المضاربون فائقو السرعة.. قوة غامضة في الأسواق المالية تجني أرباحا طائلة

يعتمدون على كومبيوترات ذكية تستطيع مسح الأسواق في أجزاء من الثانية ونقل ملايين الأوامر

TT

تحول الأمر إلى أحدث الصيحات داخل وول ستريت، والسبيل الذي تتمكن بحفنة من المضاربين من خلاله من السيطرة على سوق الأسهم، واختلاس النظر إلى الأوامر الصادرة عن المستثمرين، بل والتلاعب خفية في أسعار الأسهم، حسبما يرى النقاد.

يحمل هذا السبيل الجديد اسم المضاربة فائقة السرعة ـ وتحول اليوم على حين غرة إلى واحد من أكثر القضايا التي يجري الحديث عنها وأحد أبرز القوى الغامضة في الأسواق. والواضح أن حواسب آلية قوية، يوجد بعضها بجانب الكومبيوترات التي تعتمد عليها الأسواق في عملها مثل بورصة نيويورك، تمكن المضاربين بصورة فائقة السرعة من نقل ملايين الأوامر في سرعة البرق. ويؤكد منتقدو هذا الأسلوب في أنه يساعد من يستغلونه في جني مليارات الدولارات على حساب الأطراف الأخرى كافة.

وتتميز مثل هذه الأنظمة بدرجة بالغة من السرعة لدرجة تجعلها قادرة على التفوق على المستثمرين والبشر، بل والحواسب الآلية الأخرى في الذكاء والسرعة. تشيع التساؤلات بين جميع المعنيين بوول ستريت حول كيف تجني صناديق التحوط والمصارف الضخمة، مثل «غولدمان ساشز»، هذه المبالغ الهائلة في غضون فترة قصيرة من انهيار النظام المالي. ويكمن جزء من الإجابة في المضاربات فائقة السرعة. وعندما وجه اتهام إلى أحد المبرمجين السابقين لدى «غولدمان ساكس» خلال هذا الشهر بسرقة شفرات سرية تتعلق بالحواسب الآلية ـ عبارة عن برنامج وصفه مدعي فيدرالي بالقدرة على «استغلال الأسواق على نحو ظالم» ـ زاد الغموض المحيط بهذا السبيل الجديد. ومن جهتها، اعترفت «غولدمان ساكس» بأنها تتربح من المضاربات فائقة السرعة، لكنها عارضت فكرة أن ذلك يميزها عن الأطراف الأخرى على نحو ظالم.

ومع ذلك، تبقى الحقيقة الواضحة أن المتخصصين بمجال المضاربات فائقة السرعة يتمتعون بوضع متميز عن المضاربين التقليديين، ناهيك عن المستثمرين العاديين. يذكر أن «لجنة الأوراق المالية والبورصة» أعلنت أنها تعكف على تفحص بعض أوجه هذه الاستراتيجية. في هذا السياق، علق ويليام إتش.دونالدسون، الرئيس التنفيذي السابق لبورصة نيويورك، بقوله: «ذلك هو المجال الذي يجري به جني كل المال. حال افتقار مستثمر ما إلى وسيلة مجاراة ما يدور، يصبح بذلك في وضع بالغ الصعوبة». يذكر أن دونالدسون يعمل حاليا مستشارا لأحد صناديق التحوط الكبرى. على امتداد الجزء الأكبر من تاريخ وول ستريت، اتسمت عمليات المضاربة في الأسهم بطابع واضح ومباشر، حيث يحتشد المشترون والبائعون داخل مقصورة سماسرة البورصة وظلوا يتقايضون حتى إبرام صفقة. وفي عام 1998، صرحت «لجنة الأوراق المالية والبورصة» بعمليات المضاربة الإلكترونية للتنافس مع الأسواق الأخرى مثل بورصة نيويورك. وكان الهدف من وراء ذلك فتح أسواق أمام أي شخص يملك جهاز حاسب آلي وفكرة جديدة. لكن مع ظهور أسواق جديدة، باتت الحواسب الآلية العادية عاجزة عن المنافسة في مواجهة الحواسب الآلية في وول ستريت، ذلك أن الأخيرة عبارة عن حواسب عملاقة قادرة على تنفيذ ملايين الأوامر في ثانية واحدة وإجراء مسح لعشرات الأسواق العامة والخاصة بصورة متزامنة. وبمقدور هذه الحواسب التعرف على التحركات العامة قبل أن تطرف أعين المستثمرين، وتبديل الأوامر والاستراتيجيات المتبعة في غضون أجزاء من الثانية. غالبا ما يثير المضاربون المعتمدون على حواسب فائقة السرعة المستثمرين الآخرين بإصدارهم أوامر وإلغائها في نفس اللحظة تقريبا. وتمنح ثغرات قائمة في القواعد المنظمة للسوق المستثمرين المتبعين لأسلوب المضاربات فائقة السرعة القدرة على اختلاس النظر إلى نهج الآخرين في المضاربة. وباستطاعة الحواسب الآلية التي يمتلكونها إجبار المستثمرين الأبطأ على التخلي عن أرباحهم ـ ثم الاختفاء قبل أن يتمكن أي شخص آخر من معرفة حتى أنهم كانوا مشاركين من الأساس. علاوة على ذلك، يستفيد المضاربون المعتمدون على أنظمة فائقة السرعة من المنافسة بين العديد من البورصات، والتي تدفع رسوما ضئيلة غالبا ما يجري جمعها من قبل أكبر وأكثر المضاربين نشاطا ـ تعادل الرسوم عادة ربع سنت للسهم لأي شخص يشارك أولا. وتساعد هذه المبالغ، التي يجري حصدها من وراء ملايين الأسهم، المستثمرين المعتمدين على المضاربة فائقة السرعة على التربح عبر مجرد المضاربة في عدد هائل من الأسهم، حتى لو كانوا يشترونها ويبيعونها بخسارة بسيطة.

في هذا الصدد، قال جوزيف إم.ميكاني، من شركة «إن واي إس إي يورونكست»، التي تتولى تشغيل بورصة نيويورك: «تحول الأمر إلى سباق تسلح تقني، وبات الأمر الذي يفصل الفائزين عن الخاسرين مدى سرعة التحرك. إن الأسواق بحاجة إلى سيولة، ويوفر المضاربون فائقو السرعة فرصا للمستثمرين الآخرين للشراء والبيع». ومن ناحية أخرى، يساعد صعود المضاربة فائقة السرعة في تفسير السبب وراء تفجر النشاط داخل البورصات على مستوى البلاد. وتشير البيانات الصادرة عن بورصة نيويورك إلى أن متوسط الحجم اليومي للتداول ارتفع بصورة بالغة وصلت إلى 164% منذ عام 2005. ورغم عدم توافر أرقام محددة، تشير البورصات إلى أن حفنة من المضاربين فائقي السرعة أصبحوا يشكلون الآن أكثر من نصف جميع المضاربات. من أجل تفهم كنه هذا العالم بالغ السرعة، عليك التفكير بشأن ما حدث عندما دخل المضاربون ذوو الحركة البطيئة في منافسة أمام روبوتات عالية السرعة هذا الشهر، الأمر الذي انتهى بتسليم الغنائم إلى حواسب آلية فائقة السرعة.

كان ذلك في 15 يوليو (تموز)، أعلنت «إنتل» العملاقة بمجال رقائق الحاسب الآلي، تحقيقها عائدات كبيرة في الليلة السابقة. استشعر بعض المستثمرين وجود فرصة وراء هذا الأمر، وعليه، شرعوا في شراء أسهم شركة «برودكوم»، العاملة بمجال أشباه الموصلات. (قام مستثمر بواحدة من كبريات شركات وول ستريت بشرح النشاطات التي قاموا بها شريطة عدم الكشف عن هويته). وجد المستثمرون الأبطأ حركة أنفسهم في مأزق، ذلك أنهم إذا ما سعوا لشراء عدد ضخم من الأسهم فجأة، فإنهم بذلك سيكشفون عن نواياهم ويخاطرون برفع سعر سهم «برودكوم». وعليه، مثلما جرت العادة في وول ستريت، عمد المستثمرون إلى تقسيم أوامرهم إلى عشرات القطع الصغيرة، على أمل التمويه على مقصدهم. في غضون ثانية واحدة من افتتاح الأسواق، بدأ التداول في أسهم «برودكوم» عند مستوى 26.20 دولار. شرع المضاربون الأبطأ في إصدار أوامر شراء. لكن بدلا من إظهارها أمام جميع المشترين المحتملين في ذات الوقت، كان الاحتمال الأكبر نقل بعض هذه الأوامر إلى مجموعة من المضاربين فائقي السرعة خلال مدة 30 مليثانية فقط ـ 0.03 ثانية ـ فيما بات يعرف باسم الأوامر المندفعة. بينما من المفترض أن تعمل الأسواق على ضمان الشفافية من خلال إظهار الأوامر أمام الجميع في ذات الوقت، فإن ثغرة في التنظيمات تسمح للأسواق مثل ناسداك بإظهار بعض الأوامر لعدد من المضاربين قبل أي شخص آخر مقابل رسوم. في غضون أقل من نصف ثانية، جنى المضاربون فائقو السرعة معلومات قيمة عن السوق، وأدركوا أن هناك سعيا حثيثا يتنامى وراء أسهم «برودكوم». بالتالي، شرعت حواسبهم الآلية في شراء أسهم «برودكوم»، ثم إعادة بيعها للمستثمرين الأبطأ بأسعار أعلى. وعليه، بدأ مجمل سعر سهم «برودكوم» في الارتفاع.

سريعا، بدأت آلاف الأوامر في التدفق على الأسواق من قبل الحواسب فائقة السرعة. وبدأت برامج أوتوماتيكية في إصدار أوامر وإلغائها في غضون مليثانية لتحديد السعر الذي يبدي المستثمرون الأبطأ استعدادهم لدفعه. وسرعان ما حددت الحواسب الآلية فائقة السرعة أن الحد الأقصى للسعر المناسب بالنسبة لبعض المستثمرين يتمثل في 26.40 دولار. وارتفع سعر السهم إلى 26.39، وبدأت البرامج فائقة السرعة في عرض بيع مئات الآلاف من الأسهم. وتمثلت النتيجة النهائية في أن المستثمرين الأبطأ دفعوا 1.4 مليون دولار مقابل حوالي 56.000 سهم، أو 7.800 دولار أكثر عما كانوا سيتكبدونه حال تحركه بنفس سرعة المضاربين فائقي السرعة.

وبالنظر إلى تكرار مثل هذه المضاربات عبر الآلاف من الأسهم يوميا، يتضح أن الأرباح هائلة. في هذا الصدد، قدرت «تاب غروب»، وهي شركة بحثية، أن المضاربين فائقي السرعة جنوا العام الماضي أرباحا تبلغ قرابة 21 مليار دولار. ومن جهته، قال أندرو إم.بروكس، رئيس شؤون المضاربة في السهم داخل «تي. راو برايس»، صندوق استثماري غالبا ما يدخل في منافسة مع مضاربين فائقي السرعة: «هناك رغبة في تشجيع الابتكار، ومكافأة الشركات التي استثمرت في التقنية الحديثة والأفكار التي تزيد كفاءة السوق، لكننا نتحرك باتجاه خلق سوق مؤلف من مستويين، أحدهما للمضاربين فائقي السرعة والآخر لجميع المشاركين الآخرين. إن الناس بحاجة لضمان نيلهم فرصة مشروعة لإبرام صفقات عادلة. وإلا، فقدت الأسواق نزاهتها».

* خدمة «نيويورك تايمز»