نشاط الاقتصاد الآسيوي يعزز الآمال به لقيادة الاقتصاد العالمي للانتعاش

خبير بنكي: آسيا هي التي تدفع العالم لأعلى وليس الولايات المتحدة > الصعود الصيني أوشك أن يضعها على قمة اقتصادات العالم

الخبراء الاقتصاديون توقعوا منذ أمد بعيد أن تتحول الصين التي تشهد قوتها تناميا سريعا إلى منافسا رئيسيا للولايات المتحدة (رويترز)
TT

على خلاف فترات التباطؤ في عجلة الاقتصاد العالمي السابقة، التي دوما ما تولت الولايات المتحدة دور المنقذ لقيادة العالم للخروج من هذه الكبوات، وتبعتها أوروبا وباقي العالم، إلا أنه للمرة الأولى، يأتي الدور القيادي للصين وباقي أرجاء آسيا. ويذكر أن الخبراء الاقتصاديون توقعوا منذ أمد بعيد أن تتحول الصين، التي تشهد قوتها تناميا سريعا، إلى منافس للولايات المتحدة، بل وتبرز عليها اقتصاديا رغم كبر الاقتصاد الاميركي على نظيره الصيني بقرابه الثلاثة أضعاف. وفي الوقت الذي ما زال الاقتصاد الأميركي ضخما، فإن التعافي الاقتصادي العالمي الناشئ يوحي بأن هذا التحول المتوقع منذ فترة بعيدة ربما يتحقق في وقت أقرب عما سبق توقعه. المؤكد أن مثل هذا التحول سيخلف تداعيات كبيرة على الولايات المتحدة وباقي العالم، حتى بعد استعادة الاقتصاد العالمي عافيته على نحو كامل. في هذا السياق، قال نيال سوس، الخبير الاقتصادي الأول لدى "كريدي سويس" في نيويورك: "أخذ مركز الجاذبية الاقتصادي في التحول منذ فترة، لكن هذا الركود يشكل نقطة تحول. إن آسيا هي التي تدفع العالم لأعلى، وليس الولايات المتحدة، ولم يسبق لمثل هذا الأمر أن حدث من قبل". ويشهد الاقتصاد الصيني الذي تهيمن عليه الحكومة، صعودا قويا في أعقاب تقديم المصارف الصينية أكثر من تريليون دولار في صورة قروض خلال النصف الأول من العام، علاوة على برنامج تحفيز حكومي بقيمة 600 مليار دولار تقريبا. ورغم أن الفوائد المترتبة على هذه الإجراءات واضحة، يثير بعض الخبراء الاقتصاديين التساؤلات حول ما إذا كانت الصين ترسي بذلك الأساس لنمو مستديم أم أنها تعزز فحسب من قدرتها التصديرية رغم ترشيد المستهلكين الغربيين نفقاتهم على نحو أكبر. في هذا الصدد، أوضح كينيث إس. روغوف، بروفيسور الاقتصاد بجامعة هارفارد، أن "التساؤل الأكبر يتعلق بما سيحدث لاحقا. إذا لم يعد المستهلكون في الولايات المتحدة وأوروبا إلى سابق عهدهم، لست على ثقة من أن آسيا لديها خطة بديلة". إلا أن الطلب النشط بين المستهلكين والشركات الصينية يعد أحد الأسباب وراء ارتفاع أسعار النفط بمقدار الضعف ليتجاوز 70 دولارا للبرميل منذ مطلع هذا العام، ومن المحتمل أن تمضي الصين قدما في شراء الديون الأميركية مع اقتراض واشنطن بشدة لتمويل برامجها المتنوعة المرتبطة بالتحفيز الاقتصادي والإنقاذ المالي.

إضافة إلى ذلك، بدأت الولايات المتحدة تتخلى عن مكانتها كمستهلك حيوي بالنسبة للدول المعتمدة بشدة على الصادرات مثل ألمانيا واليابان. الملاحظ أن الصين احتلت مكانة الولايات المتحدة كشريك تجاري أكبر لليابان خلال النصف الأول من عام 2009، في الوقت الذي تتطلع جهات التصنيع الأوروبية شرقا، بدلا من الغرب. من جهته، قال جينز نيغال، رئيس قسم الشؤون الدولية داخل "اتحاد المصدرين الألمان": "إن ما نخسره في التجارة عبر الأطلسية مع الولايات المتحدة، نكسبه في الصين". إلا أنه على المدى القريب ينبغي أن تستفيد الولايات المتحدة من الصعود الآسيوي، مع شروع الاقتصاد الأميركي أخيرا في النمو مجددا، مثلما هو متوقع في النصف الثاني من عام 2009. من ناحيته، قال سوس: "توحي موجات النهوض النشطة بالخارج، خاصة في شرق آسيا، بأن الواردات والصادرات الأميركية ستتحسن قريبا". الأسبوع الماضي، أشارت شركة "هيلويت ـ بكاراد" إلى أن النمو الاقتصادي الصيني الكبير يشكل نقطة مضيئة نادرة في تقرير العائدات الباهت الخاص بها. في تلك الأثناء، من الملاحظ أن إجمالي الصادرات الأميركية إلى الصين تشهد ارتفاعا بالفعل، حيث وصلت إلى 5.5 مليار دولار في يونيو (حزيران) من 4.1 مليار دولار في يناير (كانون الثاني). من جهته، قال روبرت بروسكا، من "إف إيه أو إكونوميكس" في نيويورك: "الأسعار متقلبة، لكن التوجه العام واضح. إن ذلك يتعارض بشدة مع ما يحدث في اليابان، حيث ما تزال الصادرات الأميركية تنخفض، بينما يختلف الوضع مع الصين". بطبيعة الحال، هناك عوامل أخرى لعبت دور مهم في مساعدة الاقتصاد العالمي في البدء في الاستقرار، منها تريليونات الدولارات التي قدمتها المصارف المركزية لدعم أسواق الاعتماد المتجمدة، وأموال الإنقاذ والإعانات الموجهة للمؤسسات المالية الكبرى وجهات التأمين وشركات السيارات. بيد أن المحرك وراء نمو الطلب المستقبلي تحول من الحكومة إلى القطاع الخاص، وما زال الأميركيون قلقين حيال العودة مجددا إلى بذخهم السابق. أما الاستهلاك الآسيوي، فمن المتوقع أن يصاب ببعض البطء. وإذا تباطئ النمو الصيني، الأمر الذي يخشى بعض الخبراء حدوثه في النصف الثاني من عام 2009، فإن جهود الولايات المتحدة للخروج من الركود قد تواجه صعوبات أكبر بكثير. يذكر أنه في أعقاب الركود الذي حدث عامي 2001/2002 وتباطؤ عجلة النمو الاقتصادي في مطلع التسعينات، عمل الاقتصاد الأميركي بمثابة قاطرة الاقتصاد العالمي، حسبما أوضح مايكل سوندرز، رئيس وحدة الأبحاث الاقتصادية الأوروبية في "سيتي غروب". وأضاف أنه في ذلك الوقت، افتقرت الصين والدول الآسيوية الأخرى إلى احتياطيات نقدية ضخمة بمقدورها دعمها حال حدوث ركود. إلا أنه على مدار العقد الماضي، تمتعت الصين بفوائض تجارية هائلة مع الغرب، وتبلغ الاحتياطات النقدية الأجنبية لديها 2.13 تريليون دولار، الأمر الذي يعزز مكانتها كقوة اقتصادية صاعدة بسرعة. يذكر أن "سيتي غروب" رفع مؤخرا تقديره للنمو الاقتصادي الصيني السنوي إلى 8.7% عام 2009 من 8.2%، وإلى 9.8% العام القادم من 8.8%. في الوقت الذي يتوقع خبراء اقتصاديون أمثال سوس أن تمتد فوائد النمو إلى الولايات المتحدة في غضون فترة قصيرة، فإن تأثيرات النمو واضحة بالفعل في أوروبا. بالفعل، أصاب الاقتصادان الفرنسي والألماني معظم الخبراء الاقتصاديين بالصدمة هذا الشهر بتقديمهما أداء إيجابي خلال الربع الثاني. من جهته، أصدر "دويتش بانك"، المحافظ عادة، تقرير بعنوان "إجمالي الناتج الداخلي بمنطقة اليورو في الربع الثاني: هل صنع في الصين؟" في الوقت الحاضر، يبدو أن الإجابة نعم. في هذا الإطار، قال غيليز مويك، الخبير الاقتصادي البارز لدى "دويتش بانك" في لندن: "إنه أمر مذهل تماما، لأن آسيا عادة ما لا تضطلع بمثل هذا الدور الكبير في الصادرات أو الإنتاج الأوروبي". واستطرد مويك موضحا أن الصادرات الفرنسية إلى الصين والاقتصاديات الأخرى بشرق آسيا ارتفعت بنسبة 18.7 في المائة خلال الربع الثاني، طبقا للبيانات الصادرة عن هيئات الجمارك، وذلك في تحول حاد عن الانخفاض البالغة نسبته 16.2 في المائة المسجل في الربع السابق. بوجه عام، ارتفع مجمل الصادرات إلى المنطقة من الدول التي تستخدم عملة اليورو والبالغ عددها 16 دول بنسبة 6.3 في المائة في الربع الثاني، في تحول عن انخفاض بنسبة 6.2 في المائة خلال الربع الأول. في الوقت الذي أبدت الدول الأوروبية الغربية تخوفا أكبر حيال الشروع في برامج إنفاقات كبرى بسبب العجوز المتنامية لديها بالفعل، تعرضت المصارف الأوروبية لضربات قاصمة لأرصدتها من الديون الأميركية الرديئة. أما الصين، فلا تواجه أي من العقبتين. خلال النصف الأول من عام 2009، حققت الصين رقما قياسيا في القروض الجديدة التي قدمتها بلغ 1.1 تريليون دولار، ما أثار المخاوف من خلق فقاعة على المدى البعيد. كما ساعدت الخطوات التي اتخذتها الصين جيرانها على زيادة إنتاجهم الصناعي بصورة بالغة بعيدا عن المستويات المنخفضة التي بلغها خلال الركود. وصل الإنتاج الصناعي لمنخفض شديد في أواخر عام 2008 ومطلع عام 2009، إلا أنه قفز بنسبة 28 في المائة في كوريا و26 في المائة في تايوان. في يوليو (تموز)، ارتفع الإنتاج الصناعي الأميركي للمرة الأولى منذ ديسمبر (كانون الأول) 2007، لكنه ما زال أكثر بنصف من المائة فقط فوق المستوى المنخفض الذي بلغه في يونيو (حزيران). في هذا الصدد، قال سيمون جونسون، الخبير الاقتصادي الرئيس السابق في صندوق النقد الدولي، وحاليا زميل "معهد بيترسون للاقتصاديات الدولية": "ما تزال آسيا ضئيلة نسبيا على مستوى العالم، لكنها تعكس كيف يتغير العالم، وكيف تترجم القوة الاقتصادية، بطبيعة الحال، إلى قوة سياسية. يمكنك استغلال هذه القوة في الفوز بأصدقاء والتأثير على الأفراد، مثلما تفعل الصين بالفعل في أفريقيا وأميركا اللاتينية".