الخلافات السياسية في لبنان فوتت فرص خصخصة الهاتف الجوال 7 سنوات

آخر فرصة ذهبية في عام 2007

كانت السيولة الباحثة عن فرص استثمار متوافرة بغزارة على الصعيدين العالمي والإقليمي في لبنان عام 2007 («الشرق الأوسط»)
TT

يرى كثير من الاقتصاديين اللبنانيين أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الأزمة المالية العالمية لن يكون لها تأثير بالمطلق على الاقتصاد اللبناني، ويعطون مثالا على ذلك تفويت فرصة خصخصة قطاع الهاتف الجوال، التي كان يمكن أن تتم في فبراير (شباط) من العام الماضي، حيث كانت السيولة الباحثة عن فرص استثمار متوافرة بغزارة على الصعيدين العالمي والإقليمي. إلا أن الخلافات السياسية المحتدمة بين الفرقاء اللبنانيين عطلت العملية في حينه، الأمر الذي دفع رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة لاحقا، وبعد اندلاع الأزمة العالمية، إلى الاعتراف بضرورة تأخير عملية الخصخصة إلى «ظرف مناسب».

وهذا ما أكده الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد حايك، بقوله: «إن عملية خصخصة الهاتف الجوال قد تتأخر بعض الوقت»، معتبرا أنها «ستكون صعبة اليوم نظرا إلى الأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها العالم. فأسواق المال والبورصات ليست في وضع مناسب لإتمام هذه العملية في الوقت الراهن، إذ لا تتيح لنا الحصول على القيمة التي نتوخاها من عملية الخصخصة».

ويؤكد رئيس قسم الأبحاث في بنك «بيبلوس» نسيب غبريل لـ «الشرق الأوسط» أنه «إذا كانت عمليات التأجيل السابقة للخصخصة غير مبررة، فإن عملية التأجيل الحالية مبررة اقتصاديا إلى حد كبير». ويعزو الاقتصاديون هذا التبرير إلى جملة عوامل، أهمها أن نسبة الاختراق للهاتف الجوال في لبنان لا تزال متدنية ونسبتها 33 في المائة، وأن الأزمة المالية العالمية من شأنها أن تحد من شهية المستثمرين، بالإضافة إلى أن التمويل الضروري سيصبح أصعب وأكثر كلفة، مع الأخذ في الاعتبار ضعف أداء شركات الاتصالات الرئيسية في المنطقة في البورصات.

وذلك فضلا عن أن إدخال ثلث رأس مال الشركتين القائمتين في لبنان إلى البورصة، كما هو منصوص عليه في دفتر الشروط، يمكن ألا يتم في الظروف الملائمة.

والحقيقة أن تأخر عملية خصخصة شبكتي الهاتف الجوال نحو سبع سنوات فوت فرصة ثمينة جدا، فلبنان يكاد يكون الوحيد مع كوبا وكوريا الشمالية الذي لم يخصخص الهاتف الجوال، «ولو أنه سلك طريق الخصخصة في عام 2003، كما كان متوقعا، لما كان الدَّين العام وصل إلى المستوى الذي وصل إليه حاليا»، على حد قول غبريل.

ولكي لا نعود بعيدا نشير إلى أن بنك «كريدي سويس» توقع في عام 2007 عائدات من الهاتف الجوال بين 5 و7 مليارات دولار، نتيجة السيولة النفطية التي كانت غزيرة في المنطقة. ويؤكد غبريل «أن هذا المبلغ، بخلاف ما يعتقد البعض، كان يمكن أن يكون ذا شأن مع بلوغ مستوى الدَّين العام آنذاك 44 مليون دولار، خصوصا أن مؤسسات التصنيف الائتماني تركز في تصنيفاتها على الدَّين بالعملة الصعبة، مهما كان الحجم الإجمالي للدَّين، لأنه من السهل طبع العملة المحلية على إيجاد عملية صعبة». علما بأن الدَّين العام بالعملة الصعبة يمثل نحو 48.3 في المائة من إجمالي الدَّين العام، أي نحو 21.5 مليار دولار في نهاية يونيو (حزيران) الماضي.

ومن أصل هذا المبلغ هناك 35 في المائة مكونة من القروض الثنائية أو الاكتتابات باليوروبوندز، في إطار مؤتمري باريس الثاني والثالث. واليوروبوندز المطروحة عمليا في السوق لا تمثل أكثر من 13.9 مليار دولار، 76 في المائة منها تملكها المصارف التجارية.

يقول غبريل: «إن عملية الخصخصة كان يمكن أن تخفض إلى نصف اليوروبوندز المتداولة في السوق، حيث المخاطر تبدو أعلى. صحيح أنها لم تكن مهيأة لتخفيف ثقل الدَّين، وإنما لتحسينه بالتأكيد». ويضيف: «بالنسبة إلى مؤسسات التصنيف فإن خفض سوق اليوروبوندز إلى النصف يكاد يكون بأهمية خفض نسبة الدَّين إلى إجمالي الناتج المحلي».

ومن الآن وحتى ظهور «الظروف المناسبة» مجددا ينبغي العمل على الخروج من الوضع السيئ الذي آلت إليه الشبكتان في لبنان، وهو ما التزمه وزير الاتصالات جبران باسيل من خلال اتفاقه مع الشركتين الجديدتين «زين» و«أوراسكوم»، اللتين أوكل اليهما أمر إدارة الشبكتين، على توسيع الشبكات وتطوير الخدمات والتجهيزات بغية رفع نسبة الاختراق إلى نحو 55 في المائة.

ويعتبر رئيس الهيئة المنظمة للاتصالات كمال شحادة أن خفض الدَّين يمكن أن يحسن نسبة الدَّين إلى إجمالي الناتج المحلي، لكن تحسين هذه النسبة يمكن أن يتم بزيادة الناتج المحلي الإجمالي، مشيرا إلى أن ارتفاع عدد المشتركين في الهاتف الجوال بنسبة 10 في المائة، من شأنه أن يحسن إجمالي الناتج المحلي بنسبة 1 في المائة.

ويتخوف الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد حايك من أن يكون الاختلاف السياسي على إصدار أو عدم إصدار قانون جديد للخصخصة، سببا آخر لتفويت أي فرصة جديدة يمكن أن تسنح في المدى المتوسط. وحتى في حال إصدار قانون جديد تمنى حايك «ألا يفرض شروطا جديدة حتى لا يكبل أيدينا في التعاطي مع المستثمرين».

واعتبر أن أي استبعاد للشركات الأجنبية للدخول في عمليات الخصخصة سيكون قرارا ضد مصلحة المواطن اللبناني، وهو قد يكون لمصلحة عدد محدود من المستثمرين اللبنانيين الأثرياء الطامحين إلى وضع أيديهم على القطاع، لكنه سيكون حتما ضد مصلحة أربعة الملايين اللبنانيين.