بريطانيا ترزح تحت جبل من الديون ومخاوف من تكرار «السيناريو اليوناني» معها

العجز المتنامي في ميزانيتها يثير الفزع

المخاوف الاقتصادية وحتى السياسية في بريطانيا أدت لانخفاض الجنيه الإسترليني مقابل الدولار الأميركي إلى أدنى مستوياته فيما يقرب من عشرة أشهر («الشرق الأوسط»)
TT

في الوقت الذي ضربت فيه مشكلات الدين في اليونان اليورو، بذلت بريطانيا قصارى جهدها لتظل بعيدا عن الأزمة.

وحتى الآن، هذا هو الحال. وعلى نحو مفاجئ، شرع المستثمرون في التساؤل حول ما إذا كان من الممكن أن تواجه بريطانيا في المستقبل القريب أزمة ديون سيادية إذا أخفقت الحكومة في خفض العجز المتنامي في ميزانيتها بالسرعة الكافية لتتجنب المخاوف المنتشرة للأسواق المالية.

انخفض الجنيه الإسترليني مقابل الدولار الأميركي إلى أدنى مستوياته فيما يقرب من عشرة أشهر ليصل إلى 1.4954 يوم الثلاثاء. وتراجع العائد على السندات الحكومية التي تبلغ مدتها عشر سنوات، والتي تعرف باسم السندات الممتازة، في الوقت الذي شعر فيه المستثمرون بالقلق من أن البرلمان سيكون مفككا للغاية عقب الانتخابات الحاسمة التي تعقد في شهر مايو (أيار) المقبل، لذا فلن يكون قادرا على تحسين الأوضاع المالية التي تعاني من الفوضى. وجاء هذا التراجع في قيمة الجنيه الإسترليني عقب انخفاض أكثر حدة يوم الاثنين بعدما أشارت استطلاعات الرأي التي أُجريت نهاية الأسبوع إلى أن المحافظين المعارضين فقدوا تفوقهم الواضح في السباق الانتخابي.

ومن دون أغلبية سياسية قوية لمعالجة المشكلات المالية المتثاقلة في بريطانيا، يستطيع المستثمرون البدء في أن يجعلوا الأمر أكثر تكلفة إلى حد كبير بالنسبة للحكومة لجمع الأموال، مما يهيئ الساحة لاحتمالية وقوع الكساد الذي يأتي بعد فترة قصيرة من الانتعاش، أو ربما ما هو أسوأ من ذلك.

وقال مارك شوفيلد، الخبير الاستراتيجي في الدخل الثابت في «سيتي غروب»: «إذا كنت حقا تريد رؤية مشكلة مالية، فانظر إلى المملكة المتحدة. ففي أوروبا، يبلغ متوسط العجز نحو 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفي المملكة المتحدة يبلغ هذا المتوسط 12 في المائة. وما هذا إلا مجرد بداية».

ومنذ التدخل المالي المكثف الذي قامت به حكومة حزب العمل عامي 2008 و2009، ارتفعت العائدات على دين الحكومة البريطانية لتصبح من بين أعلى العائدات في أوروبا. وعلى نطاق أوسع يشمل اقتراض الأسر والشركات، فإن المستوى الكلي للدين في بريطانيا هو ثاني أكبر مستوى في العالم بعد اليابان، حيث يشكل 380 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد، وفقا لتقرير صدر مؤخرا عن «شركة ماكينزي للاستشارات».

وفي الأسابيع الأخيرة، كان التركيز منصبا على الدول المعتادة على خرق القوانين في أوروبا مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا، وهي الدول التي ارتفعت تكلفة الاقتراض بها في ظل العجز المتنامي حيث طالب المستثمرون بأسعار أعلى لتعويضهم عن المخاطرة المضافة لإقراض الحكومات.

لكن الهبوط الأخير في قيمة الجنيه الإسترليني مقابل الدولار إلى أقل من 1.50 دولار والتحرك التدريجي التصاعدي لسعر الاقتراض الأساسي لمدة 10 سنوات على السندات الممتازة إلى أعلى من 4 في المائة يشير إلى أن المستثمرين يستعدون في الوقت الحالي لإعادة تقييم الوضع المالي في البلاد.

بريطانيا ليست في منطقة اليورو، التي تضم 16 دولة، وعلى العكس من اليونان والدول المتعثرة التي تستخدم هذه العملة، فهي تحافظ على السيطرة على سياستها النقدية. ونتيجة لذلك، استفادت بريطانيا حتى الآن من البرنامج الضخم لشراء السندات، الذي قام به بنك إنجلترا، وهو نسبيا أكبر بنك في العالم، وهو ما حافظ على أسعار قروض الرهن العقاري والعائدات على السندات الممتازة في مستويات منخفضة استثنائية.

ويعني ذلك أن الحكومة ومواطنيها كانوا قادرين على مواصلة الاقتراض بأسعار فائدة لا تعكس وضعهم المالي الحقيقي.

وفي الواقع، هناك تناقض حاد بين الزيادة في الدين الخاص والحكومي في بريطانيا وعمليات تسديد الديون التي كانت تجري في الولايات المتحدة. وتشكل ديون الأسر في بريطانيا الآن 170 في المائة من الدخل السنوي الإجمالي، بالمقارنة بنحو 130 في المائة في الولايات المتحدة. وفي صدى لاندفاع الولايات المتحدة إلى قروض الرهن العقاري ذات التصنيف الائتماني المنخفض وبأسعار فائدة منخفضة لاجتذاب العملاء، تكالب الملايين من مالكي المنازل في بريطانيا على قروض الرهن العقاري ذات أسعار الفائدة المتغيرة المرتبطة بالسعر الأساسي الأدنى.

أما بالنسبة للحكومة البريطانية، فقد كانت قادرة على تمويل عجز في الميزانية يبلغ 12.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي - وهو ما يساوي عجز الميزانية في اليونان - بسعر فائدة ينخفض أكثر من نقطتين مئويتين كاملتين، وذلك لأن بنك إنجلترا اشترى غالبية السندات التي أصدرها العام الماضي.

وقال سيمون وايت من مركز أبحاث «فاريانت بيرسيبشن» في لندن، الذي يدور نشاطه حول صناديق التحوط والأثرياء: «إنها ليست فقط حالة شلل تام مثل اليونان التي من الممكن أن يُنظر إليها على أنها من المرشحين لأن تعاني من أزمات سيادية. ستستمر السندات الممتازة والجنيه الإسترليني في المعاناة من الضغوط في الوقت الذي تتسلط مزيد من الأضواء على الوضع المالي في المملكة المتحدة».

ويضاف إلى هذا القلق الحالة غير المستقرة للمستهلك البريطاني. ففي الوقت الذي تدنت فيه أسعار الفائدة إلى مستويات جديدة، تنامت شعبية القروض ذات أسعار الفائدة المتغيرة. وفي نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كان 40 في المائة من قروض الرهن العقاري الجديدة تتبع السعر الأساسي للحكومة.

وعلى الرغم من التعليقات التي أدلى بها محافظ بنك إنجلترا ميرفين كينغ بأنه قد يعيد بدء برنامج التسهيل الكمي في ظل الضعف الاقتصادي الحالي، والرأي الذي يسود بين المستثمرين هو أن أسعار الفائدة في لندن سترتفع أكثر، مع ارتفاع معدلات التضخم والمخاطر المتزايدة في بريطانيا.

وكان أندرو هالدين، المدير التنفيذي للاستقرار المالي في بنك إنجلترا، قد حذر في خطاب ألقاه العام الحالي من أن بريطانيا عرضة لزيادة في سعر الفائدة، مشيرا إلى أن أي زيادة مقدارها نقطة مئوية ستتسبب في تضاعف تكاليف خدمة الدين نسبة للدخل، لتصل إلى 13 في المائة.

وقال نيك هوبكينسون من شركة «بروبرتي بورتفوليو ريسكيو» التي تقيم مالكي المنازل المثقلين بالديون: «إنها بمثابة قنبلة موقوتة. هناك ما يربو على 400 ألف شخص متخلفين عن تسديد ديونهم نظرا لأسعار قروض الرهن العقاري، التي تعد أرخص أسعار على الإطلاق. وعندما ترتفع الأسعار، فسيصبح على الكثير من الناس تسديد مبالغ طائلة».

ونتيجة لذلك، فإن الذين يعولون على المستهلك البريطاني لتولي دور قيادي في تحسن الوضع حال حدوث تباطؤ جراء تقلص في الاقتراض الحكومي، من الممكن أن يكونوا على وشك مواجهة صدمة. فعلى سبيل المثال، يبذل شريدان كينغ، مدير مبيعات، مجهودا كبيرا ليسدد ديونا غير متعلقة بقروض الرهن العقاري تصل إلى 32 ألف جنيه إسترليني (47075 دولارا). وبعيدا عن التفكير في أن يقوم بالتسوق، فإن الأولوية الأولى لديه هي تجنب الدائنين.

وعلى الرغم من أن قرض الرهن العقاري المتغير الخاص به الذي يبلغ 100 ألف جنيه إسترليني يحمل سعر فائدة منخفض للغاية، فإن تكاليف الفائدة تلتهم بالفعل جزءا ضخما من دخله، ويشعر بقلق عميق بشأن المستقبل.

وقال كينغ: «إذا ارتفعت الأسعار، فسيكون الوضع خطيرا للغاية بالنسبة لي. فقد يقودني الأمر إلى أن أشهر إفلاسي».

وفي الوقت الراهن، على الأقل، لا تواجه الحكومة البريطانية هذا التهديد.. فعلى الرغم من تجاوزاتها في الاقتراض والإنفاق، لا تزال بريطانيا تحافظ على تصنيف عال في الائتمان (AAA)، وهو تصنيف ممنوح للسندات من الدرجة الأولى، ومعظم ديونها طويلة الأجل. لكن في ظل وجود 29 في المائة من السندات يحملها الأجانب، فإن بريطانيا، شأنها شأن اليونان، لا تزال معرضة بدرجة كبيرة لتقلبات المستثمرين من الخارج. ومنذ بداية العام الحالي، انخفضت استحواذات الأجانب على السندات البريطانية من 35 في المائة، وهو الاتجاه الذي أعقب تراجع الجنيه وأسهم في الزيادة في العائدات على السندات الممتازة التي تبلغ مدتها عشر سنوات.

وبسؤاله عن الحزب السياسي الذي يعتقد أنه الأفضل لمعالجة هذه التحديات، أعرب كينغ عن وجهة نظر متشككة. فقال: «إننا فقط نكافح للنجاح في إدارة كل هذا الدين. لقد حان الوقت للحكومة لتوفيق الأوضاع في الداخل».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»