المؤسسات المالية الضخمة التي تلقت أموال خطة الإنقاذ تحد من خيارات المستهلك

دولار من بين كل 10 دولارات من الودائع الأميركية لدىجي بي مورغان تشاس

سلسلة الاندماجات المعدة فيدراليا ادت إلى دخول البنوك المتعثرة ضمن الشركات الأكثر استقرارا (ا.ف.ب)
TT

عندما اندلعت أزمة الائتمان العام الماضي، ضخ المنظمون الفيدراليون عشرات المليارات من الدولارات في المؤسسات المالية الرائدة في البلاد لأن تلك البنوك كانت من الضخامة بحيث خشي المسؤولون من أن يؤدي إفلاسها إلى تدمير النظام المالي بأسره.

لكن تلك البنوك باتت اليوم أضخم حجما. ربما تكون تلك الأزمة قد تحولت لصالح العديد من تلك البنوك التي تهيمن على التمويل الأميركي. وقد أدت سلسلة من الاندماجات المعدة فيدراليا إلى دخول البنوك المتعثرة ضمن الشركات الأكثر استقرارا. وسمحت للناجين بالخروج من الأزمة بمواقف سوق أكثر قوة منحتها سيطرة أكبر على إقراض المستهلك واحتمالية أكبر للربح.

ويمتلك جي بي مورغان تشاس وهو مزيج من بعض مؤسسات وول ستريت الكبيرة دولارا من بين كل 10 دولارات من الودائع الأميركية. وكذلك بنك أوف أميركا الذي استحوذ على ميريل لنش وتمتلكه الحكومة بصورة جزئية نتيجة للأزمة، وبنك ويلز فارغو أضخم بنك على الساحل الغربي. تلك البنوك الثلاثة إضافة إلى البنوك التي أنقذتها الحكومة وبنك سيتي غروب الذي تمتلكه تصدر واحدا من بين كل رهنين وحوالي اثنين من بين ثلاثة كروت ائتمانية.

وبعد عام من السقوط الوشيك للنظام المالي في سبتمبر (أيلول) الماضي، أعادت الحكومة الفيدرالية صياغة الكيفية التي يحصل من خلالها الأميركيون على قروضهم العقارية والقروض الطلابية والأنواع الأخرى من الائتمان، وموقف رواتب المديرين التنفيذيين. لكن أيا من عواقب الأزمة المالية لم يثر انزعاج كبار المنظمين الفيدراليين أكثر من ازدياد حجم وعلاقات البنوك التي كانت على وشك الإفلاس البنوك أكثر من ذي قبل.

وقالت شيلا سي باير، رئيسة شركة فيدرال ديبوست إنشورانس: «إنها تأتي على رأس قائمة الأمور التي تحتاج إلى الإصلاح. لقد تسببت الأزمة، وازدادت سوءا بسببها أيضا».

وتتركز مخاوف المنظمين الفيدراليين على أمرين الأول أن المستهلكين سيخشون من الخيارات القليلة للخدمات وأن البنوك الكبرى سوف تعتقد بأنها تحظى دائما بدعم الدولة إذا ما تعقدت الأمور. ويعني هذا الضمان الجريء، إمكانية عودة الشركات الكبرى إلى سلوك المخاطرة الذي أدى إلى الأزمة إذا ما تبينوا أن المسؤولين الفيدراليين سينهون تلك الفوضى.

تلك المشكلة التي تعرف بـ«إمكانية العودة إلى سياسات الإقراض السابقة» تعد على نحو ما السبب وراء إحكام المسؤولين الحكوميين قبضتهم على البنوك التي تحصل على أموال الإنقاذ ـ فتراقب رواتب المديرين التنفيذيين وتراجع مبيعات الأقسام الرئيسة ـ وتقود جهود إدارة الرئيس أوباما لخلق نظام تنظيمي جديد لمنع وقوع أزمة أخرى. تلك الخطة ستفرض معايير رأس مال أعلى على المؤسسات الكبرى وتمنح الحكومة سلطات السيطرة على قطاع كبير من الشركات المالية المتعثرة لإنهاء أعمالهم بصورة صحيحة.

وقال تيموثي غيتنر وزير الخزانة في مقابلة معه: «تتمثل السياسة العامة المهيمنة وسياسة الإصلاح الملحة في التعامل مع مجازفات الإقراض السابقة الذي أحدثه ما فعلناه وما كان علينا القيام به وقت الأزمة لإنقاذ الاقتصاد».

ما أثار قلق المستهلكين هو أن خطة الإنقاذ حرفت الصناعة المالية لصالح الأضخم والأقوى، حيث تظهر البيانات الواردة من شركة تأمين الودائع الفيدرالية أن البنوك الكبرى لديها القدرة على اقتراض المزيد من الأموال بصورة أرخص من نظرائها لأن الدائنين يفترضون أن تلك الشركات لا تواجه خطر الإفلاس. وقد يؤدي عدم التوازن هذا في النهاية إلى مواجهة المنافسين الصغار لضغوط كبيرة. وبالفعل يواجه المستهلكون خيارات أقل وأسعارا أعلى بالنسبة للخدمات المالية وهو ما يحذر منه بعض المسؤولين الحكوميين.

وقد كانت تلك الاندماجات من صنع الحكومة على نطاق واسع. حيث دفع المنظمون مقرضو الرهون العقارية الخاسرون وشركات وول ستريت إلى أحضان البنوك الكبرى وسلمتها مليارات الدولارات لضمان إتمام تلك الصفقات. وقالوا إنهم رتبوا بنوع من التردد تلك الزيجات، وأن هدفهم كان تخفيف الصدمة التي أحدثتها الانهيارات المالية والحيلولة دون تقوض الثقة في النظام المالي الأميركي.

وقد لوح المنظمون بالتشريعات طويلة الأمد لإنجاح تلك الصفقات. وقد سُمح لكل من جي بي مورغان تشايس وبنك أوف أميركا وويلز فارغو بالاحتفاظ بأكثر من 10 في المائة من الودائع الأميركية على الرغم من الحكم الذي يحظر ذلك. وتشير وثائق البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى السماح لتلك البنوك بالحصول على حصة سوق، في عدد من مناطق المدن الرئيسة متجاوزة في ذلك الخطوط الإرشادية التي تسمح بها وزارة العدل.

وقال مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في مودي إكونومي دوت كوم: «كان هناك اندماج بارز بين البنوك الكبرى أدى إلى حالة من الخواء في نظامنا البنكي، ولن يتبقى سوى مؤسسات ضخمة وبعض المؤسسات الصغيرة، لكن الأمر سيكون صعبا بالنسبة للشركات المتوسطة أن تزدهر. لكن احتكار القلة بدأ يضيق».

خيار المستهلك:

بدأ المسؤولون الفيدراليون وجماعات الدفاع عن المستهلك في دراسة تأثير الأزمة على المستهلكين، لكن هناك بعض الأدلة على أن الشركات المالية المندمجة تخلق تحديات بالنسبة للأميركيين العاديين. حيث يشير البحث الذي نشره بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس إلى أنه خلال الربع الماضي رفعت البنوك الأربعة الكبرى رسومها فيما يتعلق بالودائع بحوالي 8 في المائة، أما البنوك الصغيرة التي تحاول البقاء في المنافسة فقد خفضت رسومها بنسبة 12 في المائة.

وقال ريتشارد فيشر رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس: «لن يقول أحد منا دمروا تلك المؤسسات، لكنك ترغب في خلق نظام يسمح للآخرين بالنمو حيث لا يملك أحد قوة احتكارية على حساب الآخرين ممن قد يكونون قادرين على تقديم خدمات مالية للمستهلكين».

ومن الطبيعي أنه عندما يواجه المستهلك زيادة في الأسعار فإنه يتجه لمصدر آخر. لكن مسؤولي الصناعة قالوا إن الأمر لا يكون بتلك السهولة عندما يتعلق الأمر بالخدمات المالية.

وتمتلك بنوك ويلز فراغو وبنك أوف أميركا وجي بي مورغان تشيس في سانتا كروز بولاية كاليفورنيا ثلاثة أرباع سوق الودائع، فقد حصل كل بنك على عشرات المليارات من الدولارات من أموال خطة الإنقاذ لمساعدتها في ابتلاع البنوك الأخرى. أما بقية السوق الذي يتكون من مجموعة قليلة من البنوك المجتمعية الصغيرة فلا يمكنها مسايرة قوى السوق والبنوك الكبيرة. وقال رؤساء البنوك الصغيرة بدلا من ذلك إنهم يجب أن يقدموا خدمات أكثر شخصية وأن يتبنوا تغيرات تكنولوجية بسرعة أكبر لجذب العملاء. ويعترف أنها ربما تكون معركة عنيفة.

وقال ريتشارد هوفيستتر، رئيس بنك لايتهاوس، الذي يوجد فرعه الوحيد في سانتا كروز: «حقا إنهم جيدون في الطريقة التي يبيعون بها والتي يُحكمون بها شباكهم حولك. فلدى عملائهم العديد من المعاملات المالية المتعلقة بويلز فارغو. فإذا ما كنت تملك حسابا في البنك وبطاقة صرف آلي وكارت ائتمان وخط أسهم ونظام تسديد فواتير إلكترونية سيكون من الصعب تغيير ذلك كله».

وقد رفض كل من ويلز فارغو وجي بي مورغان تشايس وبنك أوف أميركا التعليق. وحينما كان البنك الفيدرالي يرتب للاندماج بين ويلز فارغو واتشوفيا خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قام بتحديد ست مناطق أخرى في المدينة يمكن للشركة المندمجة خلالها أن تتجاوز الخطوط الإرشادية التي وضعتها وزارة العدل أو الاحتفاظ بأكثر من ثلث ودائع المنطقة. لكن البنك المركزي أشار إلى أن المنافسة في كل من هذه المناطق ستكون كافية للسماح للشركة المندمجة بالنجاح، وهو ما أظهرته الوثائق.

وأشار كادمن فاين، رئيس البنوك المجتمعية الأميركية المستقلة إلى أن التعليقات تكشف معاملة الحكومة الانتقائية للبنوك الكبرى. وعبر عن شكوكه في ما إذا كان البنك الفيدرالي سيوافق على اندماج البنوك المجتمعية إذا ما واصلت الشركة المندمجة سيطرتها على ثلث السوق.

وقال: «سيعمل تفضيل نوع واحد من المؤسسات المالية على أخرى على تقويض السوق، ولن يكون هناك سوق حر، بل سوق تفضله الدولة. كما يكون هناك سوق حر مرة أخرى ما استمرت الحكومة في انتقاء الفائزين والخاسرين.

سياسات الإقراض:

قبل الأزمة اعتقد العديد من الدائنين أن المؤسسات الكبرى كانت استثمارات آمنة إلى حد ما لأنها كانت متنوعة ومن ثم فهناك صعوبة في فشلها. وإذا ما ناضل مجال واحد من الأعمال فإن كل بنك لديه مجالات أخرى للحفاظ على مكانته، وحتى إذا ما التهمت النيران المنزل فلن تتقدم الحكومة لتغطي الخسائر.

ومع ارتياح المديرين التنفيذيين لهذا الاعتقاد جاءت المجازفة مقلقة من القرارات الاستثمارية حيث اقترضت وول ستريت لتحقيق أرباح من دون وجود احتياطيات كافية لتغطية الخسائر المحتملة. وكان السعي وراء الأرباح يأتي قبل الأمان والحكمة.

وقد عززت خطة الإنقاذ الفيدرالية من الاعتقاد بأن الحكومة ستنقذ البنوك الكبرى مهما كانت كارثية قراراتها.

واليوم، وبينما لا تزال ذكريات الأزمة ماثلة في الأذهان يمنح الدائنون المؤسسات الكبرى المزيد من المعاملة التفضيلية لأنهم يعرفون أن الحكومة تدعمهم، على حسب قول مسؤولي شركة تأمين الودائع الفيدرالية.

وتقترض البنوك التي يبلغ رأس مالها أكثر من 100 مليار دولار بفائدة تبلغ 0,34 في المائة وهو أقل بكثير من باقي البنوك العاملة في الصناعة. وتشير شركة تأمين الودائع الفيدرالية إلى أنه في عام 2007 كانت تلك الميزة 0,08% من النقاط. ويمكن لتلك الاختلافات أن تسبب تباينات كبيرة في تكاليف الاقتراض بالنظر إلى كميات المال الضخمة الموجودة في تلك البنوك.

وقد تحدثت العديد من البنوك الكبيرة عن زيادة في الأرباح في الربع الأخير، من بين تلك البنوك جي بي مورغان تشاس وبنك أوف أميركا حيث تشهد تلك البنوك ازدهارا فيما تعاني عدد من البنوك المجتمعية والإقليمية. وقد أعلنت ما يقرب من 30 مؤسسة مالية صغيرة إفلاسها منذ الأول من يوليو (تموز) من بينها البنك المجتمعي في نيفادا وبنك كولونيال الكائن في ألاباما الأسبوع الماضي.

ويبدي المنظمون قلقهم من أنه إذا ما استمرت الحكومة في دعم الشركات الكبيرة على الصغيرة فإن هذا السلوك المتهور يمكن أن يعود إلى وول ستريت. وتستهدف خطة الإصلاح التنظيمية في الإدارة هذه المشكلة عبر معاقبة البنوك عبر كونها كبيرة. وسوف يتطلب ذلك من المؤسسات الكبرى امتلاك الكثير من المال وأن تدفع رسوما تنظيمية أكبر إضافة إلى السماح للحكومة بتسييلهم في صورة منتظمة إذا ما أوشكوا على الإفلاس. كما تسعى الخطة أيضا إلى دعم القنوات غير التقليدية لتمويل لخلق منافسة للبنوك الكبرى. وقال غيتنر إذا ما وافق الكونغرس على المقترح فسوف نواجه تلك الإجراءات. ويناقش الاقتصاديون ما إذا كانت تلك الخطوات كافية للتعامل مع البنوك الضخمة التي من غير المتوقع أن تفلس. فيقول البعض على سبيل المثال إن تحديد كمية معينة من رأس المال بالنسبة للمؤسسات الكبرى كاحتياطات بها سيكون صعبا. ويعترف غيتنر بتلك الصعوبة لكنه قال إن الإدارة سوف تميل باتجاه سياسة أكثر صرامة. وعند ضمها جميعا فإن توليفة الإصلاحات موازنة قوية للبنوك الكبرى. وقال: «إن نظامنا لن يكون تحديدا أكثر تركيزا منه اليوم، ومن الأهمية بمكان يذكر أنه حتى الآن فإن نظامنا يظل أقل تركيزا وسوف يستمر في تقديم المزيد من الخيارات بالنسبة للمستهلكين والأعمال أكثر من أي اقتصاد آخر في العالم».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»