قرى هندية تودع الفقر

المزارعون باعوا عربات الثيران وذهبوا إلى الحقول في جرارات

وصلت الإصلاحات التي انطلقت من نيودلهي إلى جنوب الهند («نيويورك تايمز»)
TT

ذهبت قبل أيام قليلة في جولة على دراجتي النارية في المناطق المحيطة، وأدركت أن العالم من حولي تغير كلية.

تجولت بدراجتي النارية على امتداد طريق أسفلتي يقود إلى المحيط، كان في الماضي عبارة عن ممر قذر. اعتدت أن أرى المحيط من أعلى الطريق، ولكن في الوقت الحالي حلت مكان ذلك المشهد مبان سكنية وفنادق صغيرة ومتاجر.

عندما كنت صبيا، كانت تحيط بالطريق حقول أرز تجمع بين اللونين الأخضر والزمردي. ولكن، لم تعد هناك حقول أرز أمام عينيّ، ولا يوجد سوى الصوبات الزجاجية، وألوان قرمزية وبنفسجية وبرتقالية تميز المباني الخرسانية التي حلت محل الحقول.

في يوم من الأيام، كانت المنطقة المحيطة بالمكان الذي أعيش فيه عبارة عن قرية ريفية منعزلة. وكانت أقرب مدينة كبيرة هي مدينة تشيناي ـ أو «مدراس» كما كان يطلق عليها في ذلك الوقت ـ على بعد مئات الأميال. نشأت هنا، في الريف، وكانت تحيط بنا خمس قرى. وعشت طفولة بسيطة تملأها السعادة. وكنت أعيش على إيقاع الحياة الريفية، فكانت هناك عربات كارو تقودها الثيران ومحاريث يدوية ودراجات وطواحين هواء.

ولكن، بالنسبة للرجال والنساء الذين عاشوا في القرى الذين كانوا يكسبون بعض المال من الأرض المتآكلة، فقد كانت الحياة أكثر صعوبة، حيث كان الفقر يحيط بكل شيء. وفي الكثير من النواحي، كانت ظروفهم أفضل بنسبة بسيطة مقارنة بظروف أجدادهم.

وبدأت الأشياء تتغير في التسعينات، ففي عام 1991 قامت الحكومة الهندية التي كانت تواجه أزمة اقتصادية بتحرير الاقتصاد وتعويم العملة ورفع القيود من على الواردات، وأرخت الدولة قبضتها. ولحقت الدولة التي كانت ترفع شعار الاعتماد على الذات بباقي العالم، بعد أن كانت الحكومة تقول لنا «كن هنديا واشتري الهندي».

وبصورة تدريجية وعلى نحو غير ملحوظ تقريبا وصلت الإصلاحات التي انطلقت من نيودلهي إلى جنوب الهند. وقام المزارعون ببيع عربات الكارو التي تقودها الثيران، وبدأوا في الذهاب إلى الحقول يركبون جرارات لها ذات لون أحمر زاه. ولاحظت وجود تلفزيونات ملونة، وبعد ذلك ظهرت أطباق استقبال القنوات الفضائية داخل المنازل في القرى. وبدأت المنازل نفسها تتغير، فأصبح هناك عدد أقل من الأكواخ ذات الأسقف المصنوعة من القش، وعدد أكبر من المباني الخرسانية. وفي نهاية التسعينات من القرن الماضي، تحول الطريق إلى مدينة تشيناي إلى طريق سريع، وبدأ السياح يذهبون صوب الساحل ولديهم الرغبة في زيارة الشاطئ ومنطقة أوروفيل أو الفيلات الاستعمارية بمدينة بونديتشري، التي كانت نقطة حدودية فرنسية سابقا أسفل الطريق من هنا. وقد كانت التنمية بالنسبة لأغلبية المناطق شيئا لطيفا، فقد وفرت ثروات جديدة ووظائف جديدة وفرصا جديدة. وأنشأ الرجال والنساء متاجر ومطاعم ومراكز يوغا على امتداد الطريق إلى الشاطئ.

ولكن، غيرت التنمية أيضا من طرق العيش القائمة، فقد أرهقت النسيج المجتمعي والثقافي في هذه القرى. وشهدت قرية كويلا باليام التي تقع على رأس الطريق الذي يقود إلى الشاطئ سبع عمليات قتل على الأقل خلال الأعوام الأخيرة. وتجوب القرية عصابات تضم شبابا قرويين لتبتز المواطنين بهدف الحصول على أموال والقيام بأعمال انتقامية. في الماضي، كان هناك مجلس عرفي مكون من أعيان القرية مسؤول عن الحد من أعمال العنف. ولكن لدى الجيل الجديد أفكار عصرية، فلم يعد يكترث للكبار، وأصبح أعضاء المجلس بلا سلطان، ويخافون من التدخل في مثل هذه الأحداث.

وقد أدت التنمية إلى ظهور أسباب جديدة للشعور بالضيق ولقطع شمل العائلات، وفجأة وجد المزارعون الذين اعتادوا على الكد داخل أراض قاحلة أن هذه الأرض تساوي ثروة صغيرة. وقاموا ببناء منازل جديدة وأرسلوا أبناءهم إلى المدارس، واشتروا دراجات نارية، وربما اشترى البعض سيارات. وساعدت جامعتان في أعلى الطريق على توسيع آفاق المواطنين. ولكن، في معظم الأحيان لا يشعر الجيران الذين لا يمتلكون أراضي والذين يشاهدون أصدقاءهم يتحولون إلى الغنى بالقدر نفسه من التفاؤل بخصوص هذه التغيرات. وظهر أقارب طواهم النسيان منذ زمن طويل، ربما قدموا من المدن الكبرى ليزعموا الحق في أراض. وتنتشر في الصحف قصص أعمال عنف كثيرة عن الخلافات حول العقارات.

نشأ متعهد عقارات أعرفه في إحدى القرى التي تقع في الجوار، وعندما كان يبلغ من العمر 16 عاما عمل مساعدا في مواقع التعمير بعد أن انقطع عن الذهاب إلى المدرسة. ولديه الآن 75 شخصا يعملون تبعا له، ويقوم ببناء قصور للأغنياء الجدد، بالإضافة إلى اثنين من المنتجعات الشاطئية.

تحدث إليّ هذا الرجل عن آماله بخصوص أطفاله، فابنه الأكبر يريد أن يصبح طبيبا، وابنه الأوسط يخطط كي يكون مهندس طيران، وتريد ابنته أن تصبح معلمة. ويشعر الرجل بالإثارة بخصوص مستقبل الأبناء، وبالسعادة لمعرفته أنهم لن يضطروا لترك البلاد كي ينعموا بحياة أفضل.

لكنه، تحدث معي أيضا عن مخاوفه، فهو يشعر بالقلق بسبب أعمال العنف داخل القرى، ولذا لن يترك ابنه يذهب إلى المدرسة بمفرده. ويشعر بالقلق أيضا لأن ابنه يرفض الذهاب إلى المعبد. ويعرف أنه من المحتمل أن ينتقل أبناؤه إلى المدن، ويجعله ذلك حزينا. ويشعر بأنهم سوف يفقدون إحساسهم بالمجتمع. تعد التنمية ظاهرة معقدة، فقبل عقود من ترويجه لعبارته «دمار إبداعي» كان الاقتصادي النمساوي جوزيف سكومبيتر يشكل أفكاره عن التجديد والتغير التمزقي في «نظرية التنمية الاقتصادية».

ويعد التغيير التمزقي والدمار الإبداعي هو ما نعيشه في كل يوم، ففي المدن الكبرى يمكن أن تبدو التنمية الاقتصادية داخل الهند شيئا بسيطا للغاية. تزدهر الأنشطة التجارية، وتحتفي الطبقات الوسطى والعليا وتتحرك الدولة إلى الأمام.

ولكن في المناطق المحيطة هنا، حيث يغيب نمط للحياة ولا يعرف أي شخص ماذا سيحل مكانه، يصعب كثيرا معرفة ما الذي سوف يحدثه الازدهار الاقتصادي داخل الهند. عندما أنظر من أعلى تبدو لي التنمية رائعة ومخيفة، وأراها مصدر إلهام ومبعث كآبة. في بعض الأحيان يسألني أناس عما أشعر به إزاء التنمية الاقتصادية في الهند. وأقول لهم الحق، أقول إني لا أعرف. وأضيف أنني أشعر بتناقض بسبب انقضاء عالم عرفته عندما كنت طفلا، وتحول أعرف أنه حتمي وربما مطلوب. ولكني لم أسوِّ ذلك مع نفسي حتى الآن.

* أكاش كابور: كاتب عمود في إنترناشيونال هيرالد تريبيون، نشأ وعاش قرب بونديتشري، ويكتب حاليا كتابا عن الهند المعاصرة

* خدمة «نيويورك تايمز»