المفرطون محبوبون!

سـعود الأحمد

TT

الشخصيات القيادية المتساهلة.. الموالية لأشخاص مديريها على حساب مصلحة الجهة التي يعملون فيها والمصلحة العامة.. ممن يضعون بناء العلاقات وخدمة العملاء والموظفين أولى أولوياتهم.. هم في الغالب القريبون إلى نفوس العامة، وهم الذين يتقلدون أعلى المناصب ويتصدرون المحافل! ألن غرينسبان محافظ البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (السابق).. الذي كان (بالأمس) يتصدر منابر المؤتمرات ليدلي بالنصح للعالم (وبالأخص دول الخليج) لكي تفعل كذا ولا تفعل كذا.. في مواضيع اقتصادية استراتيجية.. كربطهم عملاتهم بالدولار ومكونات محافظهم المالية وكيفية تجنب الآثار السلبية للتضخم وحماية أسواقهم المالية. هذا الرجل هو نفسه رئيس البنك المركزي للدولة التي صدرت الأزمة العالمية للعالم. هذا الرجل عندما سئل بتاريخ 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في استجواب أمام إحدى لجان مجلس النواب الأميركي، فيما يتعلق بالأزمة العالمية التي سببتها تسهيلات الرهن العقاري قال: انه أخطأ التقدير في إيمانه العميق بعدم وجود حاجة إلى وضع تشريعات صارمة تجاه التطورات الدراماتيكية في الأسواق المالية ومشتقاتها. معللاً ذلك باعتقاده الراسخ بأن إدارات البنوك والمؤسسات المالية تسعى إلى تحقيق مصالح مساهميها، وأن ذلك يعد كافياً بضمان عدم تورطها في مخاطر بالغة الخطورة. مضيفاً بأنه فوجئ بأن إدارات هذه البنوك قد تصرفت بلا مسؤولية. ما تسبب في إفلاس بعض البنوك والمؤسسات المالية والبعض يوشك على الإفلاس.

هذا التحليل القاصر للأمور من قبل رئيس البنك المركزي لأكبر اقتصاد في العالم، تسبب (ليس فقط في نكسة اقتصاد بلاده) بل في نكسة عالمية. وسببها أن البنك المركزي ترك للبنوك والمؤسسات المالية الحبل على الغارب وأعطاهم الحرية أن يمنحوا ما شاءوا من قروض بلا ضمانات. ليحققوا (في ظلها) أرباحاً وهمية، لتبدو هذه المنشآت وكأنها تحقق نمواً عالياً، وأنها تتنافس لخدمة المجتمع في توفير المساكن الخاصة. وكان المواطن الأميركي والمقيم يحصل بكل سهولة على سكن (يملكه) نظير أقساط شهرية، بعد أن كان بالأمس يدفعها كإيجار. وكان المستأجر يشتري المنزل الذي يسكن فيه، في مقابل أن يحصل على قرض (ميسر جداً) من البنك الذي يتعامل معه. لمجرد أن لديه عنوانا دائما في أميركا! ومع الوقت تراكمت الديون على أناس ليس لديهم قدرة على السداد. حتى ظهر ما يسمى بالديون الرديئة. وعندها لم يبادر البنك المركزي بإلزام البنوك بتخصيص احتياطيات للديون المشكوك فيها لمقابلة الخسائر المحتملة. وتراكمت الديون حتى عصفت بملاءة بعض البنوك والمؤسسات المالية. وتأثرت الجهات الدولية التي تتعامل مع هذه البنوك في أوروبا وآسيا وغيرها.. وحصلت الأزمة.. وأميركا تبحث عمن يعينها على دفع الفاتورة.

لكن من يجرؤ على مساءلة الرئيس: لماذا لم تتخذ الإجراءات الواجب اتخاذها؟! لا أحد يستطيع أن يعلق الجرس! بالمقابل.. عندما تنبهت وزارة التجارة والصناعة السعودية في عام 1978، إلى أهمية وضع معايير محاسبية تحمي الاقتصاد من الهزات والأزمات. وأوكلت المهمة إلى مكتب عبد العزيز الراشد محاسبون ومراجعون قانونيون، وسعى الرجل (بإخلاص وتفان) إلى بناء إطار فكري (متحفظ) لمهنة المحاسبة. وحدد أهداف المهنة ومصطلحاتها ومعيار العرض والإفصاح العام. عندها كان للبعض مشاعر حنق شديد ضد الطريقة التي أعدت بها هذه المعايير، كونها كانت في غاية التحفظ. ولم يكن الراشد ليحصل على الود الذي حظي به ألن غرينسبان. لماذا: لأنه أراد أن يضع على الناس قيود، في حين كان غرينسبان عمل على فك القيود وإطلاق الحريات. واليوم وقد ظهرت خسائر البنوك الأميركية (متأخرة جداً)، بعد أن منحت القروض بضمان مساكن يقطنها أصحابها المعسرون المتخلفون عن السداد. في وقت لا تستطيع البنوك أن تستوفي قروضها من بيع هذه المساكن، لأنها مقيمة بقيم مبالغ فيها. يبرز السؤال الأهم: من المسؤول؟ ومن بيده محاسبة المسؤول؟

* كاتب ومحلل مالي