأسواق الأجنبية. وقالوا إن شركة كاتربيلر، لتصنيع معدات البناء، ربما تعاني من انخفاض مبيعاتها في الولايات المتحدة، ولكن تطلب مشروعات عملاقة في روسيا ودبي رافعات ذات جودة عالية. وتحتاج استراليا والبرازيل إلى جرّافات للتوسع في عملياتها التعدينية لإرسال خام الحديد إلى المصاهر في شمال شرقي آسيا. ولكن مع وقوع معظم أنحاء العالم في الأزمة، تشعر كاتربيلر بالقلق. وقد حذر جيمس أوين، الرئيس التنفيذي لكاتربيلر، أخيرا قائلا: «بلا شك، العام المقبل سيمثل لنا تحديا».

لطالما كانت الصين في محور الادعاءات بأن العالم من الممكن أن يظل على حالة النمو بغض النظر عن الأزمة الأميركية. فكانت الصين تستورد القطن من الهند والولايات المتحدة، ومكونات المعدات الإلكترونية من كوريا الجنوبية وماليزيا وتايوان، والأخشاب من روسيا وأفريقيا، والبترول من الشرق الأوسط .

ولكن العديد من السلع النهائية التي تنتجها الصين بهذه المواد ينتهي بها الحال في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان. وعندما يتراجع المستهلكون في تلك الدول، ستتأثر المصانع الصينية، وكذلك موردوها حول العالم.

ويعني شحن أعداد أقل من أجهزة الكومبيوتر المحمولة من الصين انخفاض الطلب على الشرائح الإلكترونية. وفي الأسبوع الماضي، أعلنت توشيبا، وهي أكبر شركة تصنيع شرائح إلكترونية في اليابان، أنها خسرت 275 مليون دولار من يوليو (تموز) إلى سبتمبر (أيلول)، ذاكرة أن السبب في ذلك هو وجود تخمة عالمية.

وينتج عن تضاؤل الطلب على أجهزة التليفزيون ذات الشاشة المسطحة قلة الحاجة إلى شاشات عرض زجاجية مسطحة. في الشهر الحالي، أعلنت شركة سامسونغ الكورية العملاقة في مجال الإلكترونيات أن الفائض العالمي من هذا المنتج تسبب في أكبر انخفاض لأرباحها الربع سنوية منذ ثلاثة أعوام. وفي الوقت الراهن، ربما يتكون فائض في السلع في الولايات المتحدة. فينخفض الطلب على الشاحنات التي تستخدمها الشركات. وتهبط الاستثمارات في مجال معدات الصناعة، ولكن يزيد حجم المخازن. يقول باري بوسورث، وهو عضو رفيع المستوى في معهد بروكينغز: «أشعر بالقلق بشأن الاقتصاد الذي يبدو مثل اقتصاد اليابان. سنجد صعوبة كبيرة في محاولة حل هذه الأزمة على مدار العديد من الأعوام».

* خدمة نيويورك تايمز