أوروبا الشرقية تخشى حقبة جديدة من الهيمنة الروسية

اعتماد المنطقة على إمدادات الغاز من موسكو يزيد الضغط عليها

خط أنابيب «غازبروم» الجديد سيزيد من هيمنة روسيا في أوروبا الشرقية («نيويورك تايمز»)
TT

في ظل خطة طموحة لبناء خط أنابيب جديد، يمر أسفل بحر البلطيق، تخلق شركة الغاز الطبيعي الروسية العملاقة «غازبروم» صداعا سياسيا بين شرق وغرب أوروبا. في الوقت الذي يحمل خط الأنابيب الروسي ـ الألماني الجديد فوائد كبيرة لغرب أوروبا من حيث إمدادات الطاقة، يخشى قادة وسط وشرق أوروبا أن يسفر هذا الخط عن بداية حقبة جديدة من الهيمنة الروسية على غرار ما كان عليه الحال في عهد الكتلة السوفياتية السابقة، تقوم هذه المرة على نفوذ موسكو بمجال الغاز الطبيعي. المعروف أن روسيا تتمتع بثروة كبرى بمجال الغاز الطبيعي وشبكة اتصالات على الصعيد الشخصي بالغة الضخامة على نحو يثير الدهشة، ما مكنها من إحداث انقسام في صفوف الاتحاد الأوروبي الذي تعهد أعضاؤه على نحو جماعي لحماية أمنهم. ويجري حاليا نقل الغاز الطبيعي الروسي في خطوط أنابيب عبر أوروبا الشرقية وصولا إلى أوروبا الغربية. وحال قطع موسكو إمدادات الغاز الطبيعي عن إحدى جاراتها في الشرق للضغط عليها، يترك هذا الإجراء تأثيرا أقوى داخل الدول الغربية الأكثر ثراء الواقعة في الغرب، حيث يثير الأمر مظاهرات حاشدة. إلا أن خط أنابيب التدفق الشمالي (نورث ستريم) الجديد من شأنه تبديل هذه المعادلة، فمن خلال انتقاله لمسافة تزيد على 750 ميلا تحت الماء، من فيبورغ في روسيا إلى غريفسفالد في ألمانيا، متجاوزا بذلك دول الاتحاد السوفياتي السابق والأخرى التي كانت خاضعة لنفوذه، توفر روسيا بذلك خط إمدادات منفصل إلى الغرب. وعليه، يعتقد الكثير من الخبراء الأمنيين ومسؤولي دول أوروبا الشرقية أن ذلك سيزيد احتمالات إقدام موسكو على ممارسة سياسات تعمد إلى استغلال بطاقة إمدادات الغاز الطبيعي تجاه جيرانها. في هذا الصدد، علق زبغنيو سيمياتكوسكي، الرئيس السابق لجهاز الخدمة الأمنية البولندي، بقوله «بالأمس الدبابات، واليوم النفط». إلا أن روسيا تطرح القضية من منظور مغاير، حيث أعلنت «غازبروم»، التي تمد أوروبا بـ28 في المائة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، أن المشروع البالغ تكلفته 10.7 مليار دولار تجاري، وليس إستراتيجي. من جهته، قال ماتياس فارنيغ، الرئيس التنفيذي لمشروع خط أنابيب «نورد ستريم» الذي كان ينتمي في السابق لألمانيا الشرقية، إن مخاوف أوروبا الشرقية لا أساس لها، مشددا على أن «السور تحطم منذ 20 عاما». ونوه بأن أوروبا بحاجة إلى إمدادات إضافية من الغاز الطبيعي لتعويض تناقص الإنتاج من بحر الشمال، وتعد روسيا المرشح الأمثل لسد هذا النقص. من ناحيتهم، صور المسؤولون الأوروبيون المشروع باعتباره أداة من شأنها المساعدة في توحيد صفوف أوروبا وتعزيز أمنها الجماعي بمجال الطاقة. يذكر أن المفوضية والبرلمان الأوروبيين أقرا المشروع عام 2000، وعاودا التأكيد على موافقتهما عام 2006. من جهته، قال سباستيان ساس، الممثل الرئيس لمشروع «السيل الشمالي» لدى الاتحاد الأوروبي، إنه «طالما أن هناك سياسة مشتركة بمجال الطاقة، نحن نشكل جزءا منها على أعلى مستوى من الأولوية». على الجانب الآخر، أعرب مسؤولون بدول وسط وشرق أوروبا عن مخاوفهم من أنه في الوقت الذي ستتدفق العائدات من وراء خط الأنابيب، وهو عبارة مشروع مشترك بين «غازبروم» وثلاثة شركات من ألمانيا وهولندا، على المؤسسات الروسية والألمانية المعنية، فإن الدول التي قبعت لفترة طويلة تحت المظلة السوفياتية ستصبح أكثر عرضة للابتزاز من جانب موسكو على صعيد الطاقة.

في الواقع، هناك سوابق على هذا الأمر، فعلى سبيل المثال، أشارت منظمة بحثية تتبع وزارة الدفاع السويدية إلى 55 حالة قطع لإمدادات الطاقة لشرق أوروبا انطلاقا من دوافع سياسية منذ تفكك الاتحاد السوفياتي. حتى الآن، اقتصر استغلال روسيا الغاز الطبيعي كأداة لتنفيذ السياسة الخارجية على فرض إجراءات حظر قصيرة الأمد، الأمر الذي يوعزه المحللون في جزء منه إلى أن مثل هذا الإجراء يعد ضربة بالغة القسوة. في يناير (كانون الثاني) الماضي، على سبيل المثال، أغلقت روسيا خط أنابيب يمر بأوكرانيا، جراء اندلاع خلاف بين البلدين حول التسعير ورسوم التعريفة. تسبب قطع الإمدادات الروسية في حرمان مئات الآلاف من المنازل في شرق أوروبا من التدفئة وإغلاق مئات المصانع طيلة ثلاثة أسابيع. والملاحظ أن هذا الخلاف الثنائي اتسعت رقعة تداعياته لتشمل مختلف أرجاء القارة الأوروبية، ما أثار غضب حكومات غربية قوية وكبد روسيا كثيرا من المال. من شأن خط الأنابيب الجديد ومشروع آخر مشابه في جنوب أوروبا يحمل اسم «السيل الجنوبي»، يمر تحت البحر الأسود، تحصين أوروبا الغربية ضد تداعيات مثل هذه الإجراءات وتقليص التكاليف السياسية والمالية التي تتكبدها موسكو جراء الإقدام على ذلك. من ناحيته، أعرب زبغنيو برزيزنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد إدارة كارتر، عن اعتقاده بأن التمتع بالقدرة على وقف إمدادات خط أنابيب أو آخر «حسبما شاء الهوى» يزيد من احتمالات تعرض شرق أوروبا لقطع إمدادات الطاقة عنه. ووصف مشاريع خطوط الأنابيب مبادرة روسية كبرى «لفصل وسط أوروبا عن غربها فيما يتعلق بالاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية». وأضاف «يعد أبناء دول وسط أوروبا، وهم الأعضاء المكبوتين في الاتحاد السوفياتي السابق، الأكثر قلقا حيال هذا الأمر». بالنسبة لأبناء شرق أوروبا، تثير قضية خط الأنابيب ذكريات عميقة حيال حقبة مظلمة من الاحتلال والتعاون مع العدو المحتل، وتحول الأمر إلى جدال بشأن حقيقة النوايا الروسية إزاء الأراضي التي حكمتها موسكو منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سقوط سور برلين. في خطاب مفتوح إلى الرئيس أوباما في الربيع الماضي، أوضح 23 من رؤساء دول ومثقفي دول أوروبا الشرقية، بينهم الرئيس التشيكي السابق، فاكلاف هافيل، والرئيس البولندي السابق، ليخ فاليسا، أنه في أعقاب الحرب التي وقعت في جورجيا العام الماضي، أعلنت روسيا عن إقامة «نطاق من المصالح المتميزة» تشمل بلادهم. وأشاروا إلى أنه بسيطرتها على خطوط أنابيب الغاز، «عادت روسيا إلى سابق عهدها كقوة معدلة تسعى لتنفيذ أجندة تعود إلى القرن الـ19 بأساليب تنتمي للقرن الـ21». من ناحيته، قارن راديك سيكورسكي، وزير الخارجية البولندي، بين اتفاق خط الأنابيب المبرم بين روسيا وألمانيا واتفاقية روبنتروب ـ مولوتوف الموقعة عام 1939 التي قضت بتقسيم وسط أوروبا إلى مناطق للنفوذ الألماني والسوفياتي. وأضاف: «اتخاذ القرار، ثم استشارتنا بعد ذلك لا يتوافق مع مفهومنا للتضامن». الملاحظ أن نواقيس الخطر التي تصاعدت أصواتها في الشرق تركت أصداء لها في الغرب، حيث سعت موسكو لتنفيذ سياسة فاعلة تقوم على مبدأ «التوزيع والقهر». في هذا الصدد، قالت أنجيلا ستينت، مديرة «مركز الدراسات الأوروأسيوية والروسية وشرق الأوروبية» التابع لجامعة جورج تاون في واشنطن «تعد روسيا واحدة من أكثر القضايا إثارة للانقسام داخل الاتحاد الأوروبي. الواضح أن روسيا و«غازبروم» يتعاملان على نحو جيد للغاية من الدول الفردية». الملاحظ أن شبكة من الشركات المتعلقة بمجال الغاز الطبيعي والنفط، بجانب شخصيات ذات نفوذ على صلة بموسكو، تمكنت من تيسير عملية التعاون مع روسيا. وربما تتجسد أقوى الأمثلة على ذلك في المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، الذي اعتمد على التجارة كأداة لتحقيق تعاون بين روسيا وأوروبا. من ناحيته، أكد زينو باران، خبير شؤون الطاقة بالمنطقة الأوروأسيوية بمعهد هودسون في نيويورك، أن شروردر اضطلع بدور الوساطة في الاتفاق الأخير، مضيفا أنه «من دونه، لم يكن هذا الاتفاق ليتحول إلى واقع قط». جدير بالذكر أن حكومة شرورد أبرمت اتفاق خط الأنابيب الجديد، بما في ذلك تقديم ألمانيا 1.46 مليار دولار كضمان قرض للمشروع، قبيل أسابيع من هزيمته في انتخابات عام 2005. بعد بضعة أسابيع، تولى شرودر منصب رئيس مشروع نورث ستريم (التدفق الشمالي). وقال إنه قرر قبول الوظيفة بعد رحيله عن منصبه الرسمي، وأنه لم يكن على علم بمسألة ضمان القرض.

من ناحية أخرى، عمل فارنيغ، الرئيس التنفيذي للمشروع، ضابطا برتبة كابتن في إدارة الاستخبارات الأجنبية التابعة للشرطة السرية في ألمانيا الشرقية في الثمانينات. وخلال الفترة ذاتها، عمل فلاديمير بوتين، الذي تولى فيما بعد رئاسة روسيا ثم منصب رئيس الوزراء بها، عميلا لدى جهاز الاستخبارات السوفياتية، المعروف اختصارا باسم «كيه. جي. بي»، في دريسدن بألمانيا الشرقية. في الوقت الذي أثار ماضيه تكهنات حول وجود صلات غامضة بين المشروع وعلاقات توطدت بين أفراد خلال حقبة الحرب الباردة، أكد فارنيغ أن عمله السابق بمجال الجاسوسية لا صلة له بالنقاش الدائر حول مشروع خط الأنابيب اليوم. الملاحظ وجود صلات أخرى أكثر وضوحا، فعلى سبيل المثال، تقاضى رئيس وزراء فنلندا السابق، بافو ليبونين، أموالا من مشروع «نورث ستريم» مقابل توفير تصاريح. كما أن ساس، مسؤول الربط الخاص بالمشروع في بروكسل، عمل مساعدا لليبونين. عام 2008، عرضت «غازبروم» على رومانو برودي، رئيس وزراء إيطاليا آنذاك، منصب رئيس مشروع «السيل الجنوبي»، لكنه رفض. الآن، بات بناء خط الأنابيب الجديد أمرا محتوما على ما يبدو، ما دفع الفرنسيين لاتخاذ قرار بمحاولة الاستفادة من الموقف، حيث يسعون للانضمام إلى مجموعة الشركات المنفذة للمشروع (كونسرتيوم) عبر شركة «غاز دي فرانس»، وإلا، سيضطرون إلى شراء الغاز الطبيعي من وسيط ألماني. من جهتهم، يعتقد محللون أن التنافس الفرنسي ـ الألماني يسلط الضوء على كيف أن السعي للفوز بصفقات تجارية مربحة مع روسيا أجج من تنافسهم على الهيمنة الاقتصادية والسياسية على الصعيد الأوروبي. المؤكد أن اعتبارات الوحدة الأوروبية، مثل مخاوف دول شرق أوروبا، تأتي في مرتبة ثانوية في الصراع المحتدم حول الموارد من قبل جهات وطنية وتجارية. ويجسد ذلك في مجمله التوجهات الرأسمالية القائمة على السوق الحرة التي تمكنت روسيا فيما بعد الحقبة الشيوعية من استغلالها بذكاء، حسبما أوضح بيير نويل، بروفسور بجامعة كامبريدج وزميل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. وأضاف: «أنه اقتصاد تنافسي رأسمالي مفتوح. وعليه، يبني الناس خطوط الأنابيب التي يرغبون في بنائها».

* خدمة «نيويورك تايمز»