حصن جديد.. أم سفارة في لندن؟

دراسة حول كيفية استخدام المعمار كشكل من أشكال التمويه

تصميم السفارة الأميركية الجديدة في لندن («الشرق الأوسط»)
TT

لم يكن إعلان وزارة الخارجية، يوم الثلاثاء، عن اختيارها تصميما جديدا قدمته شركة «كيران تيمبرليك»، التي يقع مقرها في فيلادلفيا، لسفارتها الجديدة في لندن موضع ترحيب كبير، حيث إن التصميم المقترح للمبنى لا يمكن أن يعد قبيحا إذا ما نظرنا إلى مباني السفارات الأميركية الأخرى، ولكنه يبدو كأحد المباني الإدارية، حتى إنه يجعلك تتساءل إذا ما كان المهندس المعماري قد أخطأ في فهم انتقادات الناقد المعماري الشهير، رينير بانهام، لمبنى السفارة السابق في عام 1960، عندما وصفه بأنه كبير الحجم وغير منمق، واعتبره هدفا يجب السعي إلى تحقيقه.

على أي حال، فإن المشروع برمته يعد دراسة رائعة حول كيفية استخدام المعمار كشكل من أشكال التمويه. حيث تم وضع المبنى كجزء من نموذج معقد يحتوي على مرجتين صغيرتين وبحيرة صناعية صغيرة، تماثل علاقته بالتحصين الدفاعي علاقته بالسكينة والهدوء تماما، وهو ما يعكس التوتر الدائم الذي تتضمنه محاولة تصميم رمز للقيم الأميركية، في الوقت الذي تدرك فيه أنه ربما يصبح هدفا لعمليات إرهابية قادمة.

وفي الحقيقة، فإنه من الصعب أن تفكر في مشروع يعكس الصراع الذي تخوضه الدولة حاليا لترويج صورة مرحة وديمقراطية لها، في الوقت الذي ترزح فيه تحت وطأة التهديد الإرهابي الدائم.

فقد تم اختيار ذلك التصميم بعد عام كامل من المسابقات التي أعقبت قرار الوزارة باختيار موقع جديد للسفارة، بعيدا عن موقعها الحالي في وسط لندن، حيث اختارت منطقة صناعية منعزلة تقع جنوب نهر التيمس، وهو المشروع الذي من المتوقع أن تبلغ تكلفته مليار دولار.

وما زال النقاد ينظرون بتشكك إلى مبنى السفارة الحالية، وهو المعلم المعاصر الذي صممه إيرو سارنين، والذي يحتل الجهة الغربية بأسرها من ميدان غروفينور، حيث تنتصب واجهة المبنى الرئيسية، على أنه تكوين معقد من أطر النوافذ المصنوعة من حجر الكلس، من دون انسجام، إلى جانب فيلات «التاون هاوس» ذات الطراز الجورجي، التي تحيط بالحديقة من الشمال والجنوب، بالإضافة إلى نسر ذهبي عند المدخل الرئيسي.

ومن جهة أخرى، كان مبنى السفارة القديم يعد إحدى المحاولات لترويج صورة ثقافية تقدمية في الخارج، في ذروة الحرب الباردة. ويؤدي أحد المداخل من الشارع مباشرة إلى درج السلم العريض، الذي يؤدي إلى المكتبة العامة ومعرض الفنون، الذي يعرض أعمال الفنانين الأميركيين فيما بعد الحرب، مثل جاكسون بولوك، ولي كراسنر، وهيلين فرانكنتهيلر، وفيليب غستون، (يذكر الموظفون القدامى بالسفارة أن الأمن كان متساهلا للغاية في البداية، حتى أنه لم يكن هناك سوى حارس واحد يقف أمام الباب مستندا على عصا).

وكان استغلال الهندسة والفن المعماريين كأدوات لبروباغندا الحرب الباردة، قد بدأ يتضاءل بالفعل في نهاية السبعينات، عندما فرض نقص المساحة على المسؤولين بالسفارة أن يغلقوا المعرض وينقلوا المكتبة إلى قاعة انتظار المتقدمين بطلب للحصول على تأشيرة دخول، ولكنها أصبحت مهجورة تماما في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول).

وتم نصب بوابة معدنية أمام الدرج الرئيسي، كما تمت إضافة مقصورتين صغيرتين – ذواتي طراز معماري معاصر، يبدو وكأنه تم تصميمه لملاءمة التصميم الأصلي للمصمم سارينين - بالخارج لمراقبة الزوار. ومع ذلك، تفتقر السفارة للعناصر الأمنية الحديثة، التي يجب أن تشتمل، ضمن عدة أشياء أخرى، على وجود مساحة خالية تبلغ 30 مترا حول السفارة. كما أثارت متاهة الأعمدة والبوابات التي تم وضعها خلال العقد الماضي انزعاج أهل لندن، الذين يرى عدد كثير منهم أنه يشوه أحد أجمل أحياء المدينة وأكثرها رقيا.

ويحل موقع السفارة الجديد كثيرا من تلك المشكلات، بينما يبرز غيرها، حيث سيتم نقل السفارة إلى أرض تبلغ مساحتها 4.8 آكر، في المسافة الواقعة بين محطة فوكسهول ومحطة طاقة باترسي المعزولة، وهو ما سوف يعد انتقالا مريحا بعيدا عن مركز المدينة التاريخي المزدحم، ففي جميع الأوقات، لا يوجد سوى عدد قليل من المشاة الذين يمرون في ذلك الطريق. كما يوجد مستودعان وشركة لبيع السيارات، ويقع خلفه مركز لفرز البريد.

وكانت المدينة قد طوقت تلك المنطقة بغرض إجراء عمليات تطوير لأغراض تجارية وعقارية، ولكن لا أحد يستطيع تخمين المدة التي يمكن أن تستغرقها عمليات التطوير تلك. ويمكن أن تنظر إلى المبنى الذي صممته شركة «كيران تيمبرليك»، باعتباره يشبه مبنى سارنين. فعلى غرار التصميم السابق، يتكون من صندوق مغطى بطبقة خارجية متناغمة إلى حد بعيد مع الأفكار السائدة حاليا، التي تسعى للحفاظ على البيئة. وينظر إلى المكعب الزجاجي بالكامل، الذي يستقر على قاعدة ذات صف من الأعمدة، على أنه مجمع شمسي عالي المستوى، حيث إن جميع الجوانب الأربعة مغطاة بطبقة ثانية من منصات الإيثيلين (التترافلورو إيثيلين)، وهي مادة بلاستيكية عالية التقنية. وفي الواجهات الجنوبية والشرقية والغربية، التي يصل إليها أغلب ضوء الشمس المباشر، نجد أن المنصات مغطاة بخلايا ضوئية، ويدعمها إطار خفيف. وعلى الواجهة الشمالية طبقة بسيطة مصممة لتغير اتجاه الحرارة من الداخل. ويحتوي محيط المبنى على كثير من التفاصيل، تصل إلى المدينة المحيطة. وتقترب بركة نصف دائرية من المبنى في أحد الجوانب، بينما تحيط المروج المدرجة بالجانب الآخر. وتمر ممرات عبر المروج تربط الموقع بمتنزه عام مقترح (جزء من خطط المدينة للمنطقة التنموية).

وتمتد حديقة ضيقة بين البركة وطريق نين إلمز نين، وهو الطريق الرئيسي من محطة مترو الأنفاق فوكسهول. ويستمر المشهد وصولا إلى المبنى، حيث توجد سلسلة من الشرفات منحوتة في الواجهة.

وتسهم المساحة الخضراء الكبيرة في الصورة الصديقة للبيئة التي يبعثها التصميم. وتمتد مسارات حلزونية عبر الحديقة. وينظر إلى ساحة الدخول الرئيسية للمبنى، التي تمتد بطول حافة البركة، على أنها منطقة عامة. ومع ذلك، نجد أن الوظيفة الحقيقية لهذه العناصر، أنها حواجز أمنية مموهة، فالبركة الشمالية عبارة عن حمام سباحة، وفي الوقت نفسه هي بمثابة خندق للقلعة. وفي الجنوب، يحدد حائط خرساني الحافة الخارجية للمرج المنخفض، الذي يمكن للحراس القيام بدوريات داخله. وفوقه، يمكن أن يستخدم المرج المرتفع، الذي يحيط به حاجز آخر، لاستضافة فعاليات السفارة العرضية، أما غير ذلك فلن يكون مسموحا به للعامة. وللوصول إلى الساحة الرئيسية، سيكون على الزائرين المرور أولا من خلال مساحة مغطاة، بها إجراءات أمنية عالية المستوى، كما هو الحال، إلى حد كبير، عندما يدخلون السفارة الحالية.

والمحصلة، هي براعة معمارية، ويحتمل أن يكون التأثير مقلقا بصورة غريبة، فمجموعة من المناطق العامة المنظورة لن يستطيع الجمهور الوصول إليها. وربما توصل رسالة مختلطة أكثر مما يقصد المعماريون وعملاؤهم.

* خدمة «نيويورك تايمز»