الفقراء الجدد.. جيل جديد قد يخلفه الركود الاقتصادي

ملايين العاطلين يواجهون ندرة في الوظائف لسنوات طويلة

قد تخلف الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد الأميركي جيلا جديدا من الفقراء
TT

على الرغم من بوادر الانتعاش التي تظهر في الاقتصاد الأميركي، تستمر الخسائر البشرية الناتجة عن الركود الاقتصادي في الارتفاع، حيث يبقى الملايين من الأميركيين من دون وظائف ولا مدخرات، مع قرب انتهاء إعانة البطالة التي يحصلون عليها.

ويخشى اقتصاديون من أن الانتعاشة الاقتصادية الوليدة سوف تترك وراءها عددا أكبر من المواطنين، بالمقارنة مع ما حدث في حالات الركود الاقتصادي السابقة، حيث سيعجز الاقتصاد عن خلق وظائف بأعداد تكفي لاستيعاب العدد غير المسبوق من العاطلين عن العمل، على المدى الطويل.

وقد يطلق عليهم الفقراء الجدد، وهم المواطنون الذين اعتادوا لوقت طويل على حياة الطبقة المتوسطة، ويعتمدون حاليا للمرة الأولى في حياتهم على إعانات حكومية، ومن المحتمل أن يستمر ذلك لأعوام أخرى.

ومع ذلك، فثمة ضغوط شديدة على شبكة الأمان الاجتماعي، حيث تنتهي إعانات البطالة الخاصة بنحو 2.7 مليون عاطل قبل نهاية أبريل (نيسان) المقبل، ما لم يوافق الكونغرس على مقترح قدمته إدارة أوباما لمد تقديم هذه المدفوعات، وذلك حسب ما تشير إليه وزارة العمل.

وتعيش جين إيسن، في جنوب كاليفورنيا، من دون عمل بعد أن فقدت عملها قبل أكثر من عامين، الذي كانت تبيع من خلاله أجهزة صالونات التجميل. وخلال هذه الأشهر، عاشت من دون إعانات البطالة وبلا راتب، واعتمدت فقط على بنوك طعام محلية. وقد تعودت على العيش من دون أدوية يفترض أن تأخذها بسبب ضغط دمها المرتفع والكوليسترول. ومالت أخيرا إلى التدين، وكان ذلك تحولا كبيرا غير متوقع من استعراضية كوميدية شاركت في أعمال تحتوي على أفكار جنسية، ووجدت في الدين الشكل الوحيد للتأمين الصحي.

وتقول إيسن، التي تبلغ من العمر 57 عاما: «أصلي من أجل العافية». وتضيف: «عندما لا يمتلك المرء شيئا، عليه الذهاب إلى ما يعرف».

وبعد أن عملت إيسن، وهي إنسانة ودودة تميل إلى التعامل بإيجابية، لفترات طويلة من حياتها، أصبحت حاليا من بين 6.3 مليون أميركي أمسوا من دون عمل منذ ستة أشهر أو يزيد، ويعد ذلك أكبر رقم منذ أن بدأت الحكومة إحصاء بيانات البطالة عام 1948. وتعد هذه الأرقام أكثر بمقدار الضعف بالمقارنة مع المعدلات التي سجلت في ثاني أسوأ فترة في مطلع الثمانينات.

وقد كانت النسبة الأكبر من فقدان الوظائف خلال الركود الحالي من نصيب الرجال، ولكن، كانت إيسن داخل شريحة النساء، اللاتي تتراوح أعمارهن بين 45 عاما و64 عاما، والتي تشهد زيادة متسارعة في معدل البطالة على المدى الطويل.

وفي عام 1983، وبعد ركود اقتصادي شديد، كانت النساء في هذه الشريحة يمثلن 7 في المائة فقط ممن أصبحوا بلا عمل لمدة ستة أشهر أو أكثر، حسب ما ذكرته وزارة العمل. ولكن في العام الماضي، كانت نسبة النساء تبلغ 14 في المائة.

وقد استنفدت إيسن إعانة البطالة الخاصة بها مرتين قبل أن يتم تمديدها. وفي الأسبوع الماضي، استنفدت الإعانة مجددا، وفي الوقت الحالي تسدد مع زوجها الفواتير الخاصة بهما من خلال 1595 دولارا يحصل عليها الزوج شهريا كإعانة بسبب إعاقته. ويبلغ إيجار الشقة التي يعيشان فيها 1380 دولارا. وتقول الزوجة: «نفكر في احتمالية أن نصبح بلا مأوى، وقد أصبح ذلك قائما بدرجة كبيرة».

وخلال كل فترة تشهد فيها البلاد ركودا اقتصاديا، يخرج بعض المواطنين من عداد الطبقة الوسطى قبل أن يستأنف الاقتصاد توسعه مجددا. وبعد ذلك يتعافى معظمهم، ويزداد الكثيرون رخاء. ولكن يخشى بعض الاقتصاديين من أن تكون هذه المرة مختلفة. فقد تجعل مجموعة غير مألوفة من العوامل من الصعب لمن لا عمل لهم العودة إلى الطبقة الوسطى.

ويقول خبراء في شؤون العمال إن الاقتصاد في حاجة إلى 100 ألف وظيفة جديدة شهريا لاستيعاب العناصر الجديدة في القوى العاملة. وعلى ضوء أكثر من 15 مليون شخص يعانون من البطالة، حسب ما تفيد به الإحصاءات الرسمية، ربما يبقى عدد كبير من دون عمل لأعوام حتى لو حدث انتعاش اقتصادي قوي.

ويشير خبراء في سوق العمل إلى أن التراجع الاقتصادي الشديد يتبعه عادة توسعات قوية، ويشيرون إلى احتمالية استئناف عمليات التوظيف بدرجة كبيرة قريبا. ولكن، تبقى شكوك بشأن بقاء عمليات التوظيف لمدة طويلة بصورة تكفي لامتصاص الملايين من العاطلين.

ويقول بعض الخبراء في سوق العمل إن الوظيفة الأساسية للاقتصاد الأميركي تغيرت بصورة تجعل الوظائف نادرة، ولا سيما بالنسبة للمواطنين المتقدمين نسبيا في السن والحاصلين على مقدار أقل من التعليم مثل إيسن، الحاصلة على الشهادة الثانوية.

ويوما بعد آخر، يستحوذ على الشركات الكبرى مستثمرون يسعون إلى تحقيق أرباح سريعة غالبا من خلال تقليل الرواتب التي تدفع للموظفين. ومع ضعف متزايد للاتحادات العمالية، أصبح من السهل على أصحاب العمل تحويل العقود إلى عقود مؤقتة أو جعل الموظفين يعملون لفترة خلال اليوم. وتحولت الأعمال الصناعية وبعض الأعمال الحرفية خلال الأعوام الأخيرة إلى دول بها عمالة أرخص داخل آسيا وأميركا اللاتينية. وساعد نظام الأتمتة قطاع التصنيع على إلغاء 5.6 مليون وظيفة منذ عام 2000 بعد أن كان هذا النوع من الوظائف يوفر للعمال ذوي المهارات الحرفية القليلة رواتب الطبقة الوسطى.

ويقول ألين سايناي: «يرتبط النشاط التجاري داخل أميركا بتعظيم قيمة حامل الأسهم. ولا يريد أحد العمال، بل يحرص الجميع على توظيف عدد أقل».

وخلال فترات التوسع الاقتصادي الأميركي في الخمسينات والستينات والسبعينات، ازداد عدد الوظائف داخل القطاع الخاص بنسبة 3.5 في المائة سنويا، حسب ما ورد في تحليل لبيانات وزارة العمل أجراه لكشمان أكوثان، المدير الإداري في «معهد أبحاث الدورة الاقتصادي»، وهو عبارة عن شركة بحثية. وخلال التوسعات في الثمانينات والتسعينات، ارتفعت الوظائف بنسبة 2.4 في المائة سنويا فقط. وخلال العقد الأخير، انخفض نمو الوظائف بنسبة 0.9 سنويا. ويقول أكوثان: «كانت وتيرة خلق الوظائف تقل مع كل عملية توسع، ولا يوجد ما يدلل على أن ذلك سوف يتغير».

ويشير تحليل لبيانات وزارة العمل أجراه «مشروع قانون العمل الوطني» و«معهد سياسات الاقتصاد»، وهي مؤسسة بحثية داخل واشنطن، إلى أنه قبل عام 1990 استغرق الاقتصاد 21 شهرا في المتوسط كي يستعيد الوظائف التي فقدت خلال الركود الاقتصادي.

وبعد الركود الاقتصادي في 1990 و2001، مضى 31 و46 شهرا قبل أن تعود معدلات التوظيف إلى مستوياتها السابقة. وكان الاقتصاد يشهد نموا، ومع ذلك بقيت الشركات متحفظة في عمليات التوظيف.

وتقول بيانات وزارة العمل إن نحو 34 مليون مواطن تم توظيفهم في وظائف قائمة وجديدة داخل القطاع الخاص عام 2000، في نهاية عملية التوسع. وبعد ذلك بعام، وفي غمار ركود اقتصادي، قلت عدد عمليات التوظيف إلى 31.6 مليون وظيفة. وفي عام 2003، ومع نمو الاقتصاد مجددا استمرت الوظائف داخل القطاع الخاص في تراجعها إلى 29.8 مليون وظيفة.

وكان ذلك تعافيا من دون وظائف، حيث كانت المشروعات تتحسن ولكن لم يترجم ذلك إلى المزيد من العمل. ويقول اقتصاديون إنه في هذه المرة ربما يقل معدل التوظيف بصورة خاصة.

وبصورة تقليدية، كانت هناك ثلاثة قطاعات تساعد على الخروج من الركود الاقتصادي، وهذه القطاعات هي السيارات وبناء المنازل والقطاع المصرفي. ولكن تشهد شركات السيارات تراجعا بسبب القوة الشرائية الأضعف للعائلات. وهناك قيود على عمليات بناء المنازل بسبب مخاوف مرتبطة بكمية كبيرة من العقارات التي تم نزع ملكيتها. ويشهد القطاع المصرفي توسعا، ولكن يبدو أن ذلك بسبب دعم حكومي سوف يتم سحبه.

وفي الوقت نفسه، أدت الأزمة المالية إلى تقليل تدفق المال إلى الشركات الصغرى والجديدة، التي كانت تمثل مصدرا مهما للوظائف الجديدة.

ويوضح ذلك كله سبب شعور إيسن، التي لم تعان من قبل في سعيها للبحث عن وظائف، بنوع من الألم أصبح مألوفا في كل مرة تنظر فيها إلى قوائم الوظائف على جهاز الكومبيوتر الخاص بها. وتوجد أماكن شاغرة في قطاع الرعاية الصحية، ولكن معظم هذه الأماكن تحتاج إلى خبرة ليست لديها. وتشترط الوظائف المكتبية القدرة على استخدام برامج لم تستخدمها من قبل. كما أن الوظائف في المطاعم تكون في الأغلب من نصيب الشباب والمهاجرين.

وكما يتوقع سايناي، فإنه إذا شهد الاقتصاد توسعا من دون إضافة المزيد من الوظائف فإن الملايين من المواطنين مثل إيسن سوف يعتمدون على إعانات البطالة التي توجد عليها ضغوط شديدة.

ويقول موريس إمسليم، مدير السياسات في «مشروع قانون العمل الوطني»: «لم يكن هذا النظام معدا بصورة جيدة للتعامل مع بطالة على المدى الطويل. ويفاقم من الأمر حاليا ركود اقتصادي شديد».

ويقول بعض الخبراء إن شبكة الأمان الاجتماعي الأوسع لا تتعلق بتلطيف أثر الركود الاقتصادي الذي يعد الأسوأ منذ الكساد الكبير. كما أن الخدمات الاجتماعية أقل توسعا بالمقارنة بما كان عليه الحال خلال آخر فترة تبلغ فيها البطالة نسبة من رقمين في مطلع الثمانينات.

وفي المتوسط، حصل ثلثا المواطنين العاطلين عن العمل على إعانات بطالة حكومية خلال العام الماضي، حسبما تفيد به وزارة العمل. والآخرون ما بين أفراد استنفدوا الإعانات المستحقة أو لم تتحقق فيهم الشروط أو لم يقدموا طلبات للحصول عليها.

وتقول راندي ألبيلدا، الاقتصادية في جامعة ماساتشوستس داخل بوسطن: «يوجد عدد كبير للغاية من المواطنين ليست لديهم حماية اجتماعية. ونجدهم يدخلون إلى هذا العالم السفلي».

وعندما قدمت إيسن وزوجها، جيف، طلبا للحصول على بطاقات تموينية، رُفض هذا الطلب لأنهما يحصلان على دخل شهري كبير. وكان المبلغ الذي يسمح بالحصول على هذه البطاقات 1570 دولار شهريا، أي أقل بمقدار 25 دولارا مما يحصل عليه زوجها كإعانة إعاقة.

وفرضت تعديلات أجريت في منتصف التسعينات قيودا زمنية على الإعانات النقدية التي تُقدم للأمهات الفقيرات اللاتي يعشن وحدهن، وكان هذا التعديل على أساس أن النساء سيفضلن الإعانات على العمل.

ولكن، مع صعوبة الحصول على وظائف، أصبح من الصعب أيضا الحصول على إعانات. وفي عام 2006 قامت 44 ولاية بمنع أي شخص له دخل أسري يبلغ 75 في المائة من مستوى الفقر، والذي حدد في ذلك الوقت بـ1383 دولارا في الشهر للعائلة المكونة من ثلاثة أفراد، وذلك وفقا لتحليل أجرته ألبيلدا.

ويقول تيموثي سميدنغ، مدير «معهد أبحاث الفقر» في جامعة ويسكنسن بماديسون: «سوف يعثر الأشخاص الذين لديهم مستوى تعليمي ومهارات أفضل على شيء بمجرد أن يتعافى الاقتصاد. ولكن من لديهم مستوى تعليمي ومهارات أقل سيكونون من بين الفقراء الجدد». وداخل مقاطعة أورانج، نالت البطالة على المدى الطويل ممن كانوا من قبل يحصلون على رواتب تبلغ مئات الآلاف. وشهدت هذه المنطقة ازدهارا إبان فورة العقارات وعانت خلال الأزمة، حيث تقع في مركز قطاع العقارات على مستوى البلاد.

وقبل تسريحها من العمل قبل عامين، كانت جينين بوث (41 عاما) تُحضر إلى المنزل تقريبا 10 آلاف دولار شهريا كعمولات حصلت عليها من وظيفتها في بيع الأدوات الإليكترونية إلى تجار التجزئة. وكانت بوث، وهي أم تعول ثلاثة أطفال، تعيش أخيرا على 2000 دولار شهريا دعم إعالة أطفال و450 دولارا أسبوعيا إعانة بطالة، ولكنها استنفدت هذه المدفوعات الأسبوع الماضي. وتعمل بوث منذ أن بلغت سن المراهقة، حيث كانت تنظف المنازل تحت ضغط من والدتها لتوفير مصروفها. وتقوم حاليا بوث بدفع رهن عقاري 1500 دولار شهريا بمساعدة أمها التي تعيش على مدخرات لها بعد تسريحها من العمل. وتقول بوث: «لا أريد أن أحصل على أموال منها، بل أبحث عن عمل». وتحتوي السيرة الذاتية لبوث على وظائف كانت تحصل خلالها على مرتبات كبيرة، مما يصعب عليها الحصول على عمل. ولم يسفر عامان من البحث عن شيء سوى الشعور بالقلق.

* خدمة «نيويورك تايمز»