الأزمة المالية العالمية تكبح جماح الاقتصاد الهندي

بعد خمس سنوات من النمو القوي

TT

بعد خمس سنوات من النمو السريع، بدأ الاقتصاد الهندي في التباطؤ، في الوقت الذي بدأت فيه الأزمة المالية العالمية في إلحاق الخسائر بالأنظمة الاقتصادية الناشئة. وقد أثر التراجع الاقتصادي على الجميع، من الشباب الذين ينتظرون الانضمام إلى القوى العاملة، إلى المستثمرين الذين تضرروا بشدة من الانهيار الكبير الذي حدث في سوق الأوراق المالية.

وأصبح الأمر رسميا، حيث أعلنت الحكومة الهندية أيضا أنه من المتوقع أن ينمو الاقتصاد بمعدل 7.1 في المائة في العام المالي الحالي، وهو أقل معدل نمو منذ أربعة أعوام، مع تسجيل القطاعات الصناعية والتحويلية والمالية لانخفاض في النمو وتخلصهم من مائة ألف وظيفة.

وأعلن مصرف الاحتياطي الهندي بالفعل أن الاقتصاد، بعد أن شهد نموا كبيرا في الربع الثاني من العام المالي الحالي، بدأ في التباطؤ في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد نما الاقتصاد الهندي بنسبة 5.3 في المائة في الربع السنوي الثالث، وهو أدنى انخفاض يحدث له منذ خمسة أعوام في الوقت الذي انكمش فيه الإنتاج الزراعي والصناعي بنسبة 2.2 في المائة و0.2 في المائة على التوالي.

وفي العام الماضي- في مثل هذه الفترة تقريبا- حققت الهند معدل نمو بلغت نسبته 8.9 في المائة. وكان معدل التضخم متدنيا عند نسبة 4.4 في المائة. ولكن بعد مرور عام واحد، تغيرت الصورة تماما.

وقد ذكر المصرف المركزي الهندي في «تقرير تطورات الاقتصاد الكلي والنقد في الربع الثالث من عام 2008-2009»: «لقد تدهور الوضع الاقتصادي العالمي بحدة منذ شهر سبتمبر (أيلول) عام 2008، حيث تعاني العديد من الدول، خاصة دول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول منطقة أوروبا واليابان من حالة من الركود. وفي الهند أيضا، يوجد دليل على تباطؤ النشاط الاقتصادي».

ولكن مع بداية هبوب رياح الأزمة المالية العالمية على الهند، انخفضت أرباح العديد من القطاعات، من المالي إلى العقارات، مما أدى بها إلى تسريح العمالة. وتسبب نفاد فرص العمل في صدمة عنيفة في دولة كانت الصناعات بها في حالة اندفاع نحو تعيين الموظفين على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة.

وقد تخلصت القطاعات المهمة في اقتصاد الهند مثل المناجم والمنسوجات والسيارات والنقل والمعادن والأحجار الكريمة والمجوهرات وتجهيزات المكاتب، من أكثر من مليون وظيفة نتيجة للتراجع الاقتصادي العالمي وانخفاض حجم الصادرات إلى الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي. وانخفض الإنتاج في الصناعات التخزينية مثل الملابس والأحجار الكريمة والمنسوجات والكيماويات والمجوهرات بنسبة من 10 إلى 50 في المائة. وقد أثر الركود في الغرب في المقابل على هذه الصناعات، حيث كانت تستعين بعمالة مباشرة وصلت إلى 35 مليون شخص وتعد مصدر رزق غير مباشر لـ88 مليونا آخرين. ومنذ عامين، كان من المفترض أن تكون صناعة المنسوجات الهندية على أعتاب النمو السريع. واليوم تعاني من حاجة ملحة إلى الإنعاش.

وذكر اتحاد منظمات المصدرين في الهند، الذي أجرى دراسة مكثفة، إنه سيكون هناك أربعة ملايين وظيفة أخرى بحلول أبريل (نيسان) عام 2009 في قطاع المنسوجات، والملابس، والصناعات اليدوية.

وصرح ساجان جيندال، رئيس غرف الصناعة والتجارة الهندية المتحدة، أسوتشام، بأن الاقتصاد بأكمله تأثر على نحو سيئ بالأزمة الاقتصادية، ولكن تزداد حدة التأثير على قطاعات مثل الحديد والسيارات والمنسوجات، حيث وصل معدل نمو الطلب إلى درجة الصفر. ويعاني قطاع العقارات، ثاني أكبر مجال توظيف بعد الزراعة، أيضا من تراجع كبير. ويجد القطاع الذي يدعم حوالي 250 صناعة أخرى فرعية مثل الأسمنت والحديد والدهانات وغيرها انخفاضا في الطلب. وقد هبطت أسعار العقارات بنسبة 25 في المائة في بعض المناطق.

ووفقا لدراسة اقتصادية أجرتها غرف الصناعة والتجارة الهندية المتحدة، تعد الهند من بين أسوأ الدول الناشئة تأثرا، حيث خسرت من احتياطي العملة الأجنبية نسبة 3.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي جراء عدم استقرار العملات في الأشهر الأربعة الأخيرة، الذي تسببت فيه الأزمة المالية العالمية منذ سبتمبر (أيلول) عام 2008، تلاها انخفاض في احتياطي الدولار لدى الهند الذي كان يصل إلى 43.2 مليار دولار.

ومنذ أن بدأت الأزمة المالية العالمية في إلحاق الخسائر بالاقتصاد الهندي، تعرضت الروبية الهندية إلى ضغوط كبيرة أمام الدولار لتنخفض قيمتها بنسبة 13 في المائة.

ويقول رئيس الاتحاد الهندي للصناعة والتجارة هارش باتي شينغانيا: «بينما انكمش حجم القطاعين الزراعي والصناعي، اللذين يشكلان ثلث الاقتصاد، نشهد تراجعا ملحوظا في معظم القطاعات الخدمية مثل الإنشاء والنقل والاتصالات وسط تباطؤ في الاستثمار. ومن المتوقع أن يزداد الانخفاض في القطاعات التجارية والمتعلقة بالسياحة في حين هبطت الصادرات سلبيا ومن المتوقع أن تنخفض أعداد الزائرين بسبب الركود العالمي».

وفي أغسطس (آب) من العام الماضي، وصل معدل التضخم إلى 12.63 في المائة وهي أعلى نسبة منذ 16 عاما. وفي الأسبوع الحالي وصلت النسبة إلى أعلى من 3 في المائة بقليل. فهل يبتهج المستهلكون؟ في الحقيقة، لا، على حد قول المحللين. فمن الممكن أن يتبع هذا انكماش اقتصادي، وهو عبارة عن انخفاض مستمر في الأسعار مع هبوط معدل الضخم إلى درجة أقل من صفر في المائة.

ويقول أبهيك باروا، كبير الاقتصاديين في مصرف إتش دي إف سي: «من المهم أن ندرك لماذا يحدث الانكماش، ربما يكون هذا مخيفا لرجل الشارع، لأن الانكماش يعني أنه سيكون هناك طلب قليل في الاقتصاد فتهبط الأسعار بالفعل».

وتهبط أسعار السلع والخدمات عندما تكون هناك كميات أقل من المال في النظام. ويعني نقص الأموال أن ينفق المستهلكون مالا أقل (أي ينخفض الطلب)، وهذا بدوره يؤثر على الأرباح التي تحصل عليها الشركات (مما يعني مالا أقل)، ويقل حينها الإنتاج الصناعي. وتضطر الشركات إلى تخفيض التكاليف ربما بالتخلص من الوظائف.

ويضيف باروا: «تتعرض الوظائف والرواتب وفرص نمو المشروعات لموقف سلبي، ولهذا السبب تنخفض الأسعار. ويعد الانكماش الاقتصادي من أعراض مرض اقتصادي أكثر عمقا. ومن منظور أوسع، إذا استمر الانكماش لمدة طويلة، ربما يكون الوضع سلبيا للغاية».

ولكن يقول الاقتصاديون إن اقتصاد الهند لم يدخل في مرحلة الركود بعد، مقارنة بالأسواق المتقدمة في آسيا مثل اليابان وهونغ كونغ والصين.

وعلى الرغم من أن التوقعات الاقتصادية لعامة 2009 ما زالت كئيبة، إلا أن الهند تحتل موقعا أفضل للصمود أمام العاصفة العالمية من معظم الدول. الجدير بالذكر، أن قطاعها المصرفي لم يتأثر بالعدوى التي تنتقل سريعا في القطاع المالي الغربي.

ويقول الخبير الاقتصادي ساوميترا تشودوري، عضو المجلس الاستشاري الاقتصادي لرئيس الوزراء: «على الرغم من أننا سنتأثر بالأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أن التأثير لن يتعدى التباطؤ الاقتصادي إلى مرحلة الركود. وإذا نظرنا إلى شركاتنا، فسنجد أنها ليست مضغوطة بشدة وتبحث عن فرص لاستغلال التراجع الاقتصادي لرفع معدل نموها. وإذا نظرنا إلى المصارف فيوجد عدد قليل منها يعاني من عدم سداد القروض، وإذا نظرنا إلى ميزانيات منازل الأفراد، فلن نجد أن عليهم تسديد الكثير من الديون.. فمعظم القطاعات قوية بدرجة معقولة».

ويرجع الاقتصاديون الفضل في ذلك إلى اعتماد الهند الكبير على السوق المحلية. ويقول معظم المحللين والاقتصاديين إن اقتصاد الهند لن يتباطأ بدرجة كبيرة إلا إذا كانت فترة الركود في الولايات المتحدة طويلة وحادة.

وفي أقل من ثلاثة أشهر منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2008، أعلنت الحكومة الهندية عن ثلاث حزمات تحفيزية تقلل من الرسوم الضريبية، والضرائب على الخدمات، وتقدم المزيد من الأموال من أجل قطاع البنية التحتية. ووسط مخاوف من أن التباطؤ الاقتصادي قد يستمر لفترة أطول، خفض مصرف الاحتياطي الهندي من الريبو (أو نسبة الفائدة على الإقراض) بنصف في المائة لتصل إلى 5 في المائة والريبو العكسي (سعر الفائدة على الاقتراض) إلى نسبة 3.5 في المائة على الفور. وذكر المصرف المركزي في إعلانه عن خطة التحفيز النقدية يوم الأربعاء: «من المتوقع أن يشجع تخفيض أسعار الفائدة المصارف على منح القروض لأغراض إنتاجية بأسعار فائدة ممكن تطبيقها. ومن جانبه سيستمر المصرف الاحتياطي في الحفاظ على توفر السيولة في النظام المالي».

وصرح ديباك باريك، رئيس مجلس إدارة مصرف إتش دي إف سي، ثاني أكبر مصرف هندي خاص، قائلا: «على الرغم من أن تأثير هذا على الطلب الإجمالي في الاقتصاد سيستغرق وقتا أطول، إلا أنه خبر جيد للمقترضين»، مضيفا أن تكاليف الاقتراض ستنخفض على نحو شامل».

وتتوقع مادهبي بوري-بوش، المديرة الإدارية والرئيسة التنفيذية لشركة اي سي اي سي للأوراق المالية: «على أي حال، إنه عالم صغير. ومن المرجح أن يكون عام 2009 أكثر عام مؤلم للاقتصاد الهندي». ولكنها متفائلة بأن خطط التحفيز الثلاث التي أعلنت عنها الحكومة الهندية سيكون لها أثر إيجابي على الاقتصاد، التي ستظهر نتائجها في عام 2010.

ويقول مونتيك سينغ أهلواليا، نائب رئيس مجلس إدارة لجنة التخطيط الهندية، إن معدل نمو الاقتصاد سيكون أبطأ في النصف الأول من العام المالي المقبل، ولكن سيكون هناك ارتفاع في النصف الثاني. «فيما بعد سبتمبر (أيلول) عام 2009، سيكون هناك انتعاش في الاقتصاد».

وإذا كان نمو الاقتصاد الهندي في عام الركود يصل إلى 7 في المائة، وهو أمر غير مفاجئ على الإطلاق، لأن النصف الأول (من العام المالي 2008-2009) حتى سبتمبر (أيلول) عام 2008 كان جيدا جدا. وبالنسبة للنصف الثاني من العام (الذي بدأ في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2008 وينتهي في مارس (آذار) عام 2009)، بينما تعاني قطاعات التصنيع والسلع من التعثر، ما زال قطاع الخدمات يحقق نموا معقولا. وتتميز الهند أيضا بميزة ديموغرافية، حيث يوجد بها عدد كبير من السكان الشباب وقوة عمل كبيرة.

وفي المجمل، سيؤثر الركود الاقتصادي على الهند، لكن بدرجة أقل بكثير من تأثيره على بقية أنحاء العالم. ولذلك، سيستمر اقتصاد الهند بالتأكيد في احتلاله مركزا مهما في جميع المجالات.